كانون الأول December 2012

الدكتور صموئيل عبد الشهيدكان آخر ما سمعه من والده الطبيب ما خطّه إليه في رسالة قصيرة وردته منذ أربعة أشهر من إحدى المناطق الأفريقية التي لا يكاد يتذكر اسمها. كان والده عضوًا في كنيسة المحبة التي من عادتها أن تبعث بفرق إرسالية حيث تستدعي الحاجة في المجتمعات التي تعاني من الفقر، والأمراض، والأوضاع السياسية المتدهورة. وفي هذا العام استقرّ رأي والده على الاشتراك في إحدى هذه الحملات ليقوم ببعض الخدمات الطبية بين إحدى القبائل التي كانت على لائحة صلاة هذه الكنيسة. وما لبث أعضاء الحملة أن عادوا إلى موطنهم بعد غياب نحو شهر باستثناء والده. ولم تكن الأخبار التي حملها أعضاء ذلك الفريق مما يدعو إلى التشجيع.
وعندما التقى "عصام" بالمسؤول الذي رافق الحملة واستفسر عن والده، لم يحظ بسوى أخبار أو نتف أخبار فاقمت من جزعه على والده، ومن خوفه على مصيره قال له:
- إننا لا ندري أين هو، ولا نعرف إن كان حيًا أو ميتًا.
- ولكن ماذا حدث له؟ أين كنتم عندما اختفت أخباره؟ ألم تبحثوا عنه؟
- لقد بذلنا كل جهدٍ ممكن للعثور عليه أو اكتشاف مكان وجوده. ولكن كل محاولاتنا ذهبت سدى! وعلى الرغم من المساعدة التي تلقيناها من رئيس القبيلة، واهتمامه الزائد في معرفة ماذا حدث له، فإننا أخفقنا في اكتشاف أي أثر له؟
- ألم يكن معكم عندما اختفى أثره؟ هل تبخّر هكذا فجأة وكأنه لم يكن؟
فكر هذا المسؤول لحظة، ثم أجاب بصوت حزين:
- الحقيقة إن والدك كان يتردد على مرضاه وحيدًا أحيانًا في أوقات غريبة من الليل. ونحن نعتقد أنه قد اختفى خبره بعد إحدى هذه الزيارات. إن الإبهام يسود هذه القضية.
- أليس هناك من يتابع البحث عنه؟
- لقد اتصلنا بقنصل بلدنا، فوعد أن يواظب على الاتصال بالجهات المعنية، كما تعهد رئيس القبيلة أن يسخّر كل طاقاته في سبيل إماطة اللثام عن هذا الاختفاء المشبوه. إنه يحسّ بنفسه مديونًا لوالدك الذي اعتنى بزوجته التي كانت مشرفة على الموت فاستخدمه الرب في شفائها.
أطبق الصمت على "عصام"، وأحسّ بدبيب اليأس يسري في جسده كله، وأطرق برأسه وكأنه يخاطب الله من خلال ظلمة الأسى الذي أخذ يراوده: يا إلهي! لقد ذهب والدي في خدمتك، فلماذا سمحت بأن يتعرض لهذه المأساة؟ أنت وحدك أيها الآب الذي تعرف ماذا أصابه وأين هو موجود في هذه اللحظة.
وعندما عاد إلى شقته كان الحزن الشديد قد استبدّ به، وأحسّ بأن الدنيا كلها قد تحوّلت في عينيه إلى هوّة سحيقة مليئة بزعيق رهيب من أصوات مفزعة بعثت فيه الرعب. وهاجمته الخواطر التي بدت له في لحظات شقائه كأخيلة عمالقة تتراقص أمام عينيه؛ ولأول مرة منذ اختفاء والده اعتراه اليأس من رجوعه، أو من حدوث معجزة تحفظه من كل خطر وتعيده سالمًا إليه. وأكثر ما أفزعه، أن يكون قد وقع في قبضة بعض شراذم الثوار الذين اكتظت بهم الغابات التي يحتمون بها من هجمات القوات الحكومية المفاجئة.
وأكثر من مرة خطر بباله أن يقوم برحلة بحث عن والده في تلك المنطقة الخطرة التي فقدت الحكومة سيطرتها عليها لعله يستطيع أن ينقذ والده مما قد يكون قد ألمّ به من دواهي هذا الدهر. ولكنه أحسّ بالعجز، وليس هناك أصعب من الشعور بالعجز عندما يجد المرء نفسه أمام مأساة أو كارثة لا يجد معها أي منفذ أو مهرب؛ والشيء الوحيد الذي كان في مقدوره أن يفعله هو أن يصلي لمن هو موجود في كل مكان.
* * * * * * *
انتحى الطبيب ركنًا في كوخٍ طينيٍّ لا يكاد يجد فيه مقعدًا يجلس عليه أو فراشًا يرتاح إليه. لقد تناوشته الوحدة، وشعر بأنه معزول عن عالمه الذي يعرفه، وأنه في تلك اللحظة مكبّل بقيود خفيّة لا يستطيع منها مهربًا. إنه يدرك أنه أسير فئةٍ من الثوار الذين لا يعرف عنهم شيئًا. كان في طريقه لزيارة مريضٍ من أبناء القبيلة التي جاء ليخدم بينهم عندما قبض عليه الثوار وقادوه إلى مخابئهم. كان في إمكانهم أن يقتلوه، ولكن لسبب من الأسباب أبقوا على حياته. ربما لأنه طبيب يمكن الاستعانة بمهارته الطبية إذا ما أصاب أحدهم مكروه، أو ربما ظنوا أنه في طوقهم الحصول على فدية من حكومته أو ذويه مع بُعد المسافة بين البلدين. لم يسيئوا معاملته ولكنه ظل تحت مراقبة شديدة خوفًا من أن يتمكن من الهرب. إنه في ربقة أسره لا يفعل شيئًا سوى أن يحصي أيام سجنه. كان يدرك أن عيد الميلاد بات قريبًا وسيكون هذا العيد هو أول عيد يحتفل فيه بعيدًا عن ابنه الوحيد "عصام". فقد ماتت زوجته منذ أربع سنوات، وبقي ابنه عزاءه الوحيد في هذا العالم الظالم، وها هو الآن رهين الأسر في إحدى غابات أفريقيا حيث لا يدري أين يقيم. أحسّ بالحزن يتناوحه وأخذت الذكريات تهاجمه من كل جانب فتفاقم شعوره بالوحدة. إنه يدرك أن ليس له أحد إلا الله.
ونحو الساعة الثالثة صباحًا، هرع أحد الثوار إلى كوخه وقال له:
- أسرع، تعال! إن قائدنا قد أُصيب بجرح خطير!
تناول الطبيب حقيبته الطبية، وأسرع وراءه إلى كوخ أكثر اتساعًا، فرأى قائد تلك الفرقة طريحًا على فراش قديم يتلوّى من الألم، فانكبّ عليه يفحصه فوجد أنه مصاب بجرح في كتفه والدماء الغزيرة تنزف منه. كانت عيون الثوار ترقب بحذر وكأنها تخشى أن يقوم بخدعة تودي بحياة قائدهم؛ ولكن ذلك لم يزعجه، بل ثابر على معالجته، فأخرج الرصاصة من مكمنها، وضمّد جرحه بعناية، وقضى كل ليلته بجواره يصلي من أجله ويطلب له الشفاء.
فجأة فتح القائد عينيه فرآه منحني الرأس يتمتم بكلمات لم يسمعها بسهولة، فخشي أن يكون الطبيب يردد بعض التعاويذ السحرية التي قد تفضي إلى موته. ولكن الطبيب، بعد لحظة، أحسّ بالقائد ينظر إليه بنظرات نفاذة فسأله:
- كيف تشعر الآن؟
- هل أنا في خطر؟
- إن لم يلتهب الجرح فأنت ستكون بخير.
بغتة سأله القائد:
- بماذا كنت تتمتم؟
- كنت أصلي من أجلك؟
- من أجلي أنا؟
- نعم، من أجلك كي تشفى وتعرف مخلصك.
- أي مخلص تعني؟
نظر إليه الطبيب بهدوء، وسأله:
- هل سمعت بالرب يسوع المسيح؟
- أتقصد إله المسيحيين؟
- نعم، إله المؤمنين المسيحيين الذي مات من أجلك ليفتديك من خطاياك.
لاحت على شفتي القائد ابتسامة هازئة وتساءل:
- لماذا يموت الإله من أجل إنسان لا يكترث له أو يؤمن به؟
- لأنه خالقك، ولأنه يحبك أيضًا.
غمغم القائد بنبرات شبه ضائعة، وتساءل:
- يحبني أنا؟
ابتسم الطبيب برفق وحنان، وأخذ يسرد عليه قصة ميلاد المسيح وصلبه وقيامته لكي يفتدي الإنسان من آثامه ويؤمّن له الحياة الأبدية. وقال له:
- كان في وسع المسيح أن يقضي على جميع أعدائه في طرفة عين، غير أنه لم يأتِ لإهلاكهم بل لينقذهم من هول الجحيم. إن محبته تفوق كل فهم، وهو ليس إله الحقد والغضب والانتقام، ولكن إله السلام والخلاص والمحبة.
صمت القائد لفترة ما مفكرًا، ثم سأله:
- هل يمكن لهذا الإله أن يغفر لي جميع خطاياي التي لا تُحصى؟
- إنه يحبك وهو قادر أن يغفر لك ويهبك الحياة الأبدية.
- ألهذا كنت تصلي من أجلي، أنا آسرك الناوي على قتلك؟
- نعم، إن محبة المسيح التي فيّ تفوق نقمتي عليك وكراهيتي لك!
دخل أحد الثوار آنئذ إلى الكوخ، ورافق الطبيب إلى مكان إقامته تحت الحراسة.
وفي صباح اليوم التالي عندما ذهب الطبيب لمعاينة جرح القائد، قال له:
- غدًا في مثل هذا الوقت سيرافقك اثنان من الثوار إلى جوار القبيلة التي كنت تخدم بينها. ولعلَّ السلام يحلّ يومًا في هذا البلد فتأتي لزيارتنا ليس كأسير بل كضيف مكرّم... أما مسيحك فسيكون مسيحي في ما تبقّى لي من أيام على قيد هذه الحياة.
وعندما دقّت أجراس عيد الميلاد كان الطبيب يحتفل بالمولد المجيد مع ابنه عصام.

المجموعة: كانون الأول December 2012