تشرين الثاني November 2010

تكلمنا في العدد السابق عن عروس النشيد إذ كانت تبحث عن حبيبها، وتعرّضت للضرب والإهانة، ولكنها قالت لبنات أورشليم: "أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ إِنْ وَجَدْتُنَّ حَبِيبِي أَنْ تُخْبِرْنَهُ بِأَنِّي مَرِيضَةٌ حُبًّا". فسألنها: "مَا حَبِيبُكِ مِنْ حَبِيبٍ أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ؟". أي بماذا يتميّز حبيبك عن أي حبيب آخر؟ عندئذ ابتدأت تصف لهم حبيبها. فسألنها: أين ذهب حبيبك حتى نطلبه معك. وبكل تأكيد هذا الكلام له معنى روحي جميل. فحبيبنا هو يسوع المسيح الذي يرمز إليه العريس في سفر نشيد الأنشاد.

  وأول ما قالته العروس في وصفها لحبيبها أنه "أبيض وأحمر" و"مُعلم بين ربوة" إشارة إلى أنه القدوس الطاهر الذي سفك دمه لأجلنا. ولا يمكن الخلط بينه وبين شخص آخر ولو كان بين عشرات الآلاف فهو "مُعلمٌ"، أي يُعرف في الحال لما تميّز به من صفات.
 
 بعد ذلك قالت عنه: "رَأْسُهُ ذَهَبٌ إِبْرِيزٌ. قُصَصُهُ مُسْتَرْسِلَةٌ حَالِكَةٌ كَالْغُرَابِ" (نشيد 11:5). الرأس هو مركز الأفكار والمقاصد. و"ذهب إبريز" هو الذهب النقي، ويرمز إلى البر الإلهي. حقًا ما أجمل وما أقدس مقاصده من نحونا! والشعر الغزير الأسود هو علامة عدم الشيخوخة، لأن فقدان الشعر (الصلع) والشيب هما ابتداء الشيخوخة... ابتداء الضعف والتدهور، وهو ما أصاب الجميع سواء إبراهيم أم إسحق أم داود وسليمان.
 
 جاء عن إسحق أنه لما شاخ كلّت عيناه عن النظر حتى أن ابنه يعقوب خدعه. وعن داود أنه لما كبر "كانوا يدثّرونه بالثياب فلم يدفأ". كل إنسان يصيبه الضعف مع مرور السنين ولكن "يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ" (عبرانيين 8:13).

 
 "عَيْنَاهُ كَالْحَمَامِ عَلَى مَجَارِي الْمِيَاهِ، مَغْسُولَتَانِ بِاللَّبَنِ، جَالِسَتَانِ فِي وَقْبَيْهِمَا" (نشيد 12:5). العين تعبّر عمّا في داخل الإنسان، فإذا غضب شخص نرى ذلك في عينيه، وكذلك المحبّ تشعّ عيناه بالمحبة. عينا حبيبها مثل الحمام في الوداعة والهدوء والسلام، رأت فيهما اللطف والحنان. "جَالِسَتَانِ فِي وَقْبَيْهِمَا" أي لا يوجد ما يحوّلها عن محبته لعروسه المحبوبة. ما أعظم الفرق بين هذا وبين الإنسان الطبيعي الذي عيناه تتلفتان هنا وهناك بحثًا عن مباهج ومسرات هذا العالم، لكي يشبع شهواته وغرائزه، ومهما اشتهت عيناه لا يمسكه عنهما! قال المسيح: " فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا" (متى 22:6).
 
 "خَدَّاهُ كَخَمِيلَةِ الطِّيبِ وَأَتْلاَمِ رَيَاحِينَ ذَكِيَّةٍ. شَفَتَاهُ سُوْسَنٌ تَقْطُرَانِ مُرًّا مَائِعًا" (نشيد 13:5). ما أقبح شر الإنسان! لقد لطموا ربّ المجد على خديه، وقالوا تنبّأ من لطمك! كما بصقوا على وجهه الطاهر، لأنه كان في نظرهم "لا صورة له ولا جمال". أما المؤمن فيرى فيه الجمال الحقيقي... يرى فيه جمالاً روحيًا بارعًا. خميلة الطيب هي الأشجار العطرية الكثيرة الكثيفة والرياحين الذكية هي الزهور ذات الرائحة الجميلة. "شَفَتَاهُ سُوْسَنٌ تَقْطُرَانِ مُرًّا مَائِعًا". لا عجب! فهو الذي انسكبت النعمة على شفتيه (مزمور 2:45). هو الذي قال عنه خدام رؤساء الكهنة والفريسيين: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هكَذَا مِثْلَ هذَا الإِنْسَانِ!" (يوحنا 46:7).
 
 "شفتاه سوسن". وصف المسيح السوسن (أي زنابق الحقل) بأنها أجمل من ملابس سليمان الملك في كل مجده. والمرّ المائع أي السائل هو عطر ثمين، وهو من ضمن الهدايا التي قدمها له المجوس عند ولادته.
 
 "يَدَاهُ حَلْقَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، مُرَصَّعَتَانِ بِالزَّبَرْجَدِ. بَطْنُهُ عَاجٌ أَبْيَضُ مُغَلَّفٌ بِالْيَاقُوتِ الأَزْرَقِ" (عدد 14). فكما أن رأسه من ذهب أي أفكاره ومقاصده، كذلك يداه كلتاهما من ذهب أي أعماله، وهما رمز للبر الإلهي. الأناجيل الأربعة تحدثنا عن أعمال المسيح الجليلة. كذلك تذكّرنا يداه بقوله أنه لا يستطيع أحد أن يخطف المؤمنين من يده. ولأنهما مرصعتان بالزبرجد (أي الحجارة الكريمة) يحلو لنا أن نتأمل في أعماله المسجلّة لنا في الأناجيل. "بَطْنُهُ عَاجٌ أَبْيَضُ مُغَلَّفٌ بِالْيَاقُوتِ الأَزْرَقِ". كلمة "بطن" هنا هي نفس الكلمة المترجمة "أحشاء" في عدد 4 "فَأَنَّتْ عَلَيْهِ أَحْشَائِي". فسواء أفكاره (الرأس)، أو أعماله (اليدان)، أو مشاعره ( الأحشاء)، فإنها كلها تشهد عن جمال وجلال هذا الشخص الفريد، الذي جاء "مملوءًا نعمة وحقًا". الحجارة الكريمة والذهب تُذكّرنا بالعرش الذي عمله سليمان الملك، الذي لم يكن إلا رمزًا ضئيلاً لعرش ملك الملوك ورب الأرباب، يسوع المسيح.
 
 "سَاقَاهُ عَمُودَا رُخَامٍ، مُؤَسَّسَتَانِ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ مِنْ إِبْرِيزٍ. طَلْعَتُهُ كَلُبْنَانَ. فَتًى كَالأَرْزِ" (عدد 15).
 
 "عمودا رخام" تشير إلى ثباته، وهذا يعطينا الثقة المستمرة في كل وعد أعطانا. يمكننا أن نتأكد من قوله: "وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ"، وقوله: "لا أهملك ولا أتركك"؛ فهو ليس مثل الإنسان الذي يعرِّج بين الفرقتين (1ملوك 21:18). كيف لا يكون ثابتًا وهو المكتوب عنه أنه "حامل كل الأشياء بكلمة قدرته" (عبرانيين 3:1). السماء والأرض تزولان وأما كلامه فلا يزول (متى 35:24). وها مرة أخرى نرى الإبريز أي الذهب النقي، هو قاعدة ساقيه، مثلما أن رأسه (أي أفكاره)، أو يديه (أي أعماله)، أو قدميه (أي سلوكه)، كلها تشهد بالبر الإلهي المرموز إليه بالذهب النقي.
  
 "طَلْعَتُهُ كَلُبْنَانَ. فَتًى كَالأَرْزِ". بعد أن انتهت العروس من إعطاء بعض التفاصيل عن صفات حبيبها، تكلمت عن مظهره بصفة عامة، فقالت: "طَلْعَتُهُ كَلُبْنَانَ. فَتًى كَالأَرْزِ". ونحن الذين عرفنا المسيح وآمنا به ننظر إليه الآن بعين الإيمان فنراه "مكلّلاً بالمجد والكرامة"، نراه أعلى من أرز لبنان فنقول: "الرَّبُّ عَال فَوْقَ كُلِّ الأُمَمِ. فَوْقَ السَّمَاوَاتِ مَجْدُهُ" (مزمور 4:113). يسوع المسيح الذي أخلى نفسه آخذًا صورة عبد، هذا "رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ" (فيلبي 9:2-11).
 
 "حَلْقُهُ حَلاَوَةٌ وَكُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ. هذَا حَبِيبِي، وَهذَا خَلِيلِي، يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ" (عدد 16).
 
 ما أجمل الكلمات التي ختمت بها العروس وصفها لحبيبها! في قولها "حَلْقُهُ حَلاَوَةٌ" إثبات بأن كلامها هو نتيجة ما تذوّقته هي شخصيًا من حبيبها. فهي تذوّقت حلاوته، ويمكنها أن تقول للآخرين: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب!". وفي النهاية تقول لبنات أورشليم: سألتموني عن حبيبي فوصفته لكم، وألخّص كلامي بالقول: "كُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ". وكأنها تقول مع إشعياء النبي: "إِلَى اسْمِكَ وَإِلَى ذِكْرِكَ شَهْوَةُ النَّفْسِ. بِنَفْسِي اشْتَهَيْتُكَ فِي اللَّيْلِ. أَيْضًا بِرُوحِي فِي دَاخِلِي إِلَيْكَ أَبْتَكِرُ" (إشعياء 8:26-9). مهما تأملنا في هذا الحبيب سواء في أفكاره أو كلامه أو أعماله أو مشاعره، فإننا نصل إلى نفس النتيجة "كُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ". هذا حبيبها وهذا خليلها!
 
 والآن، ليت القارئ العزيز يسأل نفسه هذا السؤال:
 
 هل حبيبي هو يسوع المسيح؟
 
 أم أن محبة العالم قد استولت على قلبي؟
 
 وإن كان المسيح هو حبيبي، هل هو خليلي أيضًا؟
 
 إن كان هو خليلنا، يلذّ لنا أن نقضي معه أطول وقت ممكن. قد يكون لإنسان حبيب يسكن بعيدًا عنه، أما إذا كان حبيبه هو خليله الذي تحلو له العشرة معه، فما أسعد هذا الإنسان!

المجموعة: 201011