تموز July 2010

توقّفتْ سيارةُ الشرطة على بابِ المحل، ونزلَ منها شرطيَّان وتوجَّها إلى داخلِ المحل الذي أملكُه لميكانيك السيارات الألمانية. وعندما اقتربوا سألوا عن بيتر Peter فقلت لهما: أنا بيتر. قالا: أنت موقوفٌ لأنَّك هاربٌ من القانون. وسرعانَ ما قيَّدا يديَّ الاثنتين بالقيود وتليَا عليّ مجموعةً من الجُمَل تتعلَّقُ بحقوقي كمواطن، ممَّا زادَني رُعباً وهَلعاً. وبَدَتْ معالمُ الخوف على وجهي، ورحتُ أرتجفُ من جرَّاء هذا الحدثِ الذي يَجري لي وعلى مرأىً من أصحابي والعمَّال الذين يعملون لديّ. وأحسستُ للوهلةِ الأولى وكأنَّني في حلمٍ لا بل في كابوسٍ ثقيل لا أستطيعُ النهوضَ منه. ولم تمضِ دقائق، حتى وجدتُ نفسي أنزلُ من سيارة الشرطة وأتوجَّه وأنا مقيَّدُ اليدين إلى داخلِ المخفر لكي يأخذوا إفادتي وصورتي وبَصَماتي.
 وأنا في غرفة الاستجواب بدأتُ أُدركُ عُظْمَ الخطأ الذي ارتكبْتُه في حقِّ فتاة مراهقة ظهرتْ أمامي فجأةً بينما كنتُ أقودُ السيارة في اليوم السابق. كانت تتزلَّج في وسط الشارع على Skate Board في غيرِ المكان المخصص للمشاة. عندها، ضغطت على (الفرامل) بسرعةٍ لكنَّني لم أستطعِ التوقّف، فصدمتُها. فطارت في الهواء وسقطت على الأرض مغشيّاًً عليها. ومن هول تلك الصدمة لم أعدْ أعرف ماذا أفعل. وعلى جناح السرعة تركتُ كلَّ شيء وهربتُ. نعم، هذه كانت غلطتي الكبرى أن أترك مكانَ الحادث وألوذَ بالفرار ظناً مني أنَّ الأمر سينتهي. والآن ها هم قد قبضوا عليَّ بعد أن عرفوا رقم السيارة التي كنت أقودها. فلقد ذهبوا لكي يلقوا القبض بادئ ذي بدء على صاحبها الذي هو زبون عندي، فأخبرهم أنَّ السيارة كانت بالفعل سيارته لكنَّها في التصليح، وأرشدهم إلى محلي. وهكذا (يا صاحبيَّ) ظللتُ قابعاً في السجن مدةَ شهرَيْن كاملين قبل أن يستطيع محاميَّ إخراجي من هناك. وقد تكلفت مبالغَ باهظة بلغتْ أكثر من مئةِ ألف دولار كان عليَّ أن أدفعَها حتى لا تبقى هذه الغلطةُ وصمةَ عارٍ وتُحسبُ لي جُنحةً في سجلّي الشخصي.
 ولكن، وعلى الرغم من أنني صرتُ حراً، ظللْتُ أشعر بأنَّني مقيَّد في الداخل، أسيرٌ لعاداتي وشهواتي. كنت ورفيقي نصاحب الفتيات ونخرج معهن لمجرد التسلية وقضاء الوقت مثلنا مثل أي شاب في هذا العالم. إلى أن أتى ذلكَ اليوم المشؤوم الذي تعرَّضتُ فيه أنا إلى حادثٍ مروِّع أقعدني طريح الفراش مدةَ أشهر ثلاثة اخترق فيها الألم حنايا نفسي الداخلية. وبينما أنا في مكان عملي ذات يوم، إذا بصاحبي من المحل الآخر للسيارات يأتي إليَّ ويطلب مساعدتي له في تصليح سيارة ألمانيةBMW عجِزَ هو ورفاقه عن التشخيص الصحيح للمشكلة فيها. وبينما كنت أقوم بمساعدتهم في تصليح إحدى القطع، حصل خطأ من قِبَلِ أحد الأفراد ممَّا أدى إلى انفجار فجائي. وعلى جناح السرعة اشتعلت النار وراحت تلتهم يديّ الاثنتين. وصرت أصرخ من وجعي وأنا أنظر إلى النار وهي تحرق جلدي حرقاً وتمتد إلى ساعديَّ. وبدأت أقفز من دون تفكير. وحين وصل المسعفون إلى المكان باشروا بصبِّ الماء المعدني على يدي الاثنتين اللتين صارتا مسلوختيَْن من الجلد. وكانوا إذا توقفوا لحيظة، أقوم أنا بالصراخ بملء صوتي. فالألم فظيع، وبدا ليَ الموتُ أخفَّ وطأةً من آلام الحريق في الجسم. وعندما وصلنا إلى المستشفى، قلت للأطباء:
 "أرجوكم اقطعوا يدي الاثنتين فأنا لم أعد أحتمل الوجع."
 لم أشعر بحياتي قط بوجعٍ كهذا. لكنَّ الأطباء هدَّأوا من روعي وقاموا بكل عناية بتضميد جروحي البليغة في كلا الساعدين. وبعد انقضاء فترة النقاهة، حان الوقت لكي يُجروا لي عمليةَ زرعٍ لجلدٍ أُخِذَ من فخذي ليغطِّي مكان الجلد المحروق. وهذه المرحلة كانت صعبةً للغاية إذ عانيت فيها الكثير. وخاصة يومَ فكِّ الضمادات. إذ وُضع ساعداي الاثنان في مغطسٍ من الماء الدافئ، وجاءت الممرضة كيما ترفعَ الضمادات الملتصقة بالجلد الجديد الذي طعِّمَتْ به يداي. وعلى الرغم من أنها حاولَتْ نزعها بتؤدة إلا أنني لم أحتمل ورحت أصرخ وأبكي من شدة الألم. وحين انتهت من الأمر كنت على وشك أن أفقد وعيي. وعندما عدت إلى بيتي مكثت فيه ثلاثة أشهر كيما أتعافى كلياً من هذا الحادث الأليم الذي لم يؤثر على جسدي فحسب بل على نفسي أيضاً. وصرت أتساءل - في كل يوم أقضيه في الفراش - عن الله وعن سبب سماحه لي باجتياز هذه المحنة الصعبة. وتزاحمت الأسئلة في رأسي ولم أجدْ لها جواباً. نعم، لم أكن أهتم بالله ولم أكن أعرف عنه شيئاً. أما الآن فإن أسئلة عديدة عنه تعالى أخذت تراود مخيلتي.
 وفي إحدى الأمسيات، أخذت جهاز التحكم بين يدي وشرعتُ أقلّبُ في محطات التلفزيون. فإذا بي أتوقَّف عند برنامجٍ ناطق باللغة الأرمنية. ومن حيث كوني أرمنياً مهاجراً من سوريا إلى أميركا، شدَّني البرنامج كما جذبني المتكلم جداً. وبينما أنا أسمع وأشاهد بشغفٍ وشوق كبيرَيْن، إذا بالقس ينطق بكلامٍ مسّني أنا في الصميم إذ قال: "أنتَ يا من تسمع وتشاهد، ربما تكونُ قد لُسعت يداك في النار، وتألّمتَ جداً من جرَّاء هذه الحروق. لكن اعلمْ أنَّه في يوم من الأيام سوف يُلقى جسدُك كلُّه في جهنم حيث النار لا تُطفأ. وهناك سوف تحرقك النار إلى أبد الآبدين، إن لم تندم الآن عن خطاياك وتتبْ وترجع إلى الله وتؤمن بشخص الفادي والمخلص الوحيد يسوع المسيح."
 وقفت مذهولاً أمام جهاز التلفزيون، وصرت أتساءل: مَن قال لهذا الرجل أنَّني محروق اليدين، وأنني متضايقٌ جداً أيضاً؟ مَن؟ كان يصف حالتي الداخلية بالضبط وكأنه سمع عني مسبقاً. لكن من أين؟ ومن قال له عني؟
 قمت للحال ودوّنتُ عنوان الكنيسة الظاهر على الشاشة، ولمَّا عرفت موقعها ذهبتُ يوم الأحد باكراً وحضرتُ الاجتماع. وهناك تعرَّفتُ على القس بيرج جامبزيانBerge Djambazian، صاحب البرنامج التلفزيوني في غلنديل، كاليفورنيا. وأخبرته بما حصل معي. فشرحَ لي بالتفصيل عن محبة الله لكل إنسان، وكيف أنَّ الله بيَّن محبته بواسطة شخص الفادي يسوع المسيح الذي أتى لكي يموت بديلاً عنه وينقذَه من النار الأبدية. عندها وقعتُ على الأرض وسجدتُ للرب وطلبت بدموعٍ أن يغفرَ لي خطاياي، ويمنحني حياةً جديدة. وبالفعل، لقد غيَّر الله حياتي وأراني طريقاً أفضل. ومنذ ذلك اليوم، وأنا أحضرُ الكنيسة، والاجتماعات، وقلبي مليءٌ بالفرح والسرور. نعم يا صاحبيَّ العزيزين (أدما وشكري) لقد غيَّر الله طريقي، كما غيّر اتجاهَ سيري. وليس هذا فحسب، بل بعد أن كانت حياتي ظلاماً دامساً، ليس فيه بريقُ أمل، وجدتُ النورَ في نهاية النفق المظلم. أجل، نور المسيح هو الذي سطع في قلبي وغيّر حياتي رأساً على عقب. ولا يسعني إلا أن أقول مع صاحب المزمور:
 "أَمَّا أَنَا فَكَادَتْ تَزِلُّ قَدَمَايَ. لَوْلاَ قَلِيلٌ لَزَلِقَتْ خَطَوَاتِي" (مزمور 2:73).
 بالحق لقد نشلني الله من الانزلاق وثبَّت خطواتي فعلاً. وأنا الآن أشكر الله لأنني أقوم بخدمته في الكنيسة، ولقد وهبني الله امرأة فاضلة وباركنا الرب بولدين هما ثمرةُ حبِّنا. يا لمعاملاتِ الله العجيبة مع الإنسان. لقد استخدم كلَّ ما مررتُ به من مشاكل في حياتي لكي يقرّبني إليه تعالى، ويجذبني إلى حظيرته. وما ظننتُه يوماً اختبارَ الموت في الحريق، صار لي اختبار الحياة ومعرفة الطريق الحق. وما قاله النبي داود في المزمور ينطبق عليّ تماماً:
 "فَهُنَاكَ أَيْضًا تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ" (مزمور 10:139).
 نعم، إن الله أمين وبار وهو صالح وإلى الأبد رحمته. فشكراً له على الدوام.
 
 ب. م. - كاليفورنيا

المجموعة: 201007