أذار March 2013

الدكتور صموئيل عبد الشهيد"وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض قد تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتّحت وقام كثير من أجساد الراقدين وخرجوا من القبور بعد قيامته ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين" (متى 51:27-53).
"وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظرا القبر. وإذا زلزلة عظيمة حدثت لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه" (متى 1:28-2).
لا نجد أي ذكرٍ لهاتين الزلزلتين إلا في إنجيل متى الذي عرض علينا قصتيهما بإيجاز شديد.

الزلزلة الأولى

فالزلزلة الأولى حدثت بعد أن أطلق المسيح صرخته العظيمة وأسلم الروح من على خشبة الصليب. هذه الزلزلة فريدة من نوعها في تاريخ الجنس البشري لا من حيث وقوعها، ولكن من حيث توقيتها والنتائج التي أسفرت عنها.
ويمكننا ملاحظة الأمور التالية التي نجمت عن هذه الزلزلة:

أولاً، إنها حين وقعت انشقّ حجاب الهيكل لأول مرة في التاريخ الديني اليهودي منذ بنائه. صحيح أن الهيكل قد تمّ إحراقه ونقضه في زمن الملك نبوخذنصر، ولكن لم يحدث قط أن انشقّ هذا الحجاب من جراء زلزلة إلا في اللحظة التي استودع المسيح روحه بين يدي الآب، وبعد هتافه "قد أُكمل". لا ريب أن هناك علاقة وثيقة بين اكتمال خطة الخلاص التي جاء المسيح من أجلها وبين انشقاق هذا الحجاب الذي ظلّ فاصلاً روحيًا، وتشريعيًا، وطقسيًا بين الأمم واليهود. ولكن بموت المسيح على الصليب، وبهذه الصورة الدراماتيكية التي لا نظير لها، زال أقدس مقدسات الناموس ليحلّ محله عهد النعمة الذي فتح باب الخلاص على مصراعيه لكل أبناء الجنس البشري.

ثانيًا، يوحي لنا توقيتها أنها حدثت بفعل إرادة إلهية تستهدف إعلان بدء عهد جديد مجرّد من الناموسية التي كبّلت العبادة اليهودية والتي عجز أتباعها بلوغ المستوى الذي يرضى عنه الله. كانت كلها رموز مسبقة لأكبر حدث خلاصي هزّ كيان البشرية بأسرها واستمرت أبعاده تحيا بقوة في تضاعيف المجتمع الإنساني. إنها لحظة مشرقة صدرت عمن قال عن نفسه "أنا هو نور العالم". وهكذا، على الرغم من الظلمة التي خيّمت على أرض فلسطين، وربما على العالم بأسره، انطلقت البشارة لتضيء جميع أرجاء المعمورة، وتوافر الخلاص مجانًا لكل من يؤمن بالمصلوب.

ثالثًا، لم تحدث زلزلة في العالم إلا كانت لها نتائج وخيمة من دمار، وموت، ومآسٍ تمزّق نياط القلب. ولكن هذه الزلزلة التي حدثت عند صلب المسيح وما رافقها من مظاهر طبيعية مفاجئة، كانت تختلف عن بقية الزلازل لأنه لم يمت فيها أحد، ولم تنهار البيوت والمدن، بل على النقيض، فإنها كانت زلزلة حياة: زلزلت الأرض وجعلت الصخور تتشقّق، والقبور تتفتّح، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين. ولا يفصح لنا الإنجيل  عما هو المقصود من عبارة "وقام كثير من أجساد الراقدين: لأن بقية الآية تعلن "وخرجوا من القبور بعد قيامته". فهل هؤلاء الراقدون الذين قاموا ظلّوا في حالة سكينة في القبور في انتظار قيامة المسيح من بين الأموات؟ كل ما نعلمه أنهم بعد قيامته خرجوا من القبور ودخلوا إلى أورشليم حيث ظهروا لكثيرين. والظاهرة الثانية التي ما برحت غامضة علينا هي: ماذا حدث لهم بعد قيامتهم من القبور؟ هل عادوا فماتوا ووُريت أجسادهم في القبور في انتظار مجيء المسيح الثاني أم أنهم صعدوا معه إلى السماء؟ نحن لا ندري، ولكن ما يومئ إليه الكتاب المقدس أن تلك الزلزلة كانت زلزلة حياة لأنها أعادت الحياة لتلك الأجساد الراقدة.
يقول ر. ﭪ. تاسكر: إن ظاهرة قيامة الأموات في غضون تلك الزلزلة هي رمز لحقيقة روحية لموت المسيح وقيامته. فإن قديسي إسرائيل القديمة والأتقياء الذين تنبأوا بمجيئه (أي المسيح) أصبحوا متحدين في شركة وثيقة مع مؤمني العهد الجديد، ثم بعد قيامته من الأموات صاروا معه" باكورة الراقدين" (1كورنثوس 20:15).

رابعًا، سبق الزلزلة الأولى ظلام حالك استمر من الظهر إلى الساعة الثالثة عصرًا مما زاد من عزلة المسيح على الصليب، وبلغ الوضع النفسي والروحي أسفل دركات الانحطاط عندما صار المسيح خطيئة من أجلنا مقاسيًا كل أهوال الانفصال عن الآب؛ هذا الانفصال الذي ولّدته الخطيئة، ولا سيما حين ترددت أصداء صرخته في جميع أنحاء الكون: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" وللأسف إن هذه الصرخة وإن دوّت في مسامع الكثيرين فإنها لم تحظَ باهتمامهم؛ أما الذين التقطوا صداها أوّلوها على أنها صرخة المتألم مما يعانيه من ضيق، مع أنهم ظنّوا أنه كان ينادي إيليا للإسراع إلى معونته.

خامسًا، إن هذه الأحداث المدهشة كان لها أبلغ تأثير على بعض المشاهدين من يهود ورومان. فما عاينه قائد المئة الروماني من الخوارق جعله يعترف أن يسوع هو حقًا ابن الله، وهو ذات الاعتراف الذي حفز رؤساء الكهنة على أن يحكموا على المسيح بالصلب. غير أن ردة فعل هذه الأحداث كانت تختلف كليًا في موقف هذا القائد. فقد رأى فيها يد الله العظيمة ولم يكن لديه أي تفسير آخر لها.
فلا غرابة أن ترتعد الطبيعة، وتتعرّض لمثل هذه الهزات لأن المصلوب كان ابن الله. هذا يسوع التاريخي الذي جاء إلى العالم ليفتدي البشرية. لم يكن وهمًا أو أسطورة من أساطير الأمم الوثنية، بل مسيح الله ومخلص الإنسانية. ولم يحدث قط في التاريخ الواقعي أن جاء ابن إله ليموت صلبًا، ليس من أجل أحبائه بل من أجل فداء أعدائه. وأكثر من ذلك أن يموت البار من أجل الأثمة.

الزلزلة الثانية

أما الزلزلة الثانية التي حدثت فقد كانت في يوم القيامة. إن هذه الزلزلة كانت تختلف إلى حدٍّ بعيد عن الزلزلة الأولى إذ يبدو أنها كانت زلزلة محلية اقتصرت على البقعة التي دُفن فيها يسوع والتي قام الجنود بحراستها.
حدثت هذه الزلزلة عند فجر أول الأسبوع في الوقت الذي جاءت فيه مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظرا القبر. لا ريب أنها كانت زلزلة عظيمة لأن في هذه المرة نزل ملاك الرب من السماء وجاء ودحرج الحجر. لقد بلغ من تأثير هذه الزلزلة ووجود الملاك الماثل أمام الحراس والذي "كان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج"، أن اعترى الحراس الخوف منه وصاروا كالأموات. فقدوا القدرة على الحركة ولم تُجْدهم الأسلحة التي كانوا مدججين بها في مقاومة هذا الحادث العجيب. ولا شك أن هذا الملاك هو أول ملاك يرونه في حياتهم. استولت عليهم الرعدة أمام بهاء الملاك وتأثير الزلزلة. ولكن هذه الزلزلة كانت زلزلة فرح وابتهاج مجردة من الظلمة. ففي الظلمة معنى الموت والكآبة والحزن. هكذا كان الوضع في موت المسيح، إله الكون مات. ولكن الآن انقلب الموقف كليًا. إنها لحظة القيامة البهيجة المنتظرة التي لم يصدّق أحد تحقيقها؛ فلا التلاميذ أيقنوا بحدوثها، ولا رؤساء الكهنة والفريسيين صدقوا وقوعها، وطبعًا أنكر  بيلاطس البنطي الروماني الأممي إمكانية قيامة المسيح الذي أشرف قائده على صلبه. إن إمكانية قيامة مثل هذه هو محض خيال. لهذا كانت المفاجأة مذهلة حتى للتلاميذ. لم يكن في هذه الزلزلة صراخ أو عويل وانتحاب. كانت زلزلة انتصار الحياة على الموت. دُحرج الحجر. لم يبق هناك ما يسدّ مدخل القبر إذ فقد الموت سلطانه، لهذا هتف بولس الرسول في ما بعد:
أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتكِ يا هاوية؟". لم يكن في وسع الموت أن يحجز المسيح عن القيامة الأبدية التي صارت واقعًا حيًّا لقيامة جميع المؤمنين.
إن القيامة هي تاريخ روحي وواقعي مجيد لم تحتكره أمة دون أمة، ولا منطقة جغرافية دون أخرى. هي شاملة للكون بأسره ومعجزة المعجزات التي ما برح تأثيرها الفعلي سرمديًا على البشرية بأسرها. ولولا هذه القيامة لكان إيماننا باطلاً.

المجموعة: أذار March 2013