كانون الثاني - شباط Jan Feb 2012

Dr. Labibحاول الإنسان بكل علمه ومعرفته وفلسفته أن يجد تفسيرًا لوجود الكون.

وقف مذهولاً أمام عظمة الكون... أمام الشمس والقمر والنجوم، والنبات، والحيوان... وأخيرًا أمام نفسه كإنسان.

وبدأ بفكره المحدود يضع نظريات لتفسير الخلق... خرج بنظرية "الانفجار العظيم"، ثم بنظرية التطوّر التي ابتدعها داروين... ووجد نفسه صغيرًا، تمامًا كما قال داود الملك في المزمور: "إِذَا أَرَى سَمَاوَاتِكَ عَمَلَ أَصَابِعِكَ، الْقَمَرَ وَالنُّجُومَ الَّتِي كَوَّنْتَهَا، فَمَنْ هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَذكُرَهُ؟ وَابْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ؟" (مزمور 3:8-4).

 

وإذ دخل إلى دائرة الإيمان، وتخلّى عن دائرة التفكير العقلي المحدود، والعلم الكاذب الاسم، عرف معنى كلمات كاتب الرسالة إلى العبرانيين "بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ اللهِ، حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ"
(عبرانيين 3:11)؛ كلمات تعلن أن الله القادر على كل شيء هو خالق السماء والأرض والبحر، وما فيها وما عليها من مخلوقات... خلق هذا كله من العدم.

وهنا نعود إلى آيتين في الكتاب المقدس:

الآية الأولى: "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ" (تكوين 1:1).

والآية الثانية: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ" (يوحنا 1:1).

وإذ نقرأ الآيتين، نكتشف أن البدء المذكور في إنجيل يوحنا يقع في الزمان قبل البدء المذكور في سفر التكوين.

البدء المذكور في إنجيل يوحنا يتحدث عن يسوع المسيح ووجوده منذ الأزل مع الآب "هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ" (يوحنا 2:1). وإذ نتابع القراءة في إنجيل يوحنا نرى أن يسوع المسيح "الكلمة" هو خالق كل الأشياء "كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ" (يوحنا 3:1). ويقول عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين "وَأَنْتَ يَا رَبُّ فِي الْبَدْءِ أَسَّسْتَ الأَرْضَ، وَالسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ" (عبرانيين 10:1).

خليقة ما قبل التاريخ

البدء المذكور في سفر التكوين هو بدء خليقة ما قبل التاريخ. في هذا البدء كانت هناك مخلوقات، لأن الله خلق الأرض لتُسكَن "لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: خَالِقُ السَّمَاوَاتِ هُوَ اللهُ. مُصَوِّرُ الأَرْضِ وَصَانِعُهَا. هُوَ قَرَّرَهَا. لَمْ يَخْلُقْهَا بَاطِلاً. لِلسَّكَنِ صَوَّرَهَا" (إشعياء 18:45).

إذًا فقد كانت هناك مخلوقات سكنت الأرض، حين خلقها الله منذ ملايين السنين.

لا تناقض بين العلم والكتاب المقدس... فقد اكتشف العلماء حفريات تعود إلى ملايين السنين، ويتحدث الكتاب المقدس عن خليقة سكنت الأرض منذ ملايين السنين، بعدها صارت الأرض خربة وخالية تغطيها المياه، وتلتحف بالظلام.

وقد أعلن الله لأيوب حقيقة هذه الخليقة حين سأله: "أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ؟ أَخْبِرْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ فَهْمٌ. مَنْ وَضَعَ قِيَاسَهَا؟ لأَنَّكَ تَعْلَمُ! أَوْ مَنْ مَدَّ عَلَيْهَا مِطْمَارًا؟ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قَرَّتْ قَوَاعِدُهَا؟ أَوْ مَنْ وَضَعَ حَجَرَ زَاوِيَتِهَا، عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعًا، وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ؟" (أيوب 4:38-7).

لقد كانت هذه الخليقة الأولى من الروعة والجمال، بحيث ترنم رؤساء الملائكة كواكب الصبح، وهتف الملائكة أبناء الله بالخلق من فرط جمالها وروعتها.

هذا شيء لم يحدث حين أعاد الله تجديد الأرض، التي صارت خربة، وخالية، إذ لم يرنم كواكب الصبح ولم يهتف جميع بني الله.

لماذا صارت الأرض خربة وخالية؟

هنا يخطر ببالنا سؤال: لماذا صارت الأرض خربة وخالية؟

يعلن الكتاب المقدس، أن الله دفع الأرض لإبليس ليتولّى أمورها وأمور الخليقة الموجودة عليها... وهذا واضح من كلمات إبليس التي قالها ليسوع حين جرّبه في البرية.

"وَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: لَكَ أُعْطِي هذَا السُّلْطَانَ كُلَّهُ وَمَجْدَهُنَّ، لأَنَّهُ إِلَيَّ قَدْ دُفِعَ، وَأَنَا أُعْطِيهِ لِمَنْ أُرِيدُ. فَإِنْ سَجَدْتَ أَمَامِي يَكُونُ لَكَ الْجَمِيعُ"
(لوقا 6:4-7).

وسقط إبليس في خطية الكبرياء إذ أراد أن يصير مثل العليّ وقد قصد الرب في حكمته أن يخفي عنا كيف دخلت الخطية إلى حياة إبليس. بسقوط إبليس الذي كان متسلطًا على الأرض سقطت معه الأرض ومن عليها... وهكذا صارت الأرض خربة بعد أن كانت عامرة، وخالية بعد أن كانت ممتلئة بالمخلوقات، وغطاها الغمر والظلمة، بعد أن كانت صالحة للسكن؛ وهذا يفسر وجود الحفريات التي تعود إلى ملايين السنين.

الله يعيد تجديد الأرض

العدد الثاني من الأصحاح الأول من سفر التكوين لا يتحدث عن بدء خلق السماوات والأرض، لأنه واضح أن الأرض كانت موجودة في ذلك الوقت وكانت خربة خالية، وأن الذي عمله الله - تبارك وتعالى - هو تجديدها لتصلح لسكنى الإنسان، وقد استغرق تجديد الأرض ستة أيام. أو بمعنى آخر، خُلقت الأرض من جديد في ستة أيام.

وما نقرأ عن ما عمله الله لتجديد الأرض الخربة يحتاج إلى كتاب يشرح معاني عمل الله العظيم.

يكفي أن نقول أن الله بدأ بالنور، لأنه نور. "اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ" (1يوحنا 5:1). ثم أعاد فصل المياه لتجتمع إلى مكان واحد وتظهر اليابسة، وبعد ذلك خلق الله الخضروات والأشجار، والزحافات والطيور، وما عمله الله تبارك وتعالى لتجديد الأرض بعد خرابها، يعمله للإنسان الساقط ليؤهله للحياة الأبدية.

وأول ما يحتاجه الإنسان الساقط، الذي يمكن وصف حالته بأنها خربة، وخالية من السلام، يغطيها الغمر والظلام... هو النور وهذا أول ما يعمله الله لتجديد الإنسان... يهبه النور.

"لأَنَّ اللهَ الَّذِي قَالَ: أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ". (2كورنثوس 6:4)

فالله القدوس يشرق بنوره في قلب الإنسان الساقط ويقوده للإيمان بيسوع المسيح، وبعمله الفدائي الذي أكمله على الصليب، فيقال عنه ما قاله بولس للقديسين في تسالونيكي: "جَمِيعُكُمْ أَبْنَاءُ نُورٍ وَأَبْنَاءُ نَهَارٍ. لَسْنَا مِنْ لَيْل وَلاَ ظُلْمَةٍ"
(1تسالونيكي 5:5).

بعد أن يصير الإنسان الساقط نورًا، تظهر فيه ثمار الحياة الجديدة، لا لكي ينال الخلاص بهذه الثمار بل لأنه نال الخلاص... تمامًا كما قال الله: "لِتُنْبِتِ الأَرْضُ عُشْبًا وَبَقْلاً يُبْزِرُ بِزْرًا، وَشَجَرًا ذَا ثَمَرٍ يَعْمَلُ ثَمَرًا كَجِنْسِهِ... فَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ عُشْبًا وَبَقْلاً يُبْزِرُ بِزْرًا كَجِنْسِهِ" (تكوين 11:1-12).

وتتم في حياته وتصرفاته الكلمات: "إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا"
(2كورنثوس 17:5).

ويتقدم المؤمن الذي أشرق نور الله في قلبه، لمعرفة مقامه... فهو قد صار نورًا للعالم، ومقامه في السماويات. "وَقَالَ اللهُ: لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ... وَتَكُونَ أَنْوَارًا فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى الأَرْضِ" (تكوين 14:1-15).

المؤمن الحقيقي نور للعالم، "أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ... فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (متى 14:5 و16).

والمؤمن الحقيقي مقامه في السماويات، والأعمال الصالحة التي يعملها ليست هي الصوم، والصلاة، والعطاء للفقراء، بل هي أعمال سبق الله فأعدّها لكل مؤمن على حدة لكي يسلك فيها كما قال بولس الرسول:

"وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، الَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلاً حَسَبَ دَهْرِ هذَا الْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ، الَّذِينَ نَحْنُ أَيْضًا جَمِيعًا تَصَرَّفْنَا قَبْلاً بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضًا، اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ ­ بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِيُظْهِرَ فِي الدُّهُورِ الآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ الْفَائِقَ، بِاللُّطْفِ عَلَيْنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَال كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ"
(أفسس 1:2-9).

المؤمن  جالس مع المسيح في السماويات، وعليه أن يسلك في الأعمال الصالحة التي سبق الله فأعدها ليسلك فيها. والأصحاح الحادي عشر من الرسالة إلى العبرانيين يرينا الأعمال التي سبق الله فأعدّها لكل مؤمن. فقد أعدّ الله لهابيل عملاً غير الذي أعدّه لأخنوخ، وأعدّ لنوح عملاً غير الذي أعدّه لإبراهيم، وأعدّ لسارة عملاً غير الذي أعدّه لراحاب، وأعدّ ليوسف عملاً غير الذي أعدّه لموسى.

فارفع صوتك مصليًا مع بولس: "يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟" (أعمال 6:9)، واعرف قصد الله لحياتك لتتممه.

هذه هي قصة خلق السماوات والأرض... قصة خليقة ما قبل التاريخ التي ترجع إلى ملايين السنين، وقصة تجديد الأرض التي نعيش عليها... وسوف تتغيّر هذه الأرض حين يحين الوقت لإتمام كلمات يوحنا الرسول: "ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا، وَالْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ" (رؤيا 1:21).

وإلى هذا الغد السعيد، تتوق قلوب المفديين.

المجموعة: كانون الثاني - شباط Jan-Feb 2012