Voice of Preaching the Gospel

vopg

كانون الثاني - شباط Jan Feb 2012

الدكتور صموئيل

لا يعرف عالمنا اليوم معنى الاستقرار لأن قِيَمه قد اتّخذت طابع الفردية والتبدّل. فالمتغيّرات التي طرأت على المجتمع محلِّيًّا أو عالميًّا، قد زعزعت الثوابت التي آمن بها أجدادنا ومارسوها، وبالتالي بنوا مجتمعهم على أساسها بكل ما فيه من تقاليد وطقوس. ولكن المتغيّرات التي تولّدت عن التكنولوجيا الحديثة، وانهماك الإنسان في خوض معركة الاكتشاف، خلقت عالمًا آخر لم يحلم به آباؤنا أو يخطر ببال أسلافنا.

وليس في هذا أيّ خطأ من حيث المبدأ؛ فالحياة دائمة التطوّر، والثوابت الحضارية عرضة لتأثيرات المستحدثات، والتحوّل إلى المفاهيم الماديّة جعلت الإنسان يقف حيالها في حالة ضياع لأن الانفصال المفاجئ قد امتدّ إلى الجذور ليقتلعها، وإلى الأصول ليجتثّها. ولم يشعر أحد بمأساة هذا الانفصال الفاجع بقدر ما شعر به المؤمنون بالقيم الروحية والكتابية. فقد تألبت عليهم قوى التغيّرات وكأنها عاصفة هوجاء لا تترك وراءها سوى الدمار. ولكن هذا الدمار هو كارثة عالمية نرى آثارها في كل رجءٍ من أرجاء الأرض لأن هذه التحوّلات قد استأسرت قلوب النشء الجديد الذي لم يعد يشعر بارتباطه بالماضي أو بأهمية التراث. ومن حيث أن هذا التراث في أساسه مرتبط بالقيم الروحية أصبح لزامًا عليّ أن أقتصر في مقالي هذا على المجال الديني بعامة، والقيم المسيحية بخاصة.

 

وأودّ أن أُنبر هنا أن الثوابت الوحيدة في جوهرها والتي تعذّر على المتغيّرات أن تمسّها منذ أكثر من ألفَي سنة هي الثوابت التي أومأ إليها المسيح في موعظته على الجبل. وهي ثوابت ما برحت تنتصب في وجه التاريخ كعملاق جبار تجابه التحديات الحضارية المفتعلة. ولست أقول هذا على سبيل التعصب الديني أو اتخاذ موقف سلبي من المخترعات والتكنولوجيا، فأنا مدين للتكنولوجيا الحديثة التي أنقذت حياتي، بل إنني أؤمن أن هذه التكنولوجيا هي من هبات الله للإنسان لأن العقل البشري المتطلع دومًا للاكتشاف هو بذاته هبة إلهية. وكما يمكن أن تستخدم هذه التكنولوجيا لخير الإنسان، يمكنها أن تكون أيضًا أداة تدمير وفناء. وهنا مكمن الخطر، إذ ما هو تأثير تحوّل المطلق إلى عرضي في المجالين الروحي والحضاري؟

في موعظة المسيح على الجبل التي تشدد على القيم والمقاييس، أي الثوابت المطلقة، يمجّد المسيح السنن التي وضعها الله منذ الخليقة، وهي سنن غير قابلة في جوهرها للتحوّل من المطلق إلى النسبية، فالقيم المسيحية لا تعرف النسبية روحيًا وحضاريًا. دعنا نتأمل بصورة سريعة ما نصّت عليه الطوباويّات في إنجيل متى 1:5-12.

أولاً ، لم تكون هذه السنن أو التعليمات التي نادى بها المسيح مماثلة لشريعة موسى التي تقوم على الأعمال الظاهرية التي يمكن أن ينالها التغيير في أي مجتمع متطوّر، ولكنها كانت مبادئ نابعة من القلب، تختلج في أعماق الذات الإنسانية على غرار ما تردد على لسان النبي إرميا 33:31 الذي أنبأ بأن الرب سيقطع مع بيت إسرائيل وبيت يهوذا عهدًا جديدًا إذ يجعل شريعته في داخلهم ويكتبها على قلوبهم! وفي هذه الحالة لا تقع هذه الشريعة في حيّز النسبي لأن مقاييس الله وشرائعه غير خاضعة للظروف ولا لأهواء الناس. وكذلك فإن القيم الإلهية هي مطلقة صالحة لكل زمان ومكان. فكما أن الله هو ثابت وسرمدي، كذلك قيمه وشرائعه.

 

ثانيًا، إن العهد الذي يقطعه الله مع الإنسان هو عهد داخلي، مكتوب في القلوب، لأن الله، أولاً، أمين وصادق لا يعتريه تغيير ولا ظل دوران. وثانيًا،هذه العهود التي هي شرائع روحية وقيم مثلى يتعذّر محوها، وتعاليمه لها صلة وثيقة بنوعية الإنسان الجديد الذي وُلد في ظل هذه العهود. لهذا جاءت مطاليب الله في الموعظة على الجبل على مستوى ثباته، وعظمته وسلطانه وهي ترفض التحريف أو الانتقاص من قيمتها. وإن أمعنّا النظر في التطويبات فإننا نجد أنها رهينة الصياغة الجديدة التي أصبح عليها الإنسان بعد أن انتقل من تجاويف الظلمات إلى أرض الحقيقة المشرقة. هي نظام سلوكي غير مفروض بقوة على الإنسان بل ناجم عن الحوافز الداخلية والرغبة النقيّة المتبلورة، على عكس ما نصّ عليه الناموس، لأن القوة المتحكمة في السلوك ونتائجه هي كامنة في القلب وليست منقوشة على حجارة. فملكوت الله هو في داخل الإنسان بما يشتمل عليه من قيم ومقاييس ومطاليب. ويضحى السلوك سلوكًا تلقائيًا بفضل القوة التي في المؤمن.

 

ثالثًا،  إن المثالية في السلوك المسيحي التي يطالبنا بها الله هي مثالية تفوق تصوّر الإنسان ويعجز عن تحقيقها إن اعتمد في ذلك على ذاته أو على قوة إرادته. فابن آدم في سقوطه قد فقد تلك المقدرة على بلوغ المستوى الإلهي المطلوب. فعندما نُدعى لكي نحب أعداءنا ونبارك لاعنينا، ونصلي من أجل المسيئين إلينا، فإن هذه الدعوة على روعتها وسموّها، تتناقض مع الطبيعة البشرية. إنها دعوة لموقف مستحيل، غير أن هذه الدعوة هي تجسيد لما أصبح عليه الإنسان الروحي الذي يحيا وفق المقاييس الروحية وقيم ملكوت الله الخالدة. وهذا ما يثير دهشة الكثيرين ممن لم يولدوا من فوق حسب قول المسيح للناموسي الشهير نيقوديموس.

قلت لصديق لي ينتمي لغير المسيحية: إن من أبرز خصائص المسيحية دعوتها إلى محبة العدو.

فنظر إليّ نظرة غريبة وأجاب: لماذا عليّ أن أحبّ عدوّي؟

الجواب وجيه. فمن الطبيعي جدًا أن لا نحب عدوّنا. هذا هو المنطوق البشري. ولكن المقاييس في منطوق الملكوت الإلهي ترقى بنا إلى مستوى لا يستوعبه المنطوق البشري، ولا سيما لأن مصدرها ليس نابعًا من قوة الإرادة التي ما برحت مكبّلة بأصفاد العنف الإنساني ورغباته الطبيعية. إن الرؤية الروحية متحررة من الحوافز الذاتية الخاضعة للجسد، لهذا يصبح في إمكانها أن تحلّق في أجوائها الروحية. هي من نوعية لا تتوافر إلا لمن يعيش في عالم الثوابت المطلقة وليس في حيّز النسبيات.

رابعًا والملاحظ في مضامين هذه التطويبات أنها تتعدّى حدود اللغة القاموسية لأنها تعالج أبعادًا، على الرغم من واقعيتها، على ضوء الاختبار المسيحي. فلكي يستطيع الإنسان أن يبلغ هذا المستوى الروحي عليه أن يكون من مواطني الملكوت الإلهي؛ يحمل الجنسية التي مُنحت له على الصليب. لا يولد أحد وهو يحمل هذه الجنسية. ولا يوجد أيضًا ما يُدعى بالمواطنية الطبيعية في الملكوت الإلهي؛ إنما هناك ما يُدعى بالمواطنية المكتسبة Naturalization. يقول الكتاب المقدس: "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ". فالمواطنية هنا هي هبة لها شرطها الأوحد هو قبول الرب يسوع المسيح مخلّصًا وفاديًا. وعدم قبول هذا الشرط يعني حرمان المرء من هذه المواطنية. ولكن هذه المواطنية تتطلّب الخضوع إلى مقاييسها وقيمها الثابتة. لا توجد نسبية في ملكوت الله. لا يقوم الدستور الإلهي في الملكوت على الفردية لأن ثوابته المطلقة مصدرها الله. ولكن الغريب في أمر هذه المواطنية أنها ابنة الحرية. "فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا". وعلى نقيض المفاهيم البشرية فإن الحرية الحقيقية هي في الخضوع لهذه الثوابت. هي ليست أصفادًا يجرّها الأسير خلفه. هذه الثوابت هي منبع سعادة الإنسان وبهجته التي يصعب على الإنسان الجسدي إدراكها. إن قبول القيم المطلقة والثوابت الأبدية هي في صلب ملكوت الله. لهذا لا يتعرّض الملكوت الإلهي لهزات وبراكين وأنواء وعواصف لأن النسبية ليست جزءًا من كيانه وإلا يصبح الله نفسه عرضة لهذه التقلّبات.

وأخيرًا  أقول: إن الإنسان المؤمن الذي يتمتّع بالمواطنية السماوية، وعليه بصمة الجنسية الإلهية يدرك يقينًا أن جميع حقوقه مؤمنّة وإن كان ما فتئ يعيش في عالم متقلّب، فقدت فيه الثوابت خصائصها، وانتابته الحيرة، لأن عالمه الداخلي يقوم على القيم المطلقة التي لا تؤثر فيه ظروف الحياة القاسية.

كان نوح وعائلته وكل من معه يتمتّعون بطمأنينة النفس على الرغم من الطوفان الرهيب الذي أهلك الأرض. كانت الأمواج العنيفة تلاطم فلكه، والمياه قد ارتفعت إلى حدٍّ لم ينجُ منها أحد. ولكنه ظل ينعم بذلك السلام الحقيقي والثقة، لأنه كان موقنًا من ثوابته، وأن المقاييس النسبية، والقيم العرقية لا يمكنها أن تزعزع إيمانه. كانت قيمه هي قيم الله؛ لتكن كذلك قيمنا.

المجموعة: كانون الثاني - شباط Jan-Feb 2012

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

97 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10553104