تشرين الثاني November 2010

يدعي الفيلسوف برجسن صاحب نظرية الحياة بلا أهداف ولا غايات، أن المادة أو الروح هي شيء متواصل الحدوث، يتكوّن وينحلّ بطرق ميكانيكية دون أن يستهدف الى شيء معين. إن هذه الفلسفة تلغي واقعية الغايات البعيدة التي يسعى إليها الإنسان، وتهدم كل مقصد أدبي أو عقلي، وتجعل الكفاح بلا معنى، والمثل العليا بلا قيمة، وأن العالم عشوائي بلا إله. تجاهل أمثاله أن الأهداف الجليلة أبدعت الكون، ونسقت نظامه، ونوّعت مواده، وجمّلت هيئته. كما أن الأهداف الأدبية والروحية أبرزت أنغام موزارت وهندل وبيتهوفن وهيدن،

وخلّدت روايات شكسبير ومزامير داود، وحكمة سليمان وسقراط وأفلاطون، ومجدت ولادة ابن البتول، وسجلت معجزات المسيح وكلماته وحياته وموته وقيامته ومجيئه الثاني. وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله. و الأهداف الحياتية الكبرى تنبع من الحاجات والواجبات والحقوق التي يواجهها المرء يوميًا في حياته.
 
 أولاً: الحاجة الى الإشباع
 
اعترف أغسطينوس في كتاب اعترافاته بعد أن فشل في إشباع حياته من منهل العالم قائلاً: ”حتى متى؟ غدًا. غدًا. لماذا لا تكون هذه الساعة نهاية ضلالي؟“. عندما سمع صوتًا داخليًا قويًا يناديه ويدفعه لقراءة القول: ”لِنَسْلُكْ بِلِيَاقَةٍ كَمَا فِي النَّهَارِ: لاَ بِالْبَطَرِ وَالسُّكْرِ، لاَ بِالْمَضَاجعِ وَالْعَهَرِ، لاَ بِالْخِصَامِ وَالْحَسَدِ. بَلِ الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيرًا لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ“ (رومية 13:13-14). وهنا أضاء نور اليقين في قلبه وهربت ظلال الشكوك. نعم! إن كلمة الله تكشفني فأكتشف أن محبة الله آنذاك تجدني وتداويني وتهدي خطواتي. إن الذئب بطبعه حيوان مفترس، وهكذا كل الذئاب؛ والخروف وديع، وهكذا كل الخراف؛ والحمام هادئ كباقي الحمام، لكن الجنس البشري ليس واحدًا في طباعه لأن للإنسان حرية الإرادة، والإرادة مفتاح الخلاص والنجاة الروحي.
 
 نصح الأطباء أحد الملوك القدماء الذين عجزوا عن وصف دواء لعلاج حزنه وضيق صدره أن يبحث عن رجل سعيد ويلبس قميصه، وبذلك تتم له السعادة. وبعد البحث وجد رجال المملكة رجلاً سعيدًا جالسًا في كوخه، فلما طلبوا منه قميصه ليلبسه الملك، قال لهم: إنني سعيد حقًا، ولكنني لا أملك من الدنيا قميصًا. اهتز العالم من حادث انتحار كروجر ملك الكبريت والمليونير الكبير إذ توالت عليه الخسائر فلم يطق صبرًا فانتحر. وماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه.
 
 ثانيًا: الحاجة الى الحرية
 
إن الإنسان الحر هو من يستطيع أن يتلفظ بكلمة "أنا". إنه يملك قوة التفكير، والتعليل، والاختيار، والتذوق، والوازع الداخلي، والدافع الخير، والوعي الديني، والروح الشفافة، والإحساس بالحق، والشعور، والجمال، والميل الى الخير، والحب، والإيمان. ولقد صرح أفلاطون أن أكثر أخطاء الأطباء أنهم يحاولون علاج الجسد دون العقل. في حين أن العقل والجسد وجهان لشيء واحد فلا ينبغي أن يعالَج أحد الوجهين على حدة. إذن لكي تتجنّب الاضطرابات العصبية والجسمانية عليك أن تُخضع جسدك لعقلك لأن توتر العواطف، والهمّ، والخوف، وتوقّع الهزيمة، واليأس، والخطية يقيد حرية الإنسان. قال ثيودور روزفلت رئيس الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية: ”إن ساكن البيت الأبيض لا يعيش كما يعيش سائر الناس. إنما يصبح مثل واجهة المعرض التي تتطلع اليها الأنظار من كل ناحية“. وقال الرئيس هاينز عند انتهاء مدة رئاسته: ”إن الهروب من حياة القيود الى الحياة الحرة، أمر يستوجب مني أن أشكر الله كل الشكر“. فهل أنت متمتع بنعمة الحرية؟ قال أحد كبار الجراحين: ”لقد اكتشفت نواميس ملكوت الله في الجراحة وبأن للروح تأثيرها في أنسجة خلايا الجسم. فقد تبين أن هذه الأنسجة تتوقف حالتها الصحية على الحالة الروحية المستولية على نفس المريض، مما أقنعني بأن صحة البدن تتوقف على صحة الروح، وأن قوة الحق هي مصدر القوة والصحة البدنية“.
 
 ثالثًا: الحاجة الى الأمان
 
خلق الله الأرض لتدور حول الشمس، واكتشف العلماء أن هذا هو سر الثبات والنظام والاستمرار في الكون، لأنه لو دارت الشمس حول الأرض فستكون نهاية العالم مؤكدة بلا جدال. هذا هو مصدر الأمان النفسي أن تنجذب الى الله وتسير في إشعاعات شمس البر لأن الشفاء في أجنحتها الحانية والحامية. إن بعض الناس تتعذب ضمائرهم بمخاوف خيالية، أو خطايا وهمية، أو وساوس ضميرية. إنها عوائق روحية تفرضها حياتنا اليومية، أو الإجهاد المعيشي، أو انتقاص الذات، أو الاستسلام للقلق، أو الانهيار العصبي، أو التزمّت المفرط، أو اللوم المستمر، أو إدانة الآخرين. عبّر عن هذه الحالة أستاذ عملاق بجامعة واشنطن في يأسه بسبب الصراع الداخلي قائلاً: ”اخترعت إلهًا يصعب التعامل معه، ثم أصابني انهيار عصبي. قال جون ملتون الشاعر الإنجليزي الأعمى: ”إنه ليس من البؤس أن تكون فاقد البصر، ولكن البؤس ألا تستطيع احتمال فقدان البصر“. إن الظروف ليست وحدها التي تمنحنا السعادة أو تسلبنا إياها، إنما كيفية استجابتنا لهذه الظروف هي التي تقرر مصيرنا وأهدافنا. لذلك كن مستعدًا لتقبل ما لا بدّ منه، لأن من منكم إذا اهتمّ يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدة كما قال المسيح.
 
 رابعًا: الحاجة الى الانتماء
 
وإن شئت فقل ”الشركة“، فإن الغضب هو أحد العناصر التي تدمّر الشركة، وتحطّم الأسر إلا إذا كان غضبًا مقدّسًا. بكلمة أخرى، لا يمكن أن لا تهتز مشاعرك أمام أناس يدّعون المعرفة وهم جهال وعميان، وقناعهم الكذب والخداع، قبور مبيضة وسمّ الأصلال في دمهم، عملة زائفة، يبيعون في هيكل الله ويشترون ضمائر الناس. إنهم فئة أثارت رقة المسيح وصلاحه فطردهم من بيت الله وقلب موائدهم (مرقس 5:3). هذا هو العلاج الروحي لمرضى التدين الظاهري، والهالة الزائفة، والأعصاب المشدودة، والشكوك الداخلية. عندما تسأل هندوسيًا عن الألم يجيبك فزعًا: إنها الكرما! والكارما عند الهندوس هي أن الإنسان يتحمّل الألم لأن روحه كانت تسكن قبل ذلك في جسد شرير. وبالتناسخ يتحوّل الروح الى جسد آخر يحتمل عقاب الجسد السابق. يا صديقي! إن الإنسان روحًا وجسدًا ونفسًا مسؤول أمام القضاء وأمام الله. هل تعلم أن كلمة كنيسة قديمًا في اليونانية هي Kuriakon ثم تحولت الى Kuriakos أي Ecclesia وأخيرًا شملت كلمة شركة أي Koinonia أو Fellowship. هذا هو الانتماء الروحي الذي يتوق إليه المرء. إنه يبدأ بالشركة مع الله والوحدة القلبية مع أولاد الله. وصدق المثل: قل لي من هم أصدقاؤك، أقول لك من أنت.
 
 خامسًا: الحاجة الى الحب
 
قال أحدهم: ”إن الأطفال هم أعظم أجهزة تسجيل، لكنهم أسوأ مترجمين“، لأنهم يلتقطون كثيرا من النقائص التي حولهم، وبسبب الأنانية الموجودة فينا يسيئون تفسير معظم ما يقتبسون، وبذلك يصبحون ضحية، غير أسوياء من حيث الدوافع والرغبات والميول والأهداف.
 
 بعد أن سمع أحدهم عظة عن ”تحب قريبك كنفسك“ جاء للواعظ معترفًا بأنها المرة الأولى التي عرف فيها أن يحب غيره كنفسه، لأنه كان يردد دائمًا في نفسه ”تحب قريبك وتكره نفسك“. إنه لا يمكن أن نبني أهداف حياتنا ما لم نصحح عقائدنا اللاهوتية والأخلاقية والمعيارية.
 
 إن الإنسان لا يقدر أن يعزل نفسه عن الناس أو عن ماضيه أو حاضره أو مستقبله أو تقاليد بلاده أو تراث عائلته، فأنت جزء من ذلك التسلسل البشري والارتباط الإلهي. كما إن الحضارة والخلايا والتنشئة والبيئة تؤثر في الإنسان وحده، أما الأهداف والسلوك والطبع وطريقة التفكير وما نرثه ماديًا وروحيًا فإنه يؤثر على الآخرين. والمشكلة أن كثيرين يتأملون في حياة المسيح كالشعراء تأملاً خياليًا، أما الطريقة الصحيحة التي عينها المسيح في قوله: ”احملوا نيري عليكم وتعلموا مني“ أي نأتي إليه جدّيًا حاملين نير تعاليمه عن المحبة والقداسة والسلام والحق، فنحب الرب عمليًا من قلوبنا ونطيعه، ونحب القريب كالنفس ونطلب عونه "فتجدوا راحة لنفوسكم".

المجموعة: 201011