كانون الأول December 2010

أرخى الليل سدوله على أرض الميعاد، وخلع على بيت المقدس حلة مجللة بالسواد، فغرقت "المدينة المقدسة" في نوم عميق، تداعب أجفانها آلام الماضي، وأحلام الحاضر، وآمال المستقبل.  
 فأُطفِئت الأنوار الساطعة المتألقة في رحبات القصور، وردهات الخدور، ولم يبقَ من ساهر على المدينة سوى بعض النجوم المنتشرة في رقعة الفضاء، ترمقها من عليائها بعيون ساخرة - والنجوم هي عيون المساء - وبعض الأضواء المنبعثة من مصابيح قائمة تبدد بنورها بعض الظلام الدامس.
 
 وانقطعت الأصوات الصاخبة التي كانت تتخلل ولائم الأغنياء، وموسيقى سهراتهم الماجنة، فلم يسمع المار في أزقتها الضيقة سوى أنغام خافتة منبعثة من أروقة هيكل سليمان، لأن بعض الأتقياء المتعبدين كانوا يلازمون الهيكل، مرتلين أوردة السحر، رافعين مع البخور المتصاعد إلى العلاء أكف الضراعة إلى رب السماء ليرفع عن "شعبهم المختار" ما يعانون من ذلٍّ وعار، لأنهم لم يخرجوا من ذلٍّ إلا إلى ذلٍ أشرّ منه وأمرّ؛ فمن السخرة القاسية على ضفاف النيل على يد فرعون مصر، إلى السخرية اللاذعة التي ذاقوا منها الأمرّين على يدي ولاة صيداء وصور، إلى السبي سبعين عامًا في قبضة نبوخذنصر وداريوس، إلى نير عبودية أوغسطس قيصر.
 
 وعلى بعد ستة أميال من أورشليم، كانت قرية بيت لحم رابضة عند سفح "جبل المريا" عند أطراف وادي قدرون، كما يربض الحمل الوديع عند قدمي راعيه وحاميه. وفوق أحد مروجها الخضراء كان بعض رعاة الأغنام يبيتون في البادية ساهرين على رعيتهم في الليل الداجي الظلام، يقطعون سكون الليل مرددين مزامير داود الملك الراعي، عازفين بعض مقطوعات آساف، على أعوادهم القديمة التي علقها أجدادهم على الصفصاف النابت على شاطئ الدجلة والفرات، طالبين إلى إلههم أن يعيد إليهم ما كانوا يتمتعون به من مجد أيام حكم سليمان وأبيه داود...
 
 وفجأة أضاء حولهم نور باهر لا عهد لهم بمثله من قبل منذ أن بارحت نار "الشكينا" هيكلهم الأول، فخافوا خوفًا عظيمًا. وإذا بملاك الرب قد وقف بهم وقال لهم: "لاَ تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. وَهذِهِ لَكُمُ الْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطًا مُضْجَعًا فِي مِذْوَدٍ".
 
 فغمر قلوب الرعاة فرح يمازجه شيء من العجب، وهم يتساءلون فيما بينهم ويقولون: كنا ننتظر أن يأتينا المخلص المنقذ جبارًا عتيًا، فكيف يخلصنا وهو لم يزل بعد في المهد صبيًا؟! وكيف يعيد إلينا مجدنا التليد، من وُلد مضجعًا في مذود؟! وكيف يحطم ما نرسف فيه من أغلال من حديد مَنْ ولدته أمه وقمّطته بلفائف وربط وقيود؟! وقد فاتهم أن المحرر الحقيقي، إن لم يكن ذلك وجب أن يكون كذلك!! لأنه بقيوده حررنا، وبمحاكمته أبرأنا وبررنا، وبموته الكفاري رفع عنا عار وزرنا، وبدمه الزكي طهرنا... فقد افتقر ليغنينا، وتعذّب ليعزينا، وتحمّل آلام الجروح والحبر ليواسينا ويشفينا، واتضع لأجلنا لكي يرفعنا معه، ويرتفع إلى السماء، ليشفع فينا.
 
 بميلاد المسيح، وُلدت الحرية في هذا العالم الشقي التعس. فبعد أن اكتملت سنوات صمته، وبدأ خدمته الجهارية، ذهب إلى الناصرة حيث كان قد تربّى. ودخل المجمع حسب عادته وقام ليقرأ. فدُفع إليه سفر إشعياء النبي. ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوبًا فيه "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ"، فجعل يقول لهم: "الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ".
 
 لقد وهبنا المسيح الحرية، إذ عالج الخطية، التي هي العلة الأساسية للعبودية. فقال بصريح العبارة لأحبار اليهود: "إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ". ولا شك أن أقسى أنواع العبودية، ليست عبودية الإنسان لأخيه الإنسان، بل هي عبودية الإنسان لذاته ولذّاته... وأن روح الحرية هي حرّية الروح!
 حسنًا يعمل رجال الإصلاح الاجتماعي على تحسين البيئة الخارجية المحيطة بالإنسان... لكن ما لم يتجدد قلب الإنسان من الإثم والشر والفساد، فمهما أحطناه بحريات خارجية سوف يظل عبدًا أسيرًا. فما نفع القصور الشامخة التي تُبنى لتسكنها جثث هامدة؟ إنها مهما تسامت إلى عظمة الأهرام فلا يمكن إلا أن تكون قبورًا!
 
 وقد وهبنا المسيح الحرية، لأنه هو الحق المتجسد. فقال لمعانديه ومقاوميه: "تعرفون الحق والحق يحرّركم". وفي أثناء محاكمته التاريخية جابه بيلاطس بالقول: "أَنْتَ تَقُولُ: إِنِّي مَلِكٌ. لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي"، لكن "مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ".
 
 بميلاد المسيح وُلدت الحرية في العالم. لأنه أول ثائر على نظام الطبقات... فأوصى الأغنياء بأن يوزعوا أموالهم على الفقراء. وضرب لنا مثل الغني ولعازر ليعلمنا أن أكبر جرم يرتكبه الأغنياء نحو الفقراء هو تجاهلهم وإغفالهم... وأن أكبر نقص هو نقص القادرين على الكمال، وأن من يعرف أن يصنع حسنًا ولا يعمل فهذا أكبر الخطأ... فهو إذًا أول اشتراكي رسم للاشتراكية الحقة خطوطها الرئيسية ومعالمها الواضحة. وبعد صعوده مباشرة كان جميع المؤمنين معًا وكان كل شيء مشتركًا بينهم. وكانوا يبيعون أملاكهم وأمتعتهم ويوزعونها على الجميع على حسب حاجة كل واحد... فلم يكن فيهم محتاج. لأن كل الذين كانوا يمتلكون ضياعًا أو بيوتًا كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات ويلقونها عند أقدام الرسل. فيوزع على كل واحد حسب احتياجه... ويوسف الذي لقبه الرسل برنابا كان له حقل فباعه وأتى بثمنه عند أقدام الرسل.
 
 وبعد فترة وجيزة من الزمن، كتب بولس الرسول إلى تلميذه فليمون موصيًا إياه خيرًا بأنسيمس، بألا يعامله فيما بعد كعبد بل أفضل من عبد، وأن يقبله أخًا محبوبًا له، بل أفضل من أخ محبوب إذ طلب إليه أن يقبله كشخص بولس الرسول نفسه.
 
 فلم يكن المسيح إذًا قصبة مرضوضة تهتز أمام الرياح، بل كان عاصفة هوجاء تحطّمت أمامها أشجار السرو والأرز والسنديان... فلا عجب إذا ترنّمت بمجده أمه العذراء الطهور قبل ميلاده: "شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ. أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ. أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ".
 
 بميلاد المسيح وُلدت الحرية في العالم، لأنه أول من نادى بأبوّة الله للجميع، ورفع علم الإخاء والمساواة بين البشر، سواء بسواء... فعلمنا أن الجميع خُلقوا من دم واحد وافتدانا كلنا بدم واحد، وأقام صلحًا روحيًا بين السماء والأرض، فتنازلت السماء لتلاقي الأرض، وارتفعت الأرض حتى لامست السماء... وأمام هذا الإخاء العام، أزال الفوارق بين اليهودي والأممي، ورفع الحواجز التي كانت قائمة بين السيد والمسود. وساوى بين المرأة والرجل، فلا فضل لإنسان على أخيه الإنسان، إلا بتقواه عند الله، أما مواهب الموهوبين وغنى الموسرين، فما هي إلا ديون عليهم تحملهم على الشكر والاتضاع، لا على حب السيادة والارتفاع.
 
 وإذا كانت المدنية الغربية قد تلكّأت في إلغاء الرقّ، فما ذلك إلا لأن الضمير الإنساني كان غارقًا في لجٍّ من الظلمات في القرون الوسطى، والفارق عظيم بين المدنية الغربية، وبين المبادئ المسيحية؛ فالمدنية الغربية تحسب حسابًا للعوامل الاقتصادية، وتحني رأسها للنظم الاجتماعية، لكن المبادئ المسيحية تتسامى فوق الاعتبارات المادية. فلما كمل الزمان ونضج الوعي الروحي في البشرية، وتنبّه الضمير المسيحي الحيّ، قام وليم ولبرفورس في أوربا وحطّم أغلال العبيد عام 1833، وقام في القارة الجديدة إبراهام لنكولن، وألغى تجارة الرقيق عام 1856، وقد دفع في هذا السبيل ثمنًا غاليًا، إذ قدّم دمه الزكي الثمين، وجاد بنفسه، "والجود بالنفس أقصى غاية الجود". ولم تكن فديته هذه سوى شعاعة من نور فداء المسيح الكفاري الثمين، الذي مات ليحيينا، وتحمّل العار عنا، ليجعل كل عار يصيبنا مجدًا لنا وفخارًا.
 
 والآن تحتفل الكنيسة بميلاده السعيد... ولم يزل العالم يتكلم إلى اليوم بلغة الذرة والنار والحديد. لكننا نثق ثقة وطيدة برب العيد، أن السلام الذي تغنّى به جند السماء يوم ميلاده المجيد، سوف يسود هذا العالم العتيد، لأن الضمير المسيحي سوف ينبه قادة العالم الغربي إلى أن أعظم حرية هي التحرّر من الخوف من الحرب. هذه هي الحرية الخامسة التي تسمو فوق الحريات، وبها يكتمل العهد المقدس - إن العهد كان مسئولاً - فيثير زعماء العالم آخر حرب على الحرب وهي أقدس أنواع الحروب. ولسوف يذيع العالم عن قريب، أنشودة السلام، فيرتلها الجميع ترتيلاً. وتصبح للبشرية دستورًا أو إنجيلاً. ويعمّ السلام أرضنا جيلاً فجيلاً.

المجموعة: 201012