تشرين الثاني November 2012

الدكتور القس ميلاد فيلبسقال أحد الفلاسفة: "إن قال لي أحدهم أنه لا يحب المال، فهو إما أن يكون مجنونًا أو مليونيرًا أو أفّاقًا"، هؤلاء هم نماذج الناس الذين يقولون مثل هذا بشيء من الإخلاص. وهنا تظهر أهمية الوصية الثامنة "لا تسرق" (خروج 15:20) التي فيها ينظّم الله علاقاتنا بالنسبة للأمور المالية والمادية، بحقوق الغير ومقتنياتهم، والتي تستهدف ليس فقط النواحي المادية في عصر الصراع والمنافسة بل والأبعاد المعنوية والنفسية.
كما تكشف النقاب عن أمور أخرى كالمصلحة الشخصية، والمشاعر الفطرية، والغرائز، والأهداف، والتفاعلات، وغيرها من الظواهر الإنسانية المعقدة وذلك عن طريق إدراكنا:



 

أولاً: قيمة المال

فللمال قيمة وبريق وأهمية في الحياة الدنيا، وحاجة غير قابلة للإشباع، وقلما نجد إنسانًا يرفض الحصول على المزيد من الذهب مثلاً لاكتفائه بما عنده. وهذا يؤكد ضمنًا أن التفكير البشري يرتبط دائمًا بالمادة التي جُبل منها مما يجعل المرء حساسًا لأي تغيير يطرأ على كمية ما لديه. كم كان المال وما يزال سببًا للحروب، وطريقًا سهلاً للخصام، ومثيرًا عنيفًا للطمع، ودافعًا مريرًا للحسد، ومدعاة للكبرياء والغطرسة. وقد يوجّه الكثير منه إلى الشهوات والرذائل. لذلك "دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله"، "ولا تقدرون أن تخدموا الله والمال". في قضية اختلاسٍ، كان من اعترافات الرجل الذي جرّ معه عائلة كاملة إلى الإفلاس الأدبي والعار، أنه ظل عشر سنوات قبل أن يُكشف أمره وهو يحاول أن يسدّد المبلغ الذي اختلسه، ولكنه أجل وسوَّف إلى أن داهمته الفضيحة. ولقد درّب المسيح تلاميذه تدريبات قاسية واختبرهم اختبارات معقدة حتى ينتزع منهم محبة المال والتلهُّف لبريقه. ولا يعني هذا أن كل ذي مال مغضوب عليه أو ليس له نصيب في خلاص الله "لأن غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله" بل إن "محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذِ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة." وقد عبّر عن ذلك مرة القديس فرنسيس الأسيسي المتزهّد بالقول: "لو أننا اقتنينا متاعًا لكان من الضروري أن نحمل سلاحًا لحمايته لأن المتاع مصدر المنازعات والقضايا في المحاكم وهو عقبة كأداء في سبيل محبة الله ومحبة القريب". لكن المسيحية في رأيي ليست ضدًّا للتملك أو الاقتناء مطلقًا. فالمقصود هنا جعل المال عبدًا لا سيدًا، وسيلة لا غاية، وعدة للسير لا إلهًا "لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟"، "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم". والحياة تُبنى بالكفاح والجهاد، لكن النجاح السهل ينتج أناسًا غير ناضجين "وبعرق جبينك تأكل خبزك". والكتب المقدسة تنهينا عن انتهاك حقوق الغير وتبرز أمامنا الوصية الثامنة لتصون المجتمع، وتحمي الفرد، وتنهي مشقات البشر، وتحضنا على فعل الخير. "انظروا وتحفَّظوا من الطمع فإنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله" (لوقا 14:12). لذلك "أعطوا تُعْطَوْا"، وهذا يأتي بنا إلى نقطة هامة تثيرها الوصية الثامنة وهي: "لاَ تَسْرِقْ".

ثانيًا: نقيصة المال

يقولون أنه إذا وضعت قطعة من الفلّين على عمق خمسين قدمًا تحت سطح الماء فإنها تطفو، وإذا وضعتها على عمق مائة قدم فإنها تطفو أيضًا، ولكنها إذا ما وُضعت على عمق نحو مائتي قدم فإنها تحت ضغط الماء لا تطفو بل تبقى مكانها. وهذا يعني أنه كلما استسلمت للخطية صعب عليك الإقلاع عنها.
والآن دعنا نسأل: لماذا يقترف الإنسان جريمة السرقة مثلاً؟
والجواب عادة في العبارة "انفعالات ودوافع"، فهو يبحث عن أهداف ويحاول أن يتجنّب الخطر ويحتاج إلى جوّ المحبة. والحاجة كثيرًا ما كانت الدافع لارتكاب هذه الجريمة. وقد تتعدد الحاجات الفطرية في الإنسان، إنها قضية رغيف الخبز التي تحرّك رجال الاقتصاد والسياسة وقضية مكوّنات الشخصية التي تشغل عقول المفكرين والباحثين. وفي الحقيقة، الإنسان الذي يبحث عن الطعام والأمان والملجأ هو نفسه الذي يسعى نحو الأهداف النبيلة الإيجابية، وكنتيجة لهذه وتلك قد تنهك النفس أو يتعمّق فيها الإحساس بصفة الفردية مما يؤثر على متطلّباته وقد يشمل أيضًا ارتباطاته.
جاء في إحدى الجرائد اليومية، أن حوالي ثمانية عشر ألف شخص - عدا الأطفال - يختفون في كل عام في باريس، وعثر على البعض منهم غرقى في نهر السين والقنوات المائية، البعض يتهرّبون من مسؤوليات الحياة أو من تسديد دين أو عقب فشل. وربما يظن السارق أن الدافع خير لحلّ المشكلة أحيانًا، لكن لا يصل إلى غايته وذلك لوجود عائق أو مفقودات في الشخصية أو في مجتمعه وإحساسه للعالم الذي يدور حوله. وهكذا يعدد لنا التاريخ أمثلة من جرائم السرقة، والتعدي على حقوق الغير، واستغلال القوي للضعيف، وسلب صيت الآخرين سواء بالقدح أو بالذم أو بالطمع. فداود طمع في زوجة أوريا، وأخآب نهب حقلة نابوت اليزرعيلي، و"يوم لك ويوم عليك".
أحصت التليفونات بنيويورك أكثر الكلمات ورودًا على الألسنة في المحادثات التليفونية فوجدت أن كلمة "أنا" هي أكثر الكلمات، إذ تكررت 3900 مرة في خمسمائة حديث فقط. إن السلحفاة تترك بيضها ليفقس بحرارة الشمس، وتترك صغارها ليهتموا بأنفسهم، وإذ لا تهتم بهم يصيرون فريسة للأعداء من البر والبحر. وهكذا أولادنا عرضة لخطر الجهل والتعصب والأوساط الشريرة وأصدقاء السوء.

ثالثًا: موازنة المال

تتعدد مشاكل المجتمعات وتختلف نسبيًا إلا أن مشكلة السرقة والنهب هما أخطر هذه المشكلات لأنها تتعلق بشخصية الإنسان والبناء الشخصي لصاحب المشكلة.
قالت الأم لابنها الصغير: "اذهب وصلِّ لينزع يسوع سوء طبعك الرديء".
وسمعت الولد يصلي قائلاً: "من فضلك يا يسوع، إنزع طبعي الرديء، ولكن بينما تقوم بهذا العمل ليتك تنزع طبع أمي الرديء أيضًا".
قال برنارد شو: "إن أعمارنا قصيرة لا تتسع للدرس والعمل والاستمتاع، ويجب أن نعيش ثلاثمائة سنة على سبيل العلاج الوقتي لمشكلاتنا الاجتماعية. لذلك يلزمنا أن نركز على العنصر الإرادي النفساني لتغيير الأنماط البشرية، فإرادة القوة تؤثر على سير الأحداث الاجتماعية والفردية".
أخبر البعض وأكدوا بأن الثعابين تُرى في وقت الخطر تفتح أفواهها وتبتلع صغارها، فإذا زال الخطر أخرجتها مرة أخرى. وهذا يعني أنه ليس للأنانية مجال في الأرض أو في السماء، وجميع المسائل العظيمة تحتاج إلى حب عظيم كما قال نيتشه: "فإن الإنسان يكون فاضلاً إن أعطى المجتمع الذي يعيش فيه أكثر مما يأخذ منه". والدين ليس وصمة عار بل علاج وعلم ووعي نحو المثل العليا مما يقلل الجريمة ويخلق نوعًا من التحضّر والتقدّم، فلا عجب أن يصوغ المسيح من زكّا رجلاً مضحّيًا ومن الغزالي رجلاً مستنيرًا. وهذا يأتي بنا إلى مسألة الضمير، وصوت القيم الروحية، والمثل العليا، وهتافات المثالية وسط الحياة الواقعية؛ فلا تناقض بين الدين والدنيا إذا غذّى الإنسان عقله بالحق الذي هو الله، وزوّد مخيّلته بالخير الأعظم، واختار النصيب الصالح الذي لا يُنزع منه إلى الأبد.
قال ويلسون: "لا يظن إنسان أنه يوجد منبر آخر لمصلحي الهيئة الاجتماعية غير منبر كلمات ربنا يسوع المسيح، فعند قدميه نجد ضالتنا المنشودة". وها هو أغسطينوس ينادي قائلاً: "إنني أودع لإلهي قلبًا من لهب نار مشتعلة، ولإخوتي قلبًا من محبة صافية مضحية، ولنفسي قلبًا من إرادة فولاذية صلبة". فإن الإصلاح الذي نتعلمه ونتدارسه أو ننشده للمجتمعات قاطبة لا يستطيع أن يفعل ما يفعله يسوع لإصلاح وصقل أخلاق الشعوب وعلاج وتقويم النفس البشرية وتهذيب بل وإيقاظ الضمائر بقداسة الله. لذلك لنفتح قلوبنا لمحبة الله وندرّب حياتنا والمثل العليا ونسعى لخير الآخرين "حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم".
قُدِّم سؤال لمجموعة من البنات عن "ما هي أجمل عاطفة؟"، فكتبت إحدى البنات "الفرح"، وأخرى "المحبة"، وثالثة "الشكر". ولكن بنتًا أصابت المرمى وكتبت "التوبة".
تطلع رجل في حلم فرأى ثلاث مشانق: على الأولى رأى مشنوقًا معلقًا من لسانه. وعلى الثانية مشنوقًا معلقًا من يديه. على أنه لم يرَ على الثالثة أحدًا. ولما أبدى اندهاشه، قال له الملاك: إسمع! إن المشنوق الأول هو جدّك وقد عُلِّق من لسانه لأنه اقتنى ثروته بالكذب والحلف والحنث بالوعود، والمشنوق الثاني هو أبوك وهو مُعلّق من يديه لأنه جمع أمواله بأعمال الظلم والجور. أما الثالثة فلا يوجد عليها أحد لأنها معدّة لك إلا إذا رددت ما سلبه جدك وأبوك.
أخيرًا، "أيسلب الإنسان الله؟ فإنكم سلبتموني. فقلتم بم سلبناك؟ في العشور والتقدمة. قد لُعنتم لعنًا وإياي أنتم سالبون هذه الأمة كلها. هاتوا جميع العشور إلى الخزنة ليكون في بيتي طعام وجرّبوني بهذا يقول رب الجنود إن كنت لا أفتح لكم كوى السماوات وأفيض عليكم بركة حتى لا توسع".

المجموعة: تشرين الثاني November 2012