أيلول - تشرين الأول Sep - Oct 2012

الأخت أدما حبيبيأخذنا الدكتور اللبناني المعروف والباحث في علم اللاهوت القس غسان خلف، الذي أتحفَنا بزيارةٍ خاصة إلى كنيستنا - كنيسةِ المجتمع العربي المسيحية - في غلنديل، جنوب كاليفورنيا، أخذنا في رحلة شيِّقة ليُريَنا من خلال نوافذَ في كلمة الله ماذا يحدث بعد الموت. ونظرًا لأهمية هذا الموضوع، أحببتُ أن أشرِكََ فيه قرَّاء المجلة بعد أخذ موافقتهٍ. لهذا تعالوا معي أصدقائي في هذه الرحلة المميَّزة إلى عالم الروح بعيدًا عن عالم المادة الذي نعيش في كَنَفِهِ، علّنا نستشفُّ منه ما يمكِن إدراكُه في عقولنا التي على الرَّغم من إبداعها تبقى محدودةً إزاءَه. بدأ القس غسان كلامه كالآتي:  وأنا بعدُ فتىً في الرابعةَ عشرة من عمري كنتُ أذهب إلى دكَّانِ والدي لأساعدَه، وكانَ المحلُّ قائمًا على مفرقٍ رئيسيٍ في شارع فرن الشباك المزدحم في بيروت. ولكونِ المحل واقعًا بين كنيستَين، بتُّ أرى في كلِّ يوم موكبَ جنازة يمرُّ متجهًا إمَّا لهذه الكنيسة أو لتلك. وكنت كباقي الفتيان الصغار أركضُ لأتفرَّج. ومنذُ ذلك الحين وعَيْتُ على هذه الحقيقة بأنَّ نهايتنا جميعًا هي التابوت أو المقبرة. ونشأ فيَّ منذ ذلك الحين وعيٌ عن ماهية الحياة. ورحتُ أتساءل: ما هي قيمةُ الحياة إن كانت تنتهي بالموت؟ ولماذا العذاب والتعبُ كله إذا كانت هذه هي نهايتنا؟ وغدوتُ بفعل هذه الأسئلة، ودون أن أدري، فيلسوفًا بالحق. ولكثرة ما تساءلت أحسستُ بالإحباط حتى أنَّني فكَّرت بالانتحار. وحدث مرة أني قرأت بعد ذلك قول أحدهم: "إذا حدث بعد مولدنا أننا متنا أطفالاً فإنَّه يكفينا مترٌ من الأرض، لكن إذا متنا ونحن كبار نحتاج عندها إلى مترين من الأرض. فهل يستحقُّ المتر الثاني كلَّ هذا التعب؟". نعم، هل يستحق المتر الثاني كل هذا التعب؟ فَرُحت أتساءل: "إذًا ما قيمةُ الحياة؟". ولهذا فكَّرتُ بالانتحار. وفي ذلك الوقت بالذات، وجدني يسوع المخلِّص الوحيد وقال لي: أنا أنتظرك. وبدلَ أن أنتحرَ وأرميَ بنفسي من على صخرة الروشة، في بيروت، قمتُ بالانتحار، يا أحبائي، برميِ نفسي على يسوع! نعم، انتحرتُ بيسوع! ألم يقلْ بولس الرسول: مع المسيح صُلِبتُ، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ؟ عندها تبلورتِ الفكرةُ في داخلي وهي أن أموتَ في المسيح وأحيا حياةً جديدة فيه، ودائمة، ومباركة، ورائعة. وهذه نصيحتي أقدِّمُها هنا، لكلِّ مَن يريدُ الانتحارَ للتخلُّص من مشاكل الحياة وضغوطها فأقولُ له: انتحرْ في يسوع مؤمنًا به فَتَحيا حياةً مباركةً جديدة.
والآن يأتينا السؤال: ماذا بعد الموت؟
وهذا سؤالٌ ابتدأنا نسأله عندما كنا نرى أحباءَنا يموتون. وغَدونا نسأله حين أدركْنا أنَّنا نحن أيضًا سنموت. نعم، ماذا بعد الموت؟
وهنا نجابه عدة نظرات: لنبدأ أولاً بالنظرة المادية: تقول هذه النظرة إن الإنسانَ مادةٌ بحتة ليس فيه روح. ويقال لها الفلسفة المادية ومنها نشأَ الإلحادُ وغيره. وتقول هذه النظرية بأنَّ الأطباء قاموا بتشريح الجسم البشري فلم يجدوا فيه نفسًا ولا روحًا. إذن تكون نهايةُ الإنسان عند موت الجسد وفنائه. ولكن هل نموت نحن البشر كما يموت الحيوان؟ ألا توجد روحٌ فينا ونفس؟ نحن البشر المخلوقين على صورة الله، وفينا العقل المبدع، هل نموت كما يموت الحيوانات؟ نحن الذين لنا سموُّ الفكر والقدرة على تحديد هويةَ كلِّ شيء من حولنا، هل نموت هكذا؟! هل يعرف الأسدُ أنَّه أسد؟ كم نتغنَّى بجمال القمر؟ هل يعرف القمرُ أنَّه جميل؟ نحن الذين نحدِّد هويةَ الأشياء والمخلوقات من حولنا، هل نحن الذين نحدِّد الهويات، نموت كالذين لا يعرفون هويتَهم؟ أين صورةُ الله التي فينا؟ فينا إبداعٌ رائع، لنا أرواح هي نسمةُ حياةٍ نفخها الله فينا، نحن وكلاء الله في الأرض مخلوقون على صورة الله. أيُعقل أن نزول هكذا؟!
هناك نظرة أخرى للحياة ما بعد الموت، سمَّاها الرب يسوع الرقاد، أي النوم. المؤمنون الذين يرقدون هم كالذين ينامون. لكن عند القيامة نستيقظ ونعود نحسُّ ونشعر. كيف نعرف ذلك؟ من خلال نوافذ في الكتاب المقدس. ثمَّةَ نوافذ في الكتاب نفتحُها لنرى ماذا فيها أو عَلامَ نُطِلُّ منها. فعندما نقرأ قصة الغني ولعازر مثلاً (لوقا 19:16-31)، نعرف منها أنَّ الغني رفعَ عينيه في الجحيم وهو في العذاب ورأى إبراهيم من بعيد ولعازر في حضنه. فنادى وقال يا أبي إبراهيم، ارحمني وأرسل لعازر ليبلَّ طرَفَ إصبعه بماء ويبرّد لساني لأني معذب في هذا اللهيب. فقال إبراهيم: "... بيننا وبينكم هوة عظيمة قد أُثبتت حتى إن الذين يريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون ولا الذين من هناك يجتازون إلينا. فقال أسألك إذا يا أبتِ أن ترسله إلى بيت أبي... قال له إبراهيم: عندهم موسى والأنبياء... فقال: لا يا أبي إبراهيم، بل إذا مضى واحد من الأموات يتوبون. فقال له: إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء، ولا إن قام واحد من الأموات يصدِّقون".
ترى ماذا تكشف لنا هذه النافذة؟ تكشف لنا أنَّ الإنسان بعد الموت يكون واعيًا، يرى أين هو، ويتذكَّر أنَّ لديه إخوة. وهذا يؤكد لنا أننا كصورة الله عندما يموت الجسد تبقى هذه النفس واعية وكذا الروح أيضًا. والهاوية هي مكان الروح، إما في مكان سعادة أو في مكان عذاب. لكنه ليس العذاب الأبدي لأنَّ هذا سيحصل بعد القيامة. فإنَّ للهاوية قسمين: الأول، الهاوية، حيث حضن إبراهيم للمؤمنين، وأما الثاني، فهو مكان العذاب. قال الرب يسوع المسيح للِّص وهو على الصليب: اليوم تكون معي في الفردوس. كان مكان الراحة في الماضي هو حضنُ أبينا إبراهيم، لكن نحن الآن في حضن المسيح. لماذا؟ لأنَّ الكنيسة هي في حضن المسيح. وهناك أيضًا نعرف بعضنا بعضًا، نحس ونشعر ونسمع. نحن مبررون بالدم كمؤمنين، افتُدينا بثمن. فنحن المؤمنون لا نذهب إلى مكانٍ آخر لكي نتطهَّر فيه أكثر بعد الموت. قال المسيح للِّص: اليوم تكون معي في الفردوس. من هذه النافذة نعلم أننا في حالة وعيٍ، أي لا انعدام أو تلاشي ولا نوم. هناك نكون في حالة إدراك بعقلنا الكامل. لا نقدر أن نحلِّل هذا الواقع كثيرًا، لأننا لا نستطيع وصفه إلا من خلال هذه النافذة في قصة لعازر والغني. وعلينا، أحبائي، أن لا نرتئي فوق ما يجب أن نرتئي، أليس كذلك؟ هذه هي الحالة التي نكون فيها بعد موتنا.
ونحن في هذه المنطقة من عالم الروح، لا يوجد اتِّصال بيننا وبين الأرض. لا نخاطب أهلَ الأرض ولا نظهرُ لهم. هناك أناس يلعبون على المشاعر الإنسانية، فنراهم يتوجَّهون إلى بعضهم طالبين منهم سماع صوت أبيهم أو صوت أمهم وهما في عالم الموت، ويدفعون من أجل ذلك مبالغَ طائلة. لكن هذه كلُّها خُزعبلاتٌ نهانا الكتاب المقدس عنها. وهي كلُّها ممنوعة. حتى الشفاعة من أجل الآخرين هي مجرد وهم أحياء. فأقول مثلاً: أنا عندي خدمة اليوم أرجو الصلاة من أجلي. إذن، ليس هناك اتصالٌ البتة بين الموتى وبين أهل الأرض. الموتى هم أرواح صالحة إذا كان الميت مؤمنًا، وهم عند الله في الفردوس. أما الربُّ يسوع المسيح فهو وحده الموجود في كل مكان، وهو الذي نطلب منه وحده فقط. إنما سنلتقي بأحبائنا الذي سبقونا عندما نترك هذا الجسد ونصل إليهم. وهنا ينبغي، يا إخوتي، عدمُ خَلْطِ المواضيع بعضها ببعض.هناك شفيعٌ واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح (1تيموثاوس 5:2)، وهو الذي قال عن نفسه: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يوحنا 6:14).  
والسؤال الآن هو: هل سنبقى بعد الموت أرواحًا في الهاوية حيث مقرُّ الموتى؟ يخبرنا الكتاب المقدس بأنه عندما يأتي يسوع ستصيرُ قيامةٌ للأجساد. والموتى المؤمنون سيقومون بأجساد ممجَّدة. أما الموتى غير المؤمنين، فسيقومون بأجسادٍ تدوم، أي لا تبلى ولا تفنى، لكنْ للعذاب. لكن لماذا سُميّت أجسادُ المؤمنين أجسادًا ممجَّدة؟ لأنَّها صفةٌ قيلت عن جسد الربِّ يسوع المسيح أنَّه جسد ممجَّد. ونحن سنكون مثلَه، أي أنَّ أجسادنا المقامة ستكون ممجَّدةً أيضًا، تمامًا كما قال الرسول بولس في رسالته إلى الكنيسة في فيلبي: "فإنَّ سيرتنا (أي مُواطنيتُنا) نحن هي في السماوات التي منها أيضًا ننتظر مخلصًا هو الرب يسوع المسيح الذي سيغيِّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده بحسب عمل استطاعته أن يُخضع لنفسه كل شيء" (فيلبي 20:3-21). سيأتي يسوع وتحدُث عندها القيامة تمامًا كما يقول بولس في رسالته إلى الكنيسة في تسالونيكي: "لأن الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس ملائكة وبوق الله سوف ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولاً. ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعًا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء وهكذا نكون كل حين مع الرب" (1تسالونيكي 16:4-18). نعم، سيسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون. وبكلمته يقيم الموتى. سوف يقول: يا أحبائي، قوموا، فننهض جميعًا ونقوم بأجساد ممجَّدة فيها من الهُيولةِ والشفافيَّة ومن الكثافة بحيث تقدر على الدخول من الأبواب وهي مغلّقة كما دخل يسوع إلى العلية عند التلاميذ. جسدٌ يقدر أن يأكل كما أكلَ معهم ويرتفع عنهم. إنَّه جسد روحاني. كيف؟ لا نعلم. قال للتلاميذ: "جسُّوني..."، ولتوما: "هات يدك وضعْها في جنبي". إنَّه بالتأكيد جسدٌ غير خاضع لنواميس الطبيعة لأنَّه ارتفع عنهم كما قلنا. لكن ما يعزِّينا من هذا كلِّه هو أنه عندما تجسّد الرب يسوع ربط نفسه بنا ربطًا أبديًّا.  التحم بنا لُحْمةً والتحامًا، وأصبح واحدًا منا وفينا، إذ أخذ بشريتنا. لقد حضَنها وهو الإله، وأصبح الإله-الإنسان.
لا بدّ أنكم سمعتموني أقول ولمراتٍ عديدة بأن يسوع الابن الأزلي أخذ طبيعته البشرية الإنسانية من مريم العذراء مولودًا منها، وعندما ولد من مريم المباركة كان بلا أب أرضي، وعاش على الأرض في حياته مثلنا تمامًا، ومات ثم قام وصعد إلى السماء وطبيعته البشرية معه. وهكذا أيضًا عندما يأتي ليأخذنا إليه نكون على صورة جسده المجيد. وستبقى إنسانيتنا مرتبطةً به، ونحن ملتحمون به، وطبيعته ملتحمة بنا إلى أبد الآبدين. وفي اللحظة التي يقول فيها يسوع: أنا لا أريد بشريتي، معناه أنه يقول لنا: لا أريدكم. وهذا طبعًا مستحيل. فإبقاؤه على بشريته يعني إبقاؤه علينا به. في هذا، يا إخوتي، ما يشجِّعنا كثيرًا لأننا بالنهاية لن نبقى أرواحًا، بل سنقوم في حدث القيامة. وستلبَسُ أرواحُنا أجسادًا ممجَّدة ويصبح الكون كلُّه لنا. الكون يصيرُ ملعبَنا الآتي. أليست هذه مغامرةً؟ مغامرة لنعيش في أرجائه الفسيحة؟! بالحقيقة لا نعلم تمامًا ماذا ينتظرنا! لكن توقّعوا أنَّه سيكون أكثرَ بكثير ممَّا أُعلِن لنا. نحن في عالمٍ جديد... سماء جديدة وأرض جديدة.
والآن كيف ننتقلُ من هذا العالم إلى الحياة الأخرى؟ كراعٍ إنَّني أُسأل كثيرًا عن هذه الأمور في حال الموت. ولأننا محدودون وقليلو الإدراك يرسل إلينا الربُّ مَشاهدَ من الحياة. إنَّها أحداث تكون بمثابة مدرسة لنا تعلِّمنا. وهذا ما حصل معي، وهي فرصةٌ لي الآن لكي أفسِّر كيف يحدث الانتقال من هنا إلى هناك. تزوَّجت أختي وسكنت في بيت يبعد ميلاً فقط من بيت أهلي. ورزقهما الرب بنتًا أسمياها رولا. وعندما كان عمر رولا سنتين أو أكثر قليلاً، جاء والداها لزيارتنا وقضاء السهرة معنا. وحدث أن نامت الطفلة باكرًا تلك الليلة، فوضعتها أختي على السرير في غرفة النوم، وعندما انتهت السهرة حَملَها والدها وذهب وأختي إلى بيتهما، وهناك وضعها في سريرها الخاص بها. وفي الصباح استيقظتْ رولا فوجدت نفسها في فراشها. فسألت أمها وقالت: لقد نمتُ البارحة عند جدتي، فما الذي جاء بي إلى هنا؟ كيف أصبحتُ هنا ودون أن أدري؟ قالت لها أمها: لقد حملَكِ أبوكِ وأتينا بك إلى البيت ليلاً وأنتِ نائمة. وعندما أخبرتني أختي بذلك، لمَعَت في ذهني فكرة عن كيفية الانتقال من هذا العالم إلى المجد. وقلت: ننام هنا، يحملنا يسوع، نفتحُ عيونَنا وإذا نحن هناك. كيف وصلْنا؟ على يديْ أبينا. يُقال في بعض الأحيان إنَّ الموت مرعب. لكنه إذا كانَ بهذه الطريقة فما أحلاه! نعم، إنَّها أحداثٌ بسيطة تحدث معنا لكنَّها تُرينا كيف ننتقل من هنا إلى الأبدية. ننام هنا، يحملنا يسوع، نستيقظُ هناك. هذه فرصة لكي نتعلم كيف تكون حياتنا مع يسوع دائمًا. إذا كنا مؤمنين بيسوع نرتاح، ولن يعود الموت مرعبًا لأنَّنا نموت في المسيح. ألم يقل الكتاب: طوبى للذين يموتون في المسيح؟  وكيف نطوّب الميت؟ هذا معناه أنَّنا ننام ولا نموت، والذي ينام فسيستيقظُ لا محالَةْ.

المجموعة: أيلول-تشرين الأول Sep-Oct 2012