كانون الأول December 2011

أكملت الأرض دورتها حول الشمس وعادت بنا حيث كنا بالأمس، فطوت معها عامًا من العمر، وأضافت إليه عامًا جديدًا، نتوسّم في غرته خيرًا، مع أنه لم يزل بعد في المهد وليدًا. فلا ندري إذا كان يحمل بين يديه الدر والجوهر، أم يخبّئ وراءه خطر الهلاك "الأحمر". فلا ثقة لنا في الأيام إذا توالت وتقلّبت، ولا رجاء لنا في السنين إذا تعاقبت وولّت، فهي إذا تقلبت تألبت، وإذا تعاقبت عاقبت.

غير أننا نرنو بأبصارنا اليوم، إلى بيت لحم، مقر مهد وليد من طراز جديد، لنا فيه ثقة ورجاء وطيد. فهو سيد الأيام، ومسيطر على التاريخ، ومحطم قرون الزمن، وبشير الخير، ورب السلام.

في يوم ميلاده سطع نور وضاح من جبينه، فأشاع في العالم أنوارًا فوق أنوار. ومنذ يوم عيد ميلاده تتزايد ساعات نور النهار، وتتقلص ساعات ظلمة الليل، فلا عجب إذا قلنا أن يوم ميلاده، هو يوم ميلاد النور، ويوم إدبار الشر. ولا غرو إذا تغنى فيه أمير الشعراء قائلاً:

وُلد الرِّفق، يوم مولد عيسى

والمروءات والهدى والحياء

وازدهى الكون بالوليد وضاءت

بسناه من الثرى الأرجاء

وسرت آية المسيح، كما يسري

من الفجر في الوجود الضياء

تملأ الأرض والعوالم نورًا

فالثرى مائج بها وضاء

لا وعيد، لا صولة، لا انتقام

لا حسام، لا غزوة، لا دماء

ملك جاور الترب، فلما

مل، نابت عن التراب السماء

بميلاد المسيح وُلدت الرحمة في العالم. فقد جاء أرضنا فقيرًا ليقدس الفقر، وليفتح بابًا للفقراء في قلوب الأغنياء، لتدخل إليها الرحمة. ولقد جال على أرضنا يصنع خيرًا. فلم يمر بعين كفيفة إلا وأدخل إليها النور. ولم يشهد قلبًا كسيرًا إلا وأدخل عليه الحبور. فقد وهب الحياة لأبناء العدم، وأراق نورًا ساطعًا أمام ساكني القبور.

قبله، كانت السجون تملأ جنبات روما. ومنذ إشراق نوره، تهدمت السجون، وأقيمت على أنقاضها ملاجئ للفقراء والعجزة والمعوزين. وكم من جراحات ضمدتها راية الصليب الأحمر. فقبلك أيها الناصري، لم تعرف الدنيا معنى للحنان، ولولاك يا ابن الإنسان، لما أشفق إنسان على أخيه الإنسان.

بميلاد المسيح وُلد الرجاء في العالم. فقد هبط أرضنا ليرفعنا إليه، وكلما سمونا إليه، ارتفع هو فوقنا. فلا هو يتركنا، ولا نحن نرقى إليه فنلحقه. كطيف جميل، لكنه حقيقة تاريخية واقعة. كحلم جميل، لكنه يقظة وحكمة رائعة. فهو القيامة، وهو الحياة. هو حياة الكل، وكل الحياة. قدوس في ذاته وفي صفاته، لكن قداسته لا تسخر من فسادنا، ولا تظهره، بل تنقيه وتطهره. عالٍ في ذاته، وفي صفاته، لكنه ليس متعاليًا علينا. رفع خير آمالنا إليه، لأنه وضع شر آلامنا عليه. إذا دنوت منه، شعرت لأول وهلة أنك في حضرته صفر أو أصغر من الصفر، لكنك بعد قليل، تشعر أن غناه قد أضيف إلى فقرك، فأضفى على فقرك غنى، وأن قوته  قد غمرت ضعفك، فتبدل يأسك قوة وبأسًا.

لم يضع حجرًا على حجر، ولا لبنة على لبنة، لكنه في فقره كان أغنى من ألف غنى، في ألف مملكة، وأضحى مذوده أقوى من ألف ملك، على ألف عرش في ألف مملكة.

عاش ثلاثين عامًا مغمورًا، وعامًا واحدًا مهاجرًا، وثلاثة أعوام مهجورًا إلا من نفر قليل من أتباعه ومريديه. لكن، على مرّ الأجيال والعصور، بلغت رسالة إنجيله سويداء القلوب، بغير استئذان لأنه رسالة الرجاء. لمس بأنامله جسد الأبرص، فخلق من برصه طهرًا ولمس عيون العميان، فاستحال ظلامها نورًا. وقع ظله على بطرس الضعيف، فخلق من ضعفه صخرًا. وأرسل كلمته القوية إلى لعازر في قبره فنفذت كلمته في حجب القبر، وأخذه من بين شدقيه، أخْذَ عزيزٍ مقتدر. التفت إلى زكا الخاطئ، الذي فقد الناس فيه كل رجاء، حتى فقد هو كل رجاء في نفسه، فأقام من حطام حياته المتهدمة، هيكلاً إنسانيًا رفيع العماد. التفت إلى السامرية الساقطة، فأسقط منها شرها وأحيا فيها طهرها وأقامها هي ظافرة منتصرة. أمسك بسقط المتاع فدمغه بطابع الخلود. بلمسة أنامله تحول التراب تبرًا، والطين شفاء وعنبرًا، والفساد قداسة وطهرًا والفتيلة المدخنة فنارًا.

*   *   *

بميلاد المسيح وُلد الحب في العالم. نعم قبل ميلاده عرف العالم ألوانًا كثيرة من المحبة. فكم شهد العالم والدًا يحب والده، لأنه يرى في ابنه امتدادًا لكيانه هو، فصار يحبه لغرض يرتجيه. هذا هو الحب الأبوي.

وطالما رأى العالم صديقًا يحب صديقه لأن للصداقة عليه واجبًا يؤديه - هذا هو الحب الإنساني.

ومرارًا رأى العالم جارًا يحب جاره طمعًا في نفع يبتغيه أو منعًا لشر يتقيه - هذا هو الحب الأناني.

لكن المسيح أرانا حبًا من طراز جديد، إذ أرانا الحب في أسمى معانيه، فقد علمنا بشخصه، وحياته، ومماته كيف يحب الإنسان أعداءه، ويبارك لاعنيه، ويحسن إلى مبغضيه - هذه هي أسمى مراتب الحب المضحي بالنفس قبل النفيس - هذا هو الحب الإلهي المتجسد.

فلا عجب إذا عاش متألمًا وقضى في غمرة الألم، لأن من يحبّ يتّسع قلبه، ومن يتسع قلبه يعظم حبه، ومن يعظم حبه تكثر آلامه في سبيل من أحب، فإذا كان الغبي ينعم في الشقاء، وذو العقل يشقى في النعيم، كما يقول الشاعر القديم:

فليس بغريب على صاحب القلب الكبير أن تغمره آلامه، حتى تنزل به إلى عار الصليب، بل ترتفع به إلى مجد الصليب، وإلى ذروة المجد.

وُلد المسيح طفلاً ليقدس الطفولة. فقد كانت الطفولة قبله كتلة مهملة، لكن بعد ميلاده اكتسبت الطفولة عظمة وجلالاً.

وُلد من عذراء، ليقدس الطهر، وليرفع مقام المرأة، وليمجد جلال الأمومة.

نعم، الأمومة موجودة في الطبيعة. فالشمس هي أم الأرض تكسوها في النهار حلة ذهبية رائعة تُنسي اليهودي جمال الذهب، وبعد الغروب نجوم المساء لتسهر عليها، وترعاها إذا غمرها الظلام. والأرض هي أم الأزهار تحنو عليها بعطف وحنان، حتى تتفتح أكمامها.

لكن أمومة الشمس قاسية، لأنها إذا أشرقت علينا حينًا بأشعتها البهية، أسرفت أحيانًا فقتلتنا بضربتها القاسية.

أما الأمومة الحقة، فهي في قلب الأم الإنسانية، التي تمثلت في حنايا العذراء الطهور، وهي تحتضن وليدها المجيد.

وإذ نتجه اليوم بأبصارنا إلى بيت لحم نقول: أين بيت لحم الأمس من بيت لحم اليوم؟ كانت بيت لحم بالأمس قرية وديعة هانئة، تغرد الأطيار على أفنانها، ويرنم رعاة الأغنام فوق تلالها، مشتركين مع جنود السماء في ترنيمة الأجيال والدهور: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة".

لكن بيت لحم اليوم، هي بيت لحم الجريحة الدامية، المختلطة دموع ثكلاها بدماء قتلاها. فأبناؤها مشردون عن دورهم، والغرباء قد احتلوا قصورهم فأضحى أبناؤها غرباء، وصار الغرباء عنها متوطنين فيها.

إن عيد ميلاد هذا العام يجب أن تخصص هداياه لا للأطفال المستمتعين بنعيم الحياة مع والديهم، بل أن ترسل إلى أبناء المحرومين والمعوزين المشردين عن بلادهم. فلا يكرم هذا العيد بأناشيد ترفع في الكنائس، ولا يُحتفل به عن طريق نحر الذبائح والأطيار، لتزدان بها موائد الأغنياء.

إنما نقدس هذا الميلاد ونكرمه إذا أغضينا عن أنفسنا قليلاً، ووجهنا عنايتنا للمهاجرين المشردين، الذي يبيتون على الطوى، ويفترشون الغبراء فتبكيهم من فوق النجوم - التي هي عيون المساء. فبدل الهدايا التي نقدمها لأولادنا، علينا أن نذكر اليتامى في هذا العيد المجيد، وعلينا أن نذكر قضيتهم، فلا يغمض لنا جفن، ولا يرتاح لنا فؤاد حتى نردهم إلى دُورهم. فما داموا هم غرباء فنحن نظل غرباء عن أنفسنا، وما داموا هم مبعدين عن أرضهم فنحن مبعدون عن روح هذا العيد المجيد.

بهذا وبهذا وحده، تفرح الأرض ويعاد إليها بهجة ترنيمة السماء، فيشترك الفقير والغني على السواء مع جمهور جند السماء في ترنيم نشيد الميلاد وتمتزج أصواتهم معًا، ويتجاوب أصداؤها فتملأ قبة السماء:

"المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة".

المجموعة: كانون الأول December 2011