كانون الثاني - شباط Jan-Feb 2013

الدكتور أنيس بهنامأرجو أن تقرأ يوحنا 1:4-42
"أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهاَ: لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا" (يوحنا 10:4).
لو كنتِ تعلمين!
يا لها من كلمات خطيرة!
لو كنت تعلم... "لو عرفوا (أي علموا) لما صلبوا رب المجد". حقًا، ما أخطر الجهل بالأمور الروحية المتعلقة بالمصير الأبدي!
هذه المرأة السامرية كانت تجهل ثلاثة أشياء:
أولاً: العطية، عطية الله التي يقدمها للإنسان.
ثانيًا: المعطي، الذي يعطي بسخاء ولا يعيّر.
ثالثًا: ما هو الماء الحي.

أولاً: عطية الله

ما هي عطية الله؟ يقول الرسول بولس في رومية 23:6 "لأن أجرة الخطية هي موت، أما هبة الله (أي عطيته المجانية) فهي حياة أبدية". وقال الرسول يوحنا في رسالته الأولى 20:5 "وَنَعْلَمُ أَنَّ ابْنَ اللهِ قَدْ جَاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْرِفَ الْحَقَّ. وَنَحْنُ فِي الْحَقِّ فِي ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. هذَا هُوَ الإِلهُ الْحَقُّ وَالْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ". إن عطية الله لنا غير محدودة وتفوق الوصف. فهو أعطانا ابنه الحبيب... وأعطانا روحه القدوس... وأعطانا كتابه المقدس الذي هو سراج لأرجلنا ونور لسبيلنا. لا عجب أن الرسول بولس يقول: "فشكرًا لله على عطيته التي لا يُعبَّر عنها" (2كورنثوس 15:9). كل هذه العطايا تقودنا للشكر والسجود لله. فلولاها لبقينا أمواتًا بالذنوب والخطايا التي سلكنا فيها قبلاً، ولكان مصيرنا الهلاك الأبدي الذي هو الموت الثاني. ولولاها لما عرفنا الحق بل بقينا في الجهل والظلام. ما أثمن الكتاب المقدس! فهو كلام الله الموحى به الذي يعطينا الحكمة الحقيقية. هو كنز ثمين قال عنه كاتب مزمور 119 في عدد 72  "شَرِيعَةُ فَمِكَ خَيْرٌ لِي مِنْ أُلُوفِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ". وأعطانا الرجاء المبارك، رجاء مجيء ربنا يسوع المسيح ليأخذنا لنكون معه "وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ" (1تسالونيكي 17:4). هذا الرجاء لا يخزي، أي لن يفشل أبدًا "وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي، لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا" (رومية 5:5). الروح القدس يسكن فينا، وبه نميت أعمال الجسد، فنعيش حياة الانتصار الروحي، والفرح، وحياة التقوى إذ ينشئ فينا ثمر الروح (غلاطية 22:5).

ثانيًا: من هو المعطي؟

قال الرب يسوع للمرأة السامرية: "لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لكِ أعطيني لأشرب"، فكما كانت تجهل عطية الله، كانت أيضًا تجهل المعطي الذي يقدم للإنسان عطيته، بل عطاياه غير المحدودة. إنه يسوع المسيح، صورة الله غير المنظور... هو بهاء مجده، ورسم جوهره، والحامل كل الأشياء بكلمة قدرته. هو "الله ظهر في الجسد" الذي جاءنا مملوءًا نعمة وحقًا. قال: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم". يمكننا أن نقول أن مشكلة الإنسان الكبرى تتلخّص في عدم معرفته لله ، فهو إنسان ينكر وجود الله، أو لا يبالي بهذا الأمر، أو يظن أن الله إله قاسٍ وصارم. فمنذ أن سقط الإنسان في الخطيئة فَقَد معرفته لله المعرفة الحقيقية الصحيحة، وأصبح يظن أن الله يطالبه بما لا يستطيعه الإنسان، وأصبح لا يعرف أن الله يريد أن يمنحه السعادة الحقيقية، ولذلك من واجب المؤمن أن يعلن للجميع صلاح الله، فيقول مع داود: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب. طوبى للرجل المتوكل عليه" (مزمور 8:34). إني أعتقد أن هذه الفكرة الخاطئة عن الله هي سبب هلاك كثيرين من الناس. نعم، هو إله قدوس يكره الخطيئة ولكنه يحب الخاطئ ويرحب به ليمنحه الخلاص. قال الرب يسوع عن نفسه: "لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لوقا 10:19). علّمنا المسيح في مثل الابن الضال (لوقا 11:15-24) كم يرحب الله بالخاطئ التائب، كما قال أيضًا أنه يكون فرح في السماء أمام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب (لوقا 7:15 و10).
إذ نتأمل في العطية والمعطي نردد في قلوبنا ما قاله الرسول بولس: "فَمَاذَا نَقُولُ لِهذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا، فَمَنْ عَلَيْنَا؟ اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟"
(رومية 31:8-32).

ثالثًا: الماء الحي

قال الرب يسوع للمرأة السامرية: "لو كنتِ تعلمين عطية الله، ومن هو الذي يقول لكِ أعطيني لأشرب لطلبت أنتِ منه فأعطاكِ ماء حيًا". هي جاءت لتستقي ماء من البئر لتروي عطشها الجسدي، ولكن كانت في حاجة أشد لما يروي نفسها. لقد تزوّجت عدة مرات ولكنها أخيرًا عاشت مع رجلٍ لم يكن زوجها؛ إلى هذا الحدّ تدهور الجنس البشري في أيامنا هذه حتى أصبح مثل هذا التصرف مقبولاً عند كثيرين، ولكنه لم يكن ولن يكون مقبولاً عند الرب الذي أشفق عليها، وجاء إلى بئر سوخار خصيصًا لكي يتلاقى معها. قام برحلة متعبة لكي ينقذ امرأة ساقطة بائسة... وبأسلوب لطيف وحنون تكلم معها لا لكي يهينها بل ليربحها، لينقذها ويهديها إلى حياة سعيدة. وهذه ليست هي المرة الوحيدة التي فيها أظهر المسيح نعمته نحو امرأة ساقطة ينبذها المجتمع. إقرأ لوقا 36:7-50 ويوحنا 2:8-11 لترى نعمة الله نحو امرأة عرفت بأنها امرأة خاطئة.
قال المسيح للمرأة السامرية أنه يمكنه أن يعطيها ماء حيًا. ولكنها لم تفهم المقصود من الماء الحي. فقال لها هذه العبارة البليغة: "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا". يا لها من موعظة ذات أهمية كبرى! فالإنسان يشرب من مياه وموارد هذا العالم مثل الملذات، أو السعي وراء الغنى، أو الشهرة، أو السلطة والنفوذ، ويشرب ويشرب لكنه يعطش ويعطش أكثر ولن يرتوي أبدًا! وفي النهاية يقول مع سليمان الحكيم: "الكل باطل وقبض الريح".
ظن الابن الأصغر أنه سيجد السعادة بعيدًا عن أبيه، ولكن وصل به الأمر إلى أنه "كان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب التي كانت تأكله الحنازير فلم يعطه أحد" (لوقا 16:15). يا لها من مأساة تتكرر كل يوم في كل مكان. منذ أن صدّق أبوانا الحية القديمة، أي إبليس، والجنس البشري يبحث عما يروي عطشه ولا يجده في موارد هذا العالم لأن "من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا". يشرب ويشرب ولكنه يعطش ويعطش إلى أن يموت عطشانًا ومسكينًا بائسًا.
آبار هذا العالم لا تروي قلب الإنسان. قال الرب قديمًا عن بني إسرائيل: "لأَنَّ شَعْبِي عَمِلَ شَرَّيْنِ: تَرَكُونِي أَنَا يَنْبُوعَ الْمِيَاهِ الْحَيَّةِ، لِيَنْقُرُوا لأَنْفُسِهِمْ أَبْآرًا، أَبْآرًا مُشَقَّقَةً لاَ تَضْبُطُ مَاءً" (إرميا 13:2). ولكن الأخبار المفرحة هي أن الرب يقدم للجميع الماء الحي، ومعه هذا الوعد والضمان الأكيد: "من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يوحنا 14:4). كما قال في يوحنا 37:7-38 "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه (أي من داخله) أنهار ماء حي".
إن من يشرب من هذا الماء الحي لن يعطش إلى المياه الراكدة الملوّثة بكل أنواع الجراثيم. لما طلبت المرأة السامرية من الرب أن يعطيها هذا الماء الحي - وهي لم تفهم المعنى المقصود - قال لها الرب: "اذهبي وادعي زوجك"، وبذلك قادها بلطف وبحكمة للاعتراف بحقيقة أمرها. لم يوبخها ولم يؤنبها، ولكنها أدركت أنها في محضر من يعرف كل شيء عنها، فآمنت به وأخبرت الآخرين عنه. هذا يأتي بنا إلى موضوع مهم، وهو:

مسؤولية المؤمن

لقد وضع الرب على المؤمنين هذه المسؤولية التي هي واجب وامتياز في نفس الوقت، وهي أن نخبر الآخرين بكم صنع الرب بنا ورحمنا. قال الرب يسوع لتلاميذه بعد قيامته: "كما أرسلني الآب أرسلكم أنا" (يوحنا 21:20). هذه المرأة السامرية ذهبت إلى البئر لتستقي ماء، لكنها تركت الجرة وذهبت لتخبر الآخرين. لأنه حقًا "كيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون بلا كارز؟" (رومية 14:10).
ليت الرب يثقل قلوبنا بهذا الخصوص، لنقوم بهذا العمل، أو نعضده بالصلاة وبالاشتراك في تكاليفه "لكي يعرف الجميع فدى يسوع"، آمين.

المجموعة: كانون الثاني - شباط Jan-Feb 2013