أذار March 2012

Admaهلاَّ تفرستم مرة بعيون صغاركم؟ ترى ماذا رأيتم؟ أهو الحزنُ مرسومًا في نظراتهم؟ أم أنه الأسى مطبوعًا على محياهم؟ أيها الوالدون من آباء وأمهات، هل حدّقتم جيدًا ورأيتم كم أنَّ عيون أطفالكم تجول وكأنها تبحث عن بديل آخر يأخذ مكانكم؟ وعن شخص مسؤول تتمسك بأيديها به؟ وعلى كتفٍ حانٍ يلقون برؤوسهم التعبة عليه؟

 

أم تراكم عرفتم وتناسيتم، أيها الكبار، فلذات كبدكم في معاناتهم العميقة ومواجهاتهم الصعبة لتحديات الحياة الأليمة لأنهم فقدوا بذلك رابطًا كان يشدهم إلى والدين باتت عرى المودة والصداقة والحب منقطعة بينهما! وخسروا مع ذلك كل اطمئنان وسلام في الجسد والنفس؟! نعم، وجدت هذا كله بنفسي حين حانت مني التفاتة في إحدى السهرات إلى الأفراد المتحلّقين حول طاولة العشاء التي بجانبي. فاستطعت أن أرى بأم عيني معاناة هؤلاء الأولاد من بنين وبنات وهي مرسومة بوضوح على وجوههم. المعاناة التي خطفت من تلك الوجوه الصغيرة ابتسامتهم الحلوة وأحلامهم وآمالهم بحياة رغيدة هانئة وآمنة. لقد انفصل والداهم وصدر قرار الطلاق الجائر فأبعدهم عن بعضهم البعض. وعندها تأرجح الأولاد في كرٍّ وفرٍّ بين المسكنَيْن، وكأنهم صاروا جزءًا من المتاع الذي يُحمل، أو قل بعضًا من الأثاث الذي فُرض عليه التنقّل. لكن على الرغم من عيونهم الحزينة تلك، رأيتُ في نفس الوقت مشهدًا آخر أثّر فيّ فمنحني أملاً ورجاء من جديد. نعم، رأيت هؤلاء الأولاد قد أضحوا قريبين من بعضهم، لا بل باتوا حريصين جدًا واحدهم على الآخر. وبالرغم من المحنة الصعبة، شاهدت الكبير فيهم يساعد الصغير وكذا يشاطره الثقل الذي على ظهره بكل حنان ورأفة وحب. وعندما راح الأولاد الأكبر سنًا يهتمون بإطعام الأصغر سنًا اغرورقت عيناي بالدموع وقلت في نفسي: ما أعجب حكمتك يا اَلله لأنك تمنح البشر وفي أيِّ عمر كانوا حافزًا للاستمرار وأملاً جديدًا في الشفاء، ومهما بلغت تحديات الحياة. نعم، لقد برع هؤلاء الصغار لا بل أقول قد نبغوا في حمل أوزارِ الكبار ونجحوا في امتحان الإلفة والمودة والرابط العائلي أكثر من الكبار مع الأسف الذين أتوا بهم إلى هذه الدنيا. أوَّاه، ألم يَحِنِ الأوانُ إذن، أن يتعلم الكبار من الصغار؟ أجل، أن يتعلَّموا كيف يخلعون عنهم الحقد والكراهية ويلبسون البراءة والمحبة، وعدم الأنانية. يا لسعادة الكبار حين يعودون للنظر إلى الأمور من منظور الصغار، منظور البراءة والسلاسة وعدم الأنانية هذا الذي قال عنه الرب يسوع المسيح يوم كان على أرضنا: "دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم لأنَّ لمثل هؤلاء ملكوت السموات". ثم قال أيضًا في موضع آخر: "إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال لا تقدرون أن تدخلوا ملكوت السماوات" (متى 14:19 و18).

 

"عائلتك أولاً"

"عائلتك أولاً" كان هذا شعارًا قرأته مؤخرًا في صفحة التسويق والإعلانات على الإنترنت لمحامية نابغة ناشئة قد وضعت على عاتقها أن تدافع من أجل العائلة وتحافظ من أجل رباطها متماسكًا متآزرًا وهي التي أمضت سنينًا في الدراسة في إحدى جامعات كاليفورنيا الشهيرة. فنالت شهادتها الأخيرة التي أهَّلتها لتصبح وسيطة Mediator عساها تقرّب القلوب من بعضها البعض وتسعى لإعادة الزوجين إلى الطريق الصحيح، عسى الجروح تندمل والمشاعر تلتئم، وعسى أن تكون للزوجين فرصة جديدة للصلح والسماح، قبل اتخاذ القرار الظالم ليس في حقهما فحسب بل في حقّ الأطفال، والأولاد. وهذا الشعار "عائلتك أولاً" يستوقف كل قارئ، ولا بدّ ولو للحيظة من الزمن ليسأل نفسه: حقًا على ماذا أنا مقدمٌ في حياتي؟! أعلى قرار يهدم عائلتي التي أنشأتها وبنيتها وقويتها ورسختها حتى آلت إلى ما آلت إليه الآن؟ أي قرار هذا الذي سأقدم عليه؟ وماذا سأجنيه من هذا الانفصال غير الخسارة الكبيرة وعلى كل الأصعدة؟ الخسارة المادية، والمعنوية والنفسية والروحية.

نعم عائلتك أولا يا صديقي، لأنها هي الأهم من كل شيء آخر. فلماذا تخسر مالك وبيتك وأولادك وأنت تتخذ قرار الطلاق وتهدم كل شيء بَنيتَهُ وزوجتك؟ ليس هناك من خطأٍ  ومهما عظُمَ إلاّ ويمكن إصلاحه، وليس هناك  من شجار إلاّ ويُمكن فضُّه، وليس هناك من خصام إلا وتُحَلُّ عقدتُه لكن بشرط أن يرغب الزوجان ذلك. فلماذا لا يعود الكبار الآن إلى رشدهم ويفكرون للحيظات قبل أن يتخذوا قرار الطلاق  الجائر والظالم هذا؟!

في خبرٍ ورد مؤخرًا عن أحد الأغنياء في الصين يقول: "أمر قاضي المحكمة في هونغ كونغ رجلاً بدفع 154 مليون دولار لزوجته السابقة مما يُعدّ أكبر حكم لمحكمة يصدر كتسوية طلاق. وذكرت صحيفة (ذا ستاندرد) أن قاضي المحكمة العليا في هونغ كونغ قضى على الزوج (لي كين كان) ابن المليونير (سامويل تاك لي) بوجوب دفع مبلغ يشكّل عشرين بالمئة من ممتلكاته لزوجته السابقة (فلورنس تسانغ شيو وينغ) كتسوية طلاق. وكان لي وتسانغ اللذان تزوجا في العام 2000 قد انفصلا في العام 2008. وقال القاضي في حكمه إن الزوجين عاشا نمط حياة لا يمكن وصفه سوى بأنه لا يليق بمليونير."

لقد أضحى الطلاق بين الزوجين وخاصة بين الأغنياء وميسوري الحال ونجوم السينما في قرن التحضر والتقدم شيئًا عاديًا للخروج من أية أزمة بينهما حتى ولو كانت ثانوية. وصار الطلاق مخرجًا سهلاً أو منفذًا للهروب من كل مسؤولية أو جهد ينبغي أن يوضَع من قِبل الطرفين من أجل الحفاظ على هذا الرباط المقدس. ترى، هل يعي الزوج وكذا الزوجة موقف الله تعالى من هذا الموضوع الهام؟ أجل، هل يَعِيَان أن الله سبحانه وتعالى خالق الإنسان وصانعه هو الذي سنَّ هذا المبدأ، مبدأ الزواج بين الرجل والمرأة منذ أيام أبينا آدم وأمنا حواء؟ ثم هل يعرفان أن هذا الرابط هو رابط مقدس لأنَّ منشئه ومؤسسه هو الخالق القدوس؟ أما الإنسان فلقد شوّه بخطيته صورة الزواج المقدس هذه كما شوّه بعصيانه كل ما عمله الله وكل ما أسماه حسنًا جدًا. وحين أتى الرب يسوع المسيح إلى عالم البشر الخطاة أثار معلمو الناموس والشريعة هذا الموضوع معه وسألوه قائلين:

هل يحل للرجل أن يطلّق امرأته؟ فأجاب وقال لهم: بماذا أوصاكم موسى؟ فقالوا: موسى أذن أن يُكتب كتاب طلاق فتطلَّق. فأجاب يسوع وقال لهم: من أجل قساوة قلوبكم كتب لكم هذه الوصية. ولكن من بدء الخليقة ذكرًا وأنثى خلقهما الله... فالذي جمعه الله لا يفرّقه إنسان" (مرقس 10).

هذا هو المبدأ الإلهي السامي الذي سرعان ما شوهّه الإنسان بفعل قساوة قلبه وأنانيته. وما الاتحاد والعشرة والانسجام والشركة التي تقوم بين الزوجين من خلال هذا الرابط المقدس إلا انعكاس لعلاقة الله مع البشر وشركته معهم واتحاده بهم وسكناه فيهم. فهل تخلّى الله عنا على الرغم من عصياننا وآثامنا يا ترى؟ بالطبع كلا. بل أرسل الابن الوحيد ليصالحنا معه ويصنع السلام بدم نفسه على الصليب ويطرد بذلك العداوة والحقد والكراهية إلى غير رجعة. فهل نفعل نحن أيضا كذلك؟ هل نسعى للمصالحة بدل الانفصال فنعطي عائلاتنا بذلك فرصة جديدة؟ هناك أمور ومشاكل قابلة للحل بين الزوجين ويمكن أن تصحّح إذا أعاد الزوجان حساباتهما من جديد وفكّرا بعقلانية ومن منطلق كتابي بالطبع، وحاولا مرة أخرى لكي ينقذا أنفسهما وأولادهما وعائلتهما من الانهيار الكبير. فلنقف هنيهة إذن ولنفسح مجالاً للصلح أحبائي، وللسلم أن يحلّ مكان الحرب. لأننا إذا فعلنا فإننا سنكسب المعركة ولا بد، وسنوفّر أنفسنا المآسي العديدة. نعم، ولما لا؟ فلننظر من منظور أطفالنا، منظور البراءة والسلم وعدم الأنانية، لأننا إذا فعلنا فسنربح المعركة. ولكن إذا لم نفعل واخترنا العكس فلنسأل أنفسنا: أيحقّ لنا أن نقتنص من عيون أطفالنا كل أمان ونحرمهم من الاطمئنان؟ فنخسر بالتالي كل شيء؟!

المجموعة: أذار March 2012