تشرين الثاني November 2012

القس يعقوب عماريعند مجيء المسيح الثاني ستنوح جميع قبائل الأرض
"المسيح آتٍ ثانية!"، هذه معلومة يرددها الكثيرون على اختلاف معتقداتهم، إنما الفرق كبير بين من ينتظر المجيء الثاني للمسيح بإيمان وترقب واستعداد، وبين من يقول: نعم، المسيح سيأتي وكأن القضية مجرد معلومة يقر بها كأي خبر عابر.
شد انتباهي اليوم وأنا أتفكر بهذا آيةٌ في إنجيل متى أصحاح 24 تتحدث عن المجيء الثاني للمسيح وما يسبقه من علامات تؤذن بقرب مجيئه، تقول:


"وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ".
ما شد انتباهي هو القول: "تنوح جميع قبائل الأرض". والنوح هنا يكون عند لحظة مجيء المسيح - علمًا بأن المسيح في مجيئه سيكون بركة لملايين الشعوب. والنوح عادةً هو علامة حزنٍ وأسى، ويأتي بعد مأساة تكسر القلب، إما بسبب فقدان عزيز، أو فوات فرصة ذهبية لن تعود، أو لغير ذلك من مآسي الحياة .
والسؤال الآن:

 

لماذا تنوح تلك القبائل في لحظة طيبة كهذه؟!

فالمسيح في جميع مواقفه، كان حضوره بركة للناس! فما دخل بيتًا إلا وغرس فيه بذور السعادة والهناء... وما التقى بمريض إلا ومنحه الشفاء... المسيح مسح دموع الحزانى، وواسى القلوب الكسيرة، وضمّد جراح المكروبين، وعزّى وسند الضعفاء والمعوزين، وما زال يصنع المعجزات حتى اليوم... فكيف تنوح القبائل عند لحظة مجيئه الثاني؟!
الأصحاح 25 من إنجيل متى يوضّح مشهدًا رمزيًّا لفريقين من الناس لحظة المجيء الثاني للمسيح: فريق منهما سيفرح ويبتهج عند مجيئه، وفريق آخر سيندب وينوح.
نستعرض هذا المشهد كما ذكره المسيح في الإنجيل:
"حِينَئِذٍ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ عَشْرَ عَذَارَى، أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَخَرَجْنَ لِلِقَاءِ الْعَرِيسِ. وَكَانَ خَمْسٌ مِنْهُنَّ حَكِيمَاتٍ، وَخَمْسٌ جَاهِلاَتٍ. أَمَّا الْجَاهِلاَتُ فَأَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَلَمْ يَأْخُذْنَ مَعَهُنَّ زَيْتًا، وَأَمَّا الْحَكِيمَاتُ فَأَخَذْنَ زَيْتًا فِي آنِيَتِهِنَّ مَعَ مَصَابِيحِهِنَّ. وَفِيمَا أَبْطَأَ الْعَرِيسُ نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ. فَفِي نِصْفِ اللَّيْلِ صَارَ صُرَاخٌ: هُوَذَا الْعَرِيسُ مُقْبِلٌ، فَاخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ! فَقَامَتْ جَمِيعُ أُولئِكَ الْعَذَارَى وَأَصْلَحْنَ مَصَابِيحَهُنَّ. فَقَالَتِ الْجَاهِلاَتُ لِلْحَكِيمَاتِ: أَعْطِينَنَا مِنْ زَيْتِكُنَّ فَإِنَّ مَصَابِيحَنَا تَنْطَفِئُ".

هنا سر البلاء!

"فَأَجَابَتِ الْحَكِيمَاتُ قَائِلاتٍ: لَعَلَّهُ لاَ يَكْفِي لَنَا وَلَكُنَّ، بَلِ اذْهَبْنَ إِلَى الْبَاعَةِ وَابْتَعْنَ لَكُنَّ. وَفِيمَا هُنَّ ذَاهِبَاتٌ لِيَبْتَعْنَ جَاءَ الْعَرِيسُ، وَالْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى الْعُرْسِ، وَأُغْلِقَ الْبَابُ".

هنا وقعت الكارثة!

"أَخِيرًا جَاءَتْ بَقِيَّةُ الْعَذَارَى أَيْضًا قَائِلاَتٍ: يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ، افْتَحْ لَنَا! فَأَجَابَ وَقَالَ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ".
بعد هذا علّق المسيح على ما فات بقوله: "فَاسْهَرُوا إِذًا لأَنَّكُمْ لاَ تَعْرِفُونَ الْيَوْمَ وَلاَ السَّاعَةَ الَّتِي يَأْتِي فِيهَا ابْنُ الإِنْسَانِ".
عزيزي القارئ،
لاحظ معي أن هؤلاء العذارى العشر:
جميعهن عذارى.
وجميعهن يلبسن لباسًا موحدًا.
وكل منهنّ تحمل مصباحًا بيدها وتظن أن مصباحها سيسعفها في مهمتها في ظلمة الليل.
والكل يتوقعن مجيء العريس.
والكل حضرن إلى موقع التجمّع حيث سيأتي العريس.
وحتى في قضية النعاس بسبب طول الانتظار، الكل غلب عليهن النعاس ونمن.
ولكن، عندما جاءت اللحظة الحاسمة في منتصف الليل، ونادى المنادي بأعلى الصوت: "هُوَذَا الْعَرِيسُ مُقْبِلٌ، فَاخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ!"
هناك صار المحكّ لوضع النقاط على الحروف... فالحكيمات أشعلن مصابيحهن وقمن لاستقبال العريس بابتهاج، أما الجاهلات فمصابيحهن خلت من الزيت ولم تضءْ، فرجون أن يأخذن زيتًا من الحكيمات، فأجابت الحكيمات أن ما لديهن من زيت لا يزيد عن الحاجة، فاضطرت الجاهلات أن يسرعن إلى الباعة في منتصف الليل، وفي هذه الفترة حضر العريس، واستقبلته الحكيمات، ودخلن معه للاحتفال به، وأُغلق الباب.
ولما أدركت الجاهلات أن الأسواق معتمة، ولا نفع من المحاولة، عدن إلى مكان الاستقبال فاشلات، ولهول الصدمة وجدن الباب مغلقًا، فقرعن الباب لعل أحدًا يفتح. فردّ عليهن العريس من كوة الباب قائلاً: "لا أعرفكنّ!"
فرجعن خائبات لاطماتٍ نائحات، بينما نعمت الحكيمات بلقاء العريس والاحتفال معه.
فالقبائل النائحة التي تحدّث عنها الإنجيل عند لحظة مجيء المسيح هي قبائل من نوع الخمس الجاهلات اللاتي اعتمدن على المظهر، والشكل الخارجي، وشعائر العبادة التقليدية.
فمصابيح التديُّن موجودة بأيديهن، لكن المصابيح خالية من الزيت!
شكلها شكل مصابيح إضاءة، لكنها بلا نور لأن الزيت مفقود!
شعائر التدين موجودة، لكن القلب في الداخل خالٍ من الإيمان المقبول لدى الله، والاتصال الحقيقي بالله معدوم!
الحديث هنا – عزيزي القارئ - يشير إلى اللحظة الأخيرة من الزمن، أو اللحظة الحاسمة التي فيها يُتبيَّن الغثُّ من السمين، ويظهر الفرق بين صورة المؤمن الحقيقي وصورة غير المؤمن. إذ في يوم الأبدية يقف فريقان أمام المسيح الديان لا ثالث لهما: فريق للحياة الأبدية للجنة، وفريق للنار.
ففي الحياة الدنيا ينتسب الكل للدين... والكل يبدو في كامل استعداده لدخول الجنة... والكل يُعيِّد في الأعياد الدينية... والكل يبدأ نهاره باسم الله... والكل يتصدّق ويقوم بما يمكن من أعمالٍ خيرية... والكل يحضر إلى بيوت العبادة في أوقاتها... ولكن في يوم الدين ينشر غسيل الشعوب كما أُريد له أن يكون أمام الملايين، وهناك يتحقق العدل الكامل الذي لا استئناف بعده، فتسقط الميداليات والشعارات المزيفة التي صنعناها بأيدينا، وتتكشّف القناعات الباطلة التي تُخفي وراءها ما تخفي، وهناك تتساقط الأحلام والآمال والتمنيات، إذ عندها تبرز الحقيقة ناصعة واضحة، ولأوّل مرة يتحقّق العدل الكامل غير المنقوص ويظهر البريء من المذنب... فهذا يفرح ويتعزّى وذاك ينوح ويتأسّى.
في حياتنا الأرضية، كثيرًا ما نزجي الألقاب ونوزع النياشين على الناس من حولنا بالمجان وحسب استحساننا، وننسى أن ما يراه الله غير ما نراه نحن.
في حياتنا، نفصّل الناس كما نريد: هذا للجنة وذاك للنار، هذا مؤمن وذاك كافر، ونُفاجأ في يوم الدين حين تختلط الأوراق ونجد أن الكثير مما حكمنا عليه بقناعاتنا كان باطلاً.
مثل قصير فاهَ به المسيح دوّنه إنجيل لوقا في الأصحاح الثامن عشر، يقول:
"وَقَالَ لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ الآخَرِينَ هذَا الْمَثَلَ: إِنْسَانَانِ صَعِدَا إِلَى الْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا، وَاحِدٌ فَرِّيسِيٌّ وَالآخَرُ عَشَّارٌ (والفريسيون كانوا من أهل الدين والتقوى وهم حراس الشريعة، بينما العشار في نظر المجتمع آنذاك إنسان جشع ظالم كافر). أَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هكَذَا: اَللّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ، وَلاَ مِثْلَ هذَا الْعَشَّارِ. أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ، وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ. وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ".
المسيح وحده له السلطان أن يعلق على مصائر الناس (هنا علّق المسيح على مصير هذا وذاك) "أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّرًا دُونَ ذَاكَ، لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ".
أيها الأصدقاء،
المسيح آتٍ ثانيًا، واستعدادك للحدث يحدد مصيرك الأبدي، فكن حكيمًا واستعد للقائه بتوبة قلبية وإيمان صادق، وإن فعلت سنلتقي يومًا حول عرش المسيح في مجده وستصافحني هناك وتقول: شكرًا لله على ذلك المقال الذي غيّر حياتي.

المجموعة: تشرين الثاني November 2012