حزيران June 2010

إذا أردنا أن نرسم خطاً بيانياً لحياة شعب إسرائيل كما وردت في العهد القديم، سوف نحصل على خط يرتفع تارة ليصل إلى القمة وآخر ينحدر إلى أحطّ درجات الحضيض. فنراهم مرة يعبدون الإله الذي أخرجهم من أرض العبودية، ومرة أخرى يعبدون الأوثان فيغضب عليهم الله ويسلمهم ليد أعدائهم. ومن بين المرات التي انحرف شعب الله عن عبادته إلى عبادة الأوثان هي المذكورة في الأصحاح العاشر من سفر القضاة «وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب، وعبدوا البعليم والعشتاروث وآلهة أرام وآلهة صيدون وآلهة موآب وآلهة بني عمون وآلهة الفلسطينيين، وتركوا الرب ولم يعبدوه.


 فحمي غضب الرب على إسرائيل وباعهم بيد الفلسطينيين وبيد بني عمون. فحطّموا ورضّضوا بني إسرائيل في تلك السنة. ثماني عشرة سنة».
وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب فأقام الرب يفتاح الجلعادي ليكون هو المخلص والمنقذ من يد الفلسطينيين وبني عمّون - وحقق يفتاح انتصاراً عظيماً إذ دفع الرب أعداءه ليده. وبعد تحقيق هذا الانتصار جاء بنو أفرايم قائلين ليفتاح: "لماذا عبرت لمحاربة بني عمون ولم تدعنا للذهاب معك؟ نحرق بيتك عليك بنار. فقال لهم يفتاح: «صاحب خصام شديد كنت أنا وشعبي مع بني عمون، وناديتكم فلم تخلصوني من يدهم. ولما رأيت أنكم لا تخلّصون، وضعت نفسي في يدي وعبرت إلى بني عمّون، فدفعهم الرب ليدي». والغريب في الأمر أن بني أفرايم قالوا هذا الكلام لجدعون كما نرى في الأصحاح الثامن... والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا قال بنو أفرايم هذا الكلام ليفتاح؟ الجواب: إنهم أرادوا أن يبرروا أنفسهم أمام يفتاح ويظهروا أنهم كانوا على أتمّ الاستعداد للمشاركة في الحرب، ولكن يفتاح لم يدْعهم. فالذنب إذاً ليس ذنبهم، ولكن الذنب هو ذنب يفتاح الذي لم يشركهم معه... وهذا بكل أسف هو موقف الكثيرين حتى يومنا هذا... وهذا يقودني للتحدث إليكم عن ثلاث كلمات:
أولاً: محاولات لتبرير الذات؛
       ثانياً: كشف الخفيات
        ثالثاً: عقاب لا بدّ آت

أولاً: محاولات لتبرير الذات

لقد اتّبعوا ثلاث محاولات:
1- إلقاء التبعية على الآخرين
في ذهاب بني أفرايم إلى يفتاح وقولهم له لماذا ذهبت لمحاربة بني عمون ولم تدعنا للذهاب معك، قصدوا أن يلقوا بالتهمة على يفتاح لأنه لم يدعهم للذهاب معه وهذه عادة الإنسان. ومنذ السقوط إلى يومنا هذا... فآدم ألقى الملامة والذنب على حواء، وحواء ألقت بالملامة على الحية... إن أغرب وأعجب من ألقى الملامة على  الآخرين هو هرون... فبعد أن صنع العجل الذهبي سأله موسى: ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطية عظيمة؟ ردّ عليه قائلاً: «أنت تعرف الشعب أنه في شرّ. فقالوا لي: اصنع لنا آلهة تسير أمامنا... فقلت لهم: من له ذهب فلينزعه ويعطني. فطرحته في النار فخرج هذا العجل».  ألقى الملامة على الشعب وهذا أمر لا يمكن أن يقبله عقل، وهو إلقاء اللوم على النار! والسؤال الذي نسأله لهرون: ألم تصهر «أنت» الذهب وتصبّه في قالب على هيئة عجل؟ ألم تستخدم أدوات يدوية لتزيل خشونته وتجعله ناعم الملمس؟
2- التظاهر بالدين
لماذا لم تدعنا للذهاب معك للحرب؟ بذلك أظهروا أنهم غيورون على الله وشعبه، وأنهم مستعدون للتضحية بنفوسهم... إن كثيرين يتظاهرون بالتديّن والتقوى وهم في الحقيقة ليس لهم إلا صورة التقوى... يرنمون مع المرنمين، وربما أصواتهم أكثر عذوبة من أصوات الآخرين... يصلون بأصوات جهورية متصنعين الروحانية. لهم باع واسع في خدمات المنبر... يحفظون نصوصاً من الكتاب المقدس عن ظهر قلب... يتبرعون بسخاء لعمل الرب، لكن ينطبق عليهم قول الرب يسوع: «يقترب إليّ هذا الشعب بفمه، ويكرمني بشفتيه، أما قلبه فمبتعد عني بعيداً وباطلاً يعبدونني». وأيضاً قول الرب: «لأنكم تشبهون قبوراً مبيّضة تظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة. هكذا أنتم أيضاً: من خارج تظهرون للناس أبراراً، ولكنكم من داخل مشحونون رياء وإثماً».
3- الكذب المبين
عندما قال بنو أفرايم ليفتاح: لماذا لم تدعنا للذهاب معك للحرب. قال لهم: ناديتكم فلم تخلّصوني من يدهم. وبذلك فضح يفتاح كذبهم. إن تبرير الذات عن طريق الكذب أمر متفشّ ومنتشر في كل العصور والأزمان، وقد ذُكر في العهدين القديم والجديد. جيحزي برر نفسه أمام أليشع بالكذب. فعندما سأله أليشع: من أين يا جيحزي؟ قال له: لم يذهب عبدك إلى هنا أو هناك. وحنانيا وسفيرة كذبا لتبرير نفسيهما أمام بطرس الرسول... البعض يلقبونه بالكذب الأبيض، بينما لا يوجد هناك «كذب أبيض» بل كل الكذب هو أسود! والكتاب المقدس يأمر بعدم الكذب فيقول في سفر اللاويين: لا تكذبوا! ويقول بولس الرسول: لا تكذبوا بعضكم على بعض. أخي، لا تنسَ أن السماء لا يدخلها كل من يحب أو يصنع كذباً.

ثانياً: كشف الخفايا

في رد يفتاح على بني أفرايم كشفهم على حقيقتهم إذ قال لهم: ناديتكم فلم تخلصوني... وأليشع أيضاً كشف الحقيقة لجيحزي بقوله: «ألم يذهب قلبي حين رجع الرجل من مركبته للقائك؟ أهو وقت لأخذ الفضة ولأخذ الثياب وزيتون وكروم وغنم وبقر وعبيد وجواري». وهنالك شيء جدير بالملاحظة: جيحزي أخذ فضة وثياباً فقط... فمن أين جاء أليشع بما ذكره عن الزيتون والكروم والغنم والبقر والعبيد والجواري... لا شك أن جيحزي  في أثناء حمل ما أخذه من نعمان إلى بيته، وفي أثناء رجوعه إلى مقر عمله كان يفكر في أنه سيصبح غنياً، وسيكون له عبيد وجواري. من هنا نرى أن الله لا يكشف خفيات الأقوال والأعمال فقط بل أيضاً الأفكار! وكشف بطرس خفيات حنانيا وسفيرة إذ قال لحنانيا: «لماذا ملأ الشيطان قلبك لتكذب على الروح القدس وتختلس من ثمن الحقل؟» وقال لسفيرة: «ما بالكما اتفقتما على تجربة روح الرب؟»
إن الله لا يخفى عليه شيء، «بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا».. فهو يرى في الظلمة كما في النور. فالظلمة لا تُظلم لديه ولا توجد أماكن مستترة عنه. «إذا اختبأ إنسان في أماكن مستترة أفما أراه أنا، يقول الرب؟». يطالعنا الوحي المقدس في الأصحاح الثاني من نبوة دانيآل أن نبوخذنصر رأى أحلاماً «فانزعجت روحه وطار عنه نومه. فأمر بأن يُستدعى المجوس والسحرة والعرافون والكلدانيون ليخبروا الملك بأحلامه. فأتوا ووقفوا أمام الملك. فقال لهم الملك: قد حلمت حلماً وانزعجت روحي لمعرفة الحلم». فقال هؤلاء للملك: «أخبر عبيدك بالحلم فنبيّن تعبيره. فأجاب الملك وقال للكلدانيين: قد خرج مني القول: إن لم تنبئوني بالحلم وبتعبيره، تصيَّرون إرباً إرباً وتُجعل بيوتكم مزبلة». وفعلاً خرج الأمر من الملك بإبادة كل حكماء بابل... «وكان الحكماء يُقتلون. فطلبوا دانيآل وأصحابه ليقتلوهم». فطلب دانيآل مقابلة الملك لطلب مهلة وتم ذلك. وفي الفترة التي أُعطيت لدانيآل، كشف الرب السر له، وأُدخل قدام الملك، وأخبره بالحلم وتعبيره، فاعترف الملك اعترافاً عظيماً قائلاً: «حقاً إن إلهكم إله الآلهة ورب الملوك وكاشف الأسرار».
إن أكبر عملية كشف للخبايا والأسرار هو يوم تُفتح الأسفار ويُدان كل واحد بما هو مكتوب في سفره... سوف يُعلن ذلك اليوم كل الأعمال والأقوال والأفكار... الأعمال التي عملها في جنح الظلام وتحت ستار الليل. والأقوال التي نطق بها ولم يسمعها أحد... والأفكار الشريرة التي كانت تملأ عقله.

ثالثاً: عقاب لا بدّ آت
عاقب يفتاح الجلعادي بني أفرايم بأن جمع كل رجال جلعاد وحارب أفرايم وانتصر عليهم انتصاراً عظيماً، فسقط منهم في ذلك الوقت اثنين وأربعين ألفاً. وما هذا العقاب إلا رمز للعقاب الذي سيقع على كل من لم يوجد اسمه مكتوباً في سفر الحياة.
1- عقاب حتمي
كان فكر بني أفرايم أنهم سيبرّرون أنفسهم أمام يفتاح وينتهي الأمر كما انتهى في المرة الأولى مع جدعون، ولم يكن في حسابهم أنهم سيُعاقبون.
ليعلم كل إنسان أن الخطية والعقاب مربوطان بخيط واحد.
عوقب عاخان على فعلته الشنيعة - عندما أخذ من الغنيمة رداء شنعارياً، ولساناً من الذهب، ومئتي شاقل من الفضة - بالموت رجماً هو وكل أفراد أسرته وممتلكاته.
البقية على صفحة 33
بقية مقال
"فشل المحاولات في تبرير الذات"
والغني الذي كان معاصراً للعازر عوقب بالعذاب الأبدي.
2- عقاب فجائي
فوجئ بنو أفرايم بالعقاب الذي لم يكونوا يتوقعونه... وفي الوقت الذي لا يكون فيه الإنسان متوقعاً أن يتمّ عقابه يفاجأ بالعقاب! «لأنه حينما يقولون: سلام وأمان، حينئذ يفاجئهم هلاك بغتة، كالمخاض للحبلى، فلا ينجون».
فوجئ الغني - الذي أخصبت كورته بينما كان يفكّر في هدم مخازنه القديمة وبناء أخرى جديدة أوسع منها - بالصوت الإلهي: يا غبيّ! هذه الليلة تُطلب نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمن تكون؟».
3- عقاب أبدي
يحدثنا الكتاب المقدس عن عقاب الأشرار الأبدي ليدحض عقيدة  حرق الأشرار وصيرورتهم رماداً.. ويدحض عقيدة أخرى وهي أن الأشرار سيعاقبون بالطرح في الجحيم لفترات محدودة بحسب الأعمال التي عملوها. تقول كلمة الرب: «فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي». «ويصعد دخان عذابهم إلى أبد الآبدين».
عزيزي القارئ، إن الله لا يُسرّ بموت الخاطئ ولكنه يسرّ برجوعه. فهل تقبل إليه واثقاً في قوة دمه فيجعلك فيه خليقة جديدة؟

المجموعة: 201006