كانون الأول December 2012

الأخت أدما حبيبييوسف: لقد مالتِ الشمسُ إلى المغيب، وعلينا أن نترك بيتَ لحم لأنَّ المكانَ مُريب، فهيَّا بنا يا مريم.
مريم: ماذا تعني يا يوسف؟ ولماذا تنوي من هنا الرحيل؟ هكذا ومن دون أيِّ دليل؟
يوسف: لقد ظهر لي ملاك الرب في حلم، وحذَّرني بأن الأمر خطير، فهل تريدين بعدُ من تفسير؟


مريم: ملاك الرب ظهر لك من جديد؟ وعمَّاذا أعلمك؟ وإلى أين أرشدك؟
يوسف: "قم وخذ الصبي الصغير، وأمه" قال الملاك، "وإلى مصر اذهب وامكث هناك".
مريم:  أإلى مصر سنهرب، ومعنا طفل صغير! لا بدَّ أن الأمر عسير، وفيه من الخطر الكثير.
يوسف: نعم، فقد أفصح الملاك بأنَّ نفْسَ الصبي الصغير هي مطلبُ الملك الكبير، صاحب الأمر والسلطان الوفير.
مريم: وهل تعني أنَّ هيرودس الكبير هو مزمع أن يقتل يسوع،  فيمتلئ قلبي بالأسى والولوع حتى الضلوع!
يوسف: نعم يا مريم، لذا فعلينا الإسراع في الإعداد لرحلة الطريق، من زادٍ وماء ودابَّة تنقلنا قبل انبلاج الصبح وانفضاح الأمر الدقيق.
مريم: يا رب، نستودعك نفوسنا والصغير، هبْنا نعمة وقوة منك وأعنّا لنتبع أمرك ونسترشد بهَدْيِك يا مشير.
يوسف: لا تخافي يا مريم، فقط أسرعي في تحضير الحاجيات، وهاكِ صُرَّةَ أشيائي ضعيها جانبًا مع باقي الاحتياجات.
مريم: أنا غير خائفة، لكنني فقط قلقة على الصغير، فالسفر صعبٌ عليه، ولا بدَّ أنه متعَب ومرير.
يوسف: إن الله القدير، الذي خرج من عنده الأمر، هو معنا، وسيسدِّد خطانا، وسيسير بوجهه أمامنا، ولا تنسي أنه هو حافظنا، هو ترسُنا، وهو مِجننّا، لذا فهو سيوجهنا ولن يتركنا.
مريم: نعم يا يوسف، وأنا أثق بإلهي وبقيادته وإرشاداته السديدة وأنا متأكدة من خطته الحكيمة. فهذا الولد عجيب كما قال فيه الملاكُ حين بشَّرني بمجيئه المهيب.
يوسف: إذن، عليهِ اتَّكلنا يا مريم يا عزيزتي، ولا تنسي أيضًا أنَّ هذا هو الإعلان الإلهي الثاني لي، في شأن هذا المولود الفريد، لذا فإنِّي سلامتَه أريد، وعلى حمايته عهدي أكيد.
مريم: يوسف، رجلي، لن أنسى بالطبع رقَّتك وحنانك معنا، وأمانتك، وشهامتك، ونُبْلَ أخلاقك كأب ورب لعائلتك. لذا، أنا الآن على استعداد أن أرافقك بعد أن أبديتَ طاعتك لإلهنا الأمين حافظ العهد طيلة السنين.
يوسف: مرحى لك يا مريم، لأنكِ على العهد تبقين، ولله تسجدين، وله تخضعين وأمره تطيعين.
مريم: ها قد جهّزت كلَّ ما تريد يا عزيزي، والآن قد استعددت لكي أعمل ما من شأنه ينجِّي وينقذُ الابن الوليد.
يوسف:  لِنَنَمْ إذن الآن ونرتحْ لسويعات قليلة، قبل أن نبدأ بالتنقل والترحال مع انبلاج الفجر، فنُنقذَ الصغير من كل ما يُحدِقُ به من مُصابٍ أليمٍ أو أيِّ خطبٍ جسيم.
* * * * * * *
نعم، وهكذا، باكرًا جدًا يا أصدقائي، ومع بزوغ خيوط الفجر الأولى، انطلق الموكب الوضيع من مدينة بيت لحم في فلسطين. وراح يوسف ومريم والصبي الصغير يسوع المميَّز والفريد، يسيرون جنوبًا باتجاه مصرَ البلد الملجأ، هربًا من غضب الملك هيرودس الحسود، ملك اليهود الذي يريد القضاء على المولود والملك الموعود. كلا، لم تكن الرحلة سهلة، فالأرض وعِرة، والصحراء قاحلة ومقفرة إلا من قلّةٍ قليلة من المسافرين والمتنقلين. وبعد مرور أسابيع عديدة وليالٍ طويلة وصل الموكب إلى المكان، حيث أقاموا هناك تمامًا بحسب ما أرشدهم الملاك، لإنقاذ الصبي يسوع من الموت والهلاك. وتمت النبوءة على لسان النبي هوشع إذ قال بوحي الروح القدس: "لما كان إسرائيل غلامًا أحببته، ومن مصر دعوت ابني" (هوشع 1:11).
أمَّا ما حصل فورَ ترك العائلة بيتَ لحم، فهو لا شكَّ ذميم لأنه أصابَ القلوبَ في الصميم. إذ أرسل الملك الطاغية الشرير هيرودس الكبير جنوده إلى كل بيت، وسكب جام غضبه على كل عائلة فيه انتقامًا من سخرية المجوس منه. وبذلك سُمعت أصواتُ الصراخ والعويل من أمهات قُتِلَتْ فَلَذات أكبادِهن بحدِّ السيف من قِبَلِ الجنود الغاصبين. وسالتْ دماء الأولاد الذكور من عمر سنتين فما دون. وارتكبَ هيرودس الملك أبشعَ مجزرة بحق الأطفال يوم ذاك، في محاولةٍ مستميتة لقتل يسوع المسيح، لكي يضمَن المُلْك والمملكة، الاسمَ واللقب، المركز والشهرة، العرش والسلطان. ونسيَ هذا الشرير أو تناسى أنَّ هناك إلهًا في السماء يرى، "وأنَّ فوق العالي عاليًا والأعلى فوقهما يراقب". وتمت نبوءةٌ أخرى تكلَّم عنها النبي إرميا حين قال وبوحي من روح الله: "هكذا قال الرب: صوتٌ سُمِع في الرامة، نوحٌ، بكاءٌ مرٌّ. راحيل تبكي على أولادها، وتأبى أن تتعزى عن أولادها لأنهم ليسوا بموجودين" (إرميا 15:31).
ولكن، لم يبق الطاغية على عرشه قائمًا. إذ في العام الرابع من ميلاد المسيح مات هيرودس الكبير، إثرَ مرض عديم الشفاء بحسب مصادر التفسير. لكنَّه قسّم مملكته بين أبنائه الثلاثة قبل موته، فأعطى اليهودية والسامرة وأدومية لأرخيلاوس، والجليل وبيريَّة لهيرودس أنتيباس، وتراخونيتس أي (قيصرية فيلبس) لهيرودس فيلبس الثاني.
ومرةً ثالثة يظهر الملاكُ في حلم ليوسف وهو في مصر فيستيقظ من نومه.
* * * * * * *
يوسف: مريم، مريم! هل أنت نائمة؟
مريم: م.. ماذا تريد يا يوسف؟ فنحن ما زلنا في منتصف الليل؟ ما الذي جعلك تصحو في مثل هذه الساعة؟
يوسف: إنه الملاكُ يا مريم، أجل الملاك ظهر لي في الحُلم وهو يريدني أن..
مريم: أن ماذا؟
يوسف: أن آخُذَكِ وآخذَ الصبي يسوع ونعود جميعًا إلى بلدنا وأرضنا وعشيرتنا من حيث أتينا.
مريم: لكن، هل زال الخطر يا ترى عن الصبي المولود؟ وغاب الخوف عن الابن الموعود؟
يوسف: نعم، أخبرني الملاك بأن الملك هيرودس الكبير، الذي كان يسعى لقتل الصغير، قد مات وانتهى الأمر.
مريم: شكرًا لك يا إلهي، يا إلهَ أبي وأمي وأجدادي أجمعين، شكرًا لك.
يوسف: هيا اجمعي أغراضَنا من جديد، وأَلبِسي الصبيَّ ما يحميهِ من البرد في الطريق، ودعينا نعود راجعين إلى بلادنا آمنين.
* * * * * * *
وهنا أيضًا ومع خيوط الفجر الذهبية، ما كان من العائلة إلاَّ أنِ امتطَتْ ظهرَ البعير، يقودها يوسف الأب الشهم وصاحب القلب الكبير. وراح يقطع المسافات، والصحاري والوديان، حتى وصل إلى الأرض التي خرج منها. لكنَّه ما أن سمع بأنَّ ابن هيرودس الكبير أرخيلاوس رجل العنف والقتل والتدمير، يحكم منطقة اليهودية والسامرة خلَفًا لأبيه الشرير، حتى أوحي إليه من جديد من قِبَل الملاك بأن يتوجّه إلى الناصرة في منطقة الجليل. وعلى الرغم من أن الناصرة مدينة استراتيجية وتقع على تقاطع طرق القوافل التجارية، إلا أنها كانت محتقرة من كثيرين، لأنّ الحامية الرومانية كانت تعسكر فيها بحسب كتب التفسير، ولم يكن يُصَدَّقْ أن يخرج منها شيء صالح (يوحنا 46:1). لكن هناك وبحسب إرشاد الله حطَّ يوسف الرحال بسلام وأمان، مع مريم العذراء وابنها الوليد. وهنا تمَّت نبوءات أخرى على لسان الأنبياء أنه "سيُدعى ناصريًّا".
نعم، إعلانات الله عجيبة، تلك التي أعلنها ليوسف زوج مريم. إذ بدَّد في الإعلان الأول كلَّ شكوكه عن الطفل الذي تحمِلُه مريم خطيبته في أحشائها. وأكد له الملاك في الحلم بأن الطفل "سيُدعى يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. وهذا كله لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا" (متى 21:1 و22).
وبناءً على هذا الإعلان الإلهي الأول، أدرك يوسف بأنَّ هذا الطفل فريدٌ ومميَّز، وهو سيكون المخلص المنتظر. لذا أطاع الله في إعلاناته التابعة. وسرعان ما تبيّن لنا بعد بدء يسوع المعيَّن من الله، خدمته على الأرض، بأنه لم يبتغِ مُلْكَ هيرودس، المعيَّن من البشر، بل ابتغى أن يملك على قلوب البشر. لذا لا يمكن لأحدٍ أن يعرقلَ خطة الله العظيمة وهذا بالضبط ما كان. واستخدم الله يوسف خطيب مريم الذي أطاع وخضع لإتمام قصد الله الأزلي. وتمكَّن أن يحافظ على الصبي يسوع من أيدي الطغاة والغادرين، وأن يكون الأبَ الأرضيَّ المختار ليسوع المسيح. فلهُ نقول: طوباك يا يوسف لأنه فعلاً يَصِحُّ فيكَ لقبُ "الأب الأول" وربُّ العائلة الأولى. وألف شكر لله على "عطيته التي لا يعبّرُ عنها".
نعم، فمن الناصرة بدأت بشارة الملاك لمريم العذراء، بولادة الطفل العجيب، ومن الناصرة بدأ يسوع المسيح خدمته ونشر ملكوته ليس على هذه الأرض الزائلة، بل ملكوته على قلوب البشر الذين التحم بهم إلى الأبد. ففتح بذلك لهم باب الخلاص من الخطية والشر والفساد. وهكذا يترفَّع يسوع الطفل المولود، المخلص الموعود، على عرش كل قلب يقبلُه ليكون ملكًا على الحياة بجملتها ملكًا باستحقاق.
فهل تؤمن بيسوع المسيح الناصري المتواضع، الذي هو المليكُ المترفِّع بامتياز؟!

 

المجموعة: كانون الأول December 2012