أذار March 2013

الأخت أدما حبيبيأيها العزيز ثاوفيلس، يا مُحِبَّ الرب، إليكَ وللأمم وللناس أجمعين، وفي كلِّ مكان، شرعتُ أدوّنُ هذه الأحداثَ الجسام بشكلٍ شاملٍ ومفصَّل، لكي تكونَ أنتَ متيقِّنًا بالتمام، وعلى علمٍ بكلِّ ما سلَّمَنا إيَّاهُ الأوَّلون المتمسِّكون بالزِّمام، والذين كانوا منذُ البدءِ معاينينَ، وخادمين للكلمة بكلِّ اهتمام. إليكَ أكتبُ أيُّها الصديق العزيز بإرشادِ الروح القدسي، عَّما تتبَّعْتُه أنا بكلِّ دقةٍ وعنايةٍ لكي تعرفَ صحةَ الكلام الذي عُلِّمتَ به،  فيثبتَ ويكونَ بشارةً سارةً لكلِّ قارئٍ باحثٍ، وسامعٍ منصتٍ، ولكلِّ قاصٍ ودانٍ، ولكلِّ بعيدٍ وقريب.


أما الحدث الأهمُّ الفائق، يا ثاوفيلس، فهو الميلادُ المعجزي لابنِ الله، فقد ولد ابنُ الله إنسانًا ليصيرَ اللهَّ المتجسد. يسوعُ المسيح ابنُ الله هو أيضًا ابنُ الإنسان من خلال الميلاد العذراوي من مريم العذراء المباركة بين النساء. لكن سبق إعدادٌ لهذا الحدث التاريخي العظيم، إذ أنبأ الملاك عن ولادةِ مَن يهيئُ له الطريق ويمهّد له السبيل، عن ولادة يوحنا النبي من زكريا الكاهن وزوجته أليصابات المتقدِّمين في السن. وانفرد ميلاد يسوع المسيح بإعلانات من السماء لسكان الأرض، وبتصريح الملائكة بحلول السلام على الأرض وبالناس الذين سُرّ بهم الله. نعم وهكذا صار. ومن طفلٍ مولودٍ في بيت لحم، تدرَّب في بيت يوسف النجَّار، إلى فتىً في الثانية عشرة يحاجُّ ويناقش معلمي الشريعة في الهيكل حول الأمور اللاهوتية،  إلى إنسانٍ كامل، ترعرع ونَما في كلّ مظاهر الحياة الإنسانية مثلَنا، من غير أن يتخلى عن ألوهيته الكاملة؛ كلُّ ذلك ليصبحَ قادرًا تمامًا على إتمام رسالته لبني البشر الذين التحم بهم وصار منهم.
دخل يسوع تاريخ البشرية، وعاش كنموذجٍ مثاليٍ كاملٍ للإنسان. واعتمد من يوحنا في البريَّة، قبل أن يبدأ خدمته الجَهرية، ليس لأنَّه كان بحاجة أن يعتمد منه، بل لكي يكمّل كل برّ، ولتعلنَ السماءُ بأنَّه هو الابن الذي وحده أسرَّ قلبَ الآب لِما سيقوم به من حملٍ لخطايا العالم أجمع. وبعدَ تعرّضه للتجربة في برية اليهودية ودَحْره إبليس حيث ترك مثالا لبني آدم في تحقيق الانتصار الأكيد، عاد إلى الجليل ومن هناك في مجمع اليهود في الناصرة، قرأ لهم ما قاله النبي إشعياء: "روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية وأكرِزَ بسَنَة الرب المقبولة." وصرَّح لهم بأعظم تصريحٍ قطّ عمّن يتكلم النبي حين أضاف: "إنَّه اليوم قد تمَّ هذا المكتوبُ في مسامعكم" (لوقا 4). فراح الجميعُ يشهدون له ويتعجَّبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه.  
ومن هناك ابتدأت الانطلاقةُ الأولى، ومن الناصرة بالذات. حيث بدأ يسوع يكرزُ ويعلّم ويشفي المرضى. وفي هذه الأثناء، اختار لنفسه مجموعةً من اثني عشر تلميذًا، ليكونوا معه مرافقين، وفي بشارة ملكوت الله مشاركين. ولكونِه ابنَ الإنسان أيضًا، فقد أظهر اهتمامًا عميقًا بالناس، وحنانًا دفيئًا غامرًا بكلٍّ منهم، إذ جلس إليهم وتحدَّث معهم، وسمع لهم. وأسَّس علاقاتٍ جمّةً في مجتمع الإنسان، كما أبدى اهتمامًا كبيرًا بالرجال، والنساء، والأطفال على حد سواء. لم يُفرّق قطُّ بينَ فئات المجتمع، بين غنيٍّ أو فقير أو معوز، بين متألم وبارٍّ أو خاطئ. كان صدرُه رحبًا يقبلُ الجميع وهو لم يرفضْ أحدًا قطّ. علّم الرب يسوع جموعًا غفيرةً من الناس مستخدمًا الكثير من الأمثال التي اشتملت على قصص قريبة من واقعهم، مقرِّبًا حقائقَ مفهوم ملكوت الله من عقولهم ومداركهم. فآمن البعضُ به ورفضَه البعض الآخر. لم يقتصرْ يسوعُ المسيح على تعليم الناس فقط، بل كان يشعر معهم إلى درجة أنَّه أحيا ابن الأرملة في نايين، لأنَّه مليءٌ بالعطف والحنان. ثم غفر لامرأة خاطئة أتت إليه في بيت الفريسي وراحت تدهن قدميه بالطِّيب وتمسحهما بشعر رأسها على الرغم من إدانة الفريسي لها. وتبعَتْ يسوع بعضُ النسوة من اللاتي شفاهنَّ فَرُحْن يخدمْنَه من أموالهن. لقد منح يسوعُ المرأةَ مكانة مميَّزة بفعل نظرتِه السويَّة، وحظيتْ مُذْ ذاك على ما كانت تفتقده ُمن معاملة حسنةٍ ومركزٍ محترم.
ولكنْ كلُّ ذلك لم يعجبِ اليهودَ ولا رؤساءهم، بل زاد ذلك من غضبهم عليه ورفْضِهم له. حتى إنهم أتوا إليه وهو في البستان يصلي مع التلاميذ بالسيوف والعصي وسّلمه يهوذا أحد تلاميذه المقرَّبين، بقبلةٍ مزيَّفة، ساقوه على إثرها إلى المحاكمة. يا لهول المنظر! كأنه على لص خرجوا، وهو الذي كان معهم دائمًا. وهزئوا به وسخروا منه وبات العدوّان اللدودان (بيلاطس وهيرودس) صديقَيْن حميمينِ بعدَ كرٍّ وفرٍّ من الاستجواب والاستقصاء عن آياته وصنائعه وسلطانه وحقيقة هويَّته. رضخ بعدها بيلاطس إلى  مطالب الشعب، والأمة التي كانت تصرخ: اصلبه اصلبه. هذا الذي لم يعملْ شرًا ولم توجد فيه علّة للموت، بل ظلمًا وبهتانًا حكموا عليه. وسمع المسؤولون الرومان، ذوو الحكم والسلطان، لكلام الرَّعاع من الشعب، وانقادوا لصوت الغوغاء من الكبار والصغار، وأسلموا يسوع ابن الإنسان وابن الله لمشيئتهم الدنيئة، ليُصلب هناك على تل الجمجمة خارج المدينة.
نعم، أيها العزيز ثاوفيلس، هناك علَّقوا يسوع على الخشبة بين لصين مجرمَيْن. لكن كلماته التي انطلقت من بين شفتيه ساعتئذ حيّرت الناس كثيرًا، لأنها سمَت وارتقَت فوق كلِّ ما يمكن أن يتصوّره العقل والوجدان. إذ فاه يسوع قائلاً: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون". لقد طلب الغفران من الله أبيه لصالبيه ومعذّبيه. وما هي إلا ساعات حتى غطى الظلام أرض الإنسان لمدة ثلاث ساعات. وبدت الطبيعة كلُّها وكأنها غاضبة على ما يحدث. فانشقَّ حجابُ الهيكل من فوقُ إلى أسفل وصرخ يسوع بصوت عظيم: "بين يديك أستودع روحي". قال هذا وأسلم الروح. وإذا رجل اسمه يوسف كان صالحًا وبارًا، هذا تقدَّم وطلبَ الجسد، وأنزلهُ ولفَّه بكتانٍ ووضعه في قبر منحوت في الصخر جديد، لم يستقرْ فيه أحدٌ بعد.  وفي أول الأسبوع عند الفجر الباكر، شوهدت النسوة متَّجهاتٍ نحو القبر آخذاتٍ معهن الحنوطَ والأطياب ليحنِّطن جسدَ يسوع ابن الإنسان. لكنْ أصابتهن الدهشة وكاد أن يُغشى عليهن من المفاجأة، لأنهن وجدن الحجر الكبير قد دُحرج عن باب القبر. فساد الخوفُ عليهن، وبينما هن محتارات، إذا برجلان يقفان بهنَّ ويقولان لهن: "لماذا تطلبن الحي بين الأموات ليس هو ههنا لكنه قام. اذكرن كيف كلمكن قائلا إنه ينبغي أن يسلم ابن الإنسان في أيدي أناس خطاة، ويصلب وفي اليوم الثالث يقوم. فتذكرن كلامه". فما كان منهنَّ إلا أن تركْنَ كلَّ شيء ورجعن ليُخبرن الأحدَ عشر والباقين معهم. فاتهموهنَّ بالهذيان. أما بطرس المقدام، فقام وركض إلى القبر بسرعة البرق، ليتأكَّد بنفسه. فوجد الأكفان موضوعةً جانبًا وحدها. فتعجَّب جدًا ممَّا كان. وكذا تلميذان آخران كانا منطلقَيْن إلى عمواس راحا يتناقشان بجميع هذه الحوادث التي جرت. فإذا بيسوع يلاقيهما في الطريق لكنهما لم يعرفاه إلا عند كسر الخبز معهما في البيت. إذ رأيا آثار المسامير في يديه. فقفلا راجعَيْن ليخبرا التلاميذ الباقين.
وبعد ذلك ظهر يسوع ابنُ الإنسان المقامُ من بين الأموات إلى تلاميذه مطمْئِنًا إيَّاهم بكلامه الهادئ وقائلا لهم: سلام لكم. ومن جزَعهم ظنُّوه روحًا. لكنَّه عاد وأراهم يديه ورجليه. وبقوا غير مصدقين من الفرح الذي سيطر على كل واحد منهم حتى أكل معهم. عندها أكَّد لهم ما كتب عنه في ناموس موسى والأنبياء والمزامير. فانفتحتْ بصائرُهم إذ أنار عقولهم وقلوبهم مؤكِّدًا لهم بأنه كان ينبغي أنَّ المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث.  
تيقَّن أيها العزيز بأنَّ يسوع المسيح هذا لم يكن طيفًا أو خيالاً بل كان إنسانًا حقيقيًا مشى بيننا، وعاش على أرضنا، وشفى أمراضنا، وأقام موتانا، ومن ثمَّ مات على الصليب. لكنه قام من بين الأموات متممًا بذلك فداء الإنسان. وأخيرًا صرَّح بأنَّنا نحن تابعيه لدينا رسالةٌ بهيجة نقدِّمها للعالم أجمع هي البشارة السارَّة بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم. فيسوعُ هذا ليس هو معلمًا فحسب، بل يهتم بكل شخص في الوجود. لهذا أتى إلينا آخذًا طبيعتنا الجسدية، ملتحمًا بنا إلى الأبد لكي نكونَ معه نحن إلى الأبد أيضًا. هذا هو يسوع المسيح ابنُ الله وابنُ الإنسان مخلّص العالم، ربُّنا المنتصر المقام من بين الأموات. هذا الكلام هو محور الإيمان لنا وللأجيال القادمة وحتى نهاية الزمان. أجل، يا عزيزي ثاوفيلس، بزغَ فجرٌ جديد في تاريخ البشرية هو فجرُ القيامة المجيدة، وبدأ عصرٌ مميَّز يعيش فيه كل من يؤمن به في شركة وعلاقة حميمة بالروح القدس مع الله الآب المحب.
التوقيع: لوقا الطبيب والبشير

 

المجموعة: أذار March 2013