تشرين الأول Oct 2010


"والصديقون يفرحون، يبتهجون أمام الله ويطفرون فرحًا" (مزمور 68:3)

كبرياء الأرستقراطية

تظهر "الملكة" ميكال على شاشة صفحات الوحي في أحد أكثر المشاهد إثارةً وتكديرًا في آنٍ معًا، فمع أنّها كانت غارقة في بحبوحة العيش والرّفاهيّة المفرطة، وفي غمرة أعظم المناسبات المجيدة السّارّة، فقد أصرّت

على إشاعة النّكد والتَّعَاسَةِ وعلى قمع الفرحة القوميّة والأُسريّة! فنراها وقد أطلّت من شرفة القصر، فرأت ما رأت.. ثم ما لبثت أن خرجت لتكيل لزوجها، الملك داود، أعنف كلمات التّقريع والتّحقير، ذلك لأنه رقص بفرح وبكل قوّته أمام تابوت عهد الرب الذي جلبه لتوِّه إلى مدينته العظيمة ومعه جمهور شعبه الجزل.

لقد آثرت أن تتمسّك بكبرياء الأرستقراطية الفارغة، بما فيها من تبلُّد أحاسيس الروح وإسكات غناء القلب، عوضًا عن الانضمام إلى وليمة السّعادة هذه. ها كلامها الألسع من حمة العقارب: "... فخرجت ميكال بنت شاول لاستقبال داود، وقالت: ما كان أكرم ملك اسرائيل اليوم حيث تكشّف اليوم في أعين إماء عبيده كما يتكشّف أحد السفهاء!" (2صموئيل 6 :20). فأرستقراطيّة الرّوح - إن جاز تعبيرنا - هي تمامًا عكس تواضع القلب ومرح التقوى وصدق التعبير!

ضوابط الأتيكيت

يا لها من امرأة تعسة كئيبة؛ إنّها بروحها - ويا للأسف! - ابنة أبيها شاول المُتصلِّب، لا أخت أخيها يوناثان الكيِّس الورِع. لقد أرادت لداود أن يمسك نفسه عن حريّة الفرح بالرب، وبالأخص أمام النّاس، وأن يتقيّد ببروتوكول من عنديّاتها وبرسميّات منصبه الرّفيع؛ فإذا مشى وسط الشعب في الموكب الملكي، عليه أن يبقى منتصب القامة دون أيِّ انحناءة مهما كانت طفيفة، وليس بغير أن يكون على رأسه التّاج المرصّع بأغلى الحجارة الكريمة، وإن افترّت شفتاه عن ابتسامة ما، تريده أن لا يُوسِّعهما أكثر من ميلمترين، وإلاّ ستستشيط غضبًا عليه، وعند عودته إلى المنزل ستقيم الدنيا فوق رأسه، ولن تقعدها أبدًا! ومتى أدار رأسه أو تكلّم، فينبغي له أن يفعل ذلك بكل أنَفَة ووقار وعبوس وتقطيب! أرادت أن تجعل شريك حياتها يمشي على العجين، بموجب ضوابط أتيكيتها، دون أن يُخربطه - كما يقولون! ما أثقل سلاسل الأتيكيت التي يحاول أن يضعها النّكديون على روح المؤمن المرحة غير المتصنّعة؛ إنها قيود مرهقة أكثر من الحديد!

ثمّة أناس تعساء - ميكاليّات وميكاليّون - يعشقون التّعاسة ويستعذبون العذاب! ولا يريدون أن يبقوا لوحدهم في جب تعاستهم، ولكنهم يسعون أيضًا إلى جذب كل مَن على صلة بهم إلى ذلك الجب المُريع. فالميكاليّة هي طباع شخصيّة سيئة وأسلوب حياة تتّصف بالتّشاؤم والتّكدير والإغاظة؛ أمّا الدّاوديّة فهي روح مرِحة تقويّة شاكرة، تفضل العفويّة والتّفاعل التلقائي في المواقف المختلفة على التكلّف والمظهريّة التي لا ترمي إلاّ إلى إرضاء الناس والحفاظ على ماء الوجه أمامهم. فالدّاوديّون قادرون على التّعبير بلباقة عن عواطفهم في مختلف الظروف التي تواجههم، حتى لو لم يرق ذلك للنقّادين من الميكاليين؛ إنهم يرون الله حتى في مآسيهم ويسبحونه برغمها.

داود والاكتئاب!

وعلى كل حال، هوذا داود ينفصل عن النّاس، وينسحب من الحياة، ويكفّ عن العزف والكتابة وإدارة شئون المملكة. ذلك أنّ صدمته جاءت عنيفة للغاية، فميكال التي أحبها هو جدًّا، وهي بدورها كانت قد أُعجبت به ذات يوم، وشُدّت إليه بانجذاب عاطفيٍّ قوي، تقلب اليوم له ظهر المجن، لتكون له مصدر خيبة أمل حادّة وإحساسٍ شديد بالرّفض. وعلى أثر ذلك نراه وقد أصيب بحالة اكتئاب خطيرة، مع ما يرافقها من رثاء الذّات والميل إلى الانتحار والأفكار السّوداويّة، بالإضافة إلى الشعور بالاستياء والغضب والفراغ والمرارة. وإذ ساءت حاله، عرضَه مستشاروه وأهل بيته على أمهر الأخصائيين والأطباء النفسانيين الذين استغرقتهم معه جلسات طويلة من التحليل النفسي، لعلّهم يستخرجون من أعماق منجم ذاته ماسة الحل لمشكلة هذا الملك المكتئب! مستخدمين كذلك الأقراص والعقاقير المضادّة للاكتئاب...!

هل حقًّا هذا عين ما حدث لداود؟! على الإطلاق، كلاّ أبدًا. بل على عكس ذلك تمامًا.

فعلى الرغم ممّا جرى، يستمر داود في فرح تمتّعه بالحياة مع الرب، ليجد كفاية شِبع نفسه وارتواء قلبه من الينابيع العليا للمحبّة الأبديّة غير المتغيِّرة، مع أن مصائب هذا الرّجل وسقطاته كانت مهولة جدًّا. بينما تنزوي ميكال جانبًا لتجترّ مرارة أيّامها ومشاعر الاستياء في وحدتها وانطوائها الكئيبين، من دون أن تشترك مع زوجها في سروره العميق بمصادقة الرّب العظيم الذي أحبّه. ومن جرّاء موقفها الاحتقاري هذا من داود، بل بالأولى من رب داود، وعلاوةً على عقمها الرّوحي الملحوظ، أصابها أيضًا العقم النِّسائي، فلم تنجب أولادًا إلى يوم مماتها. لقد آثرت هامشيّة العيشة الخالية من اللّون والهدف والرّونق على مِلء الحياة الفيّاضة.

العذوبة والحلاوة

إنّ الحياة ليست بالسّهل "الممتنع" كما يخال البعض، ففيها تكثر المآسي وخيبات الأمل غير المتوقّعة، والعالم غارق في أحزان شروره، وإنّه لَكم يفتقر إلى السرور مع بشارة الإنجيل! لهذا، وعلى الرّغم من ذلك كلِّه، كم هو ملحٌّ أن نختار العذوبة والحلاوة، فلا نتبنّى قط أسلوب ميكال النّكدي المؤذي لئلاّ نزيد طين بلوانا بلوى ومِحن الآخرين بلّةً بانتقاداتنا اللاّذعة لهم والمتكرِّرة، بل نُلطِّف من حدّة مشقّات مَن يضعهم الله في سبيلنا إذ نسكب خمرًا وزيتَ نعمة على جراحاتهم، ونكون بلسانَ تَرفُّقٍ وشفاء لمعاناة نفوسهم.

ما أسعد مَن يُصادق شخصًا يتمتّع بروح المرح - دون الهزل - وبالقدرة على إطلاق ابتسامته حتى في أثناء اجتياز الضِّيق، أو حتّى حينما تسير الأمور لا كما تشتهي سفينة النّفس في البحار غير المستقرة لهذه الحياة! فالسّوداويّة هي اللاّسعادة وغياب الرّجاء، والتّشكِّي مجلبة للبؤس؛ أمّا مَن ارتبط بالمسيح الفادي الحي الممجّد، فله الأعظم من أسباب السّعادة والابتهاج:" فرَحًا أفرح بالرّب. تبتهج نفسي بإلهي، لأنه ألبسني ثياب الخلاص، كساني رداء البر..." (إشعياء61:10).
 

المجموعة: 201010