أذار March 2013

الدكتور القس إبراهيم سعيدانتصف شهر نيسان (إبريل) فبلغ قمر عيد الفصح "بدر التمام"، فأضحت أضواؤه في أروع بهجتها، وتفتحت أزاهير الربيع فبلغت أبهج روعتها، ورقدت أورشليم الخائنة بعد أن غدرت بأصفى بنيها، فسكرت بكأس يوم الجمعة الحزينة، وقد امتزجت فيها الدماء بالدموع، واطمأنت إلى أن "مصلوب الجلجثة" قد بلغ نهايته المحتومة، فوضعته في قبرٍ من صخر، وألقمت ذلك القبر حجرًا كبيرًا ليصمت إلى الأبد، وأقامت حوله حراسًا من أقوى جنود الرومان.
هللت أورشليم وكبرت وقالت: لقد ظفر الباطل بالحق، وانتصر الظلام على النور، فلن تقوم للمسيح فيما بعد قائمة.
وفي نشوة سكرتها رقدت أورشليم الغادرة، فألقى عليها الليل وشاحًا فضيًا مطرزًا بنجوم العيد الخافتة، ووضع على جبينها نقابًا دقيقًا شفافًا نسجته أشعة أضواء القمر الناصعة، فنامت ملء جفنيها مطمئنة إلى أن ذاك الذي صُلب على الجلجثة لا يمكن أن يعود.
وظلت القرية الظالمة هانئة ناعمة طول يوم السبت لأنه يوم راحتها المقدسة، وكم من مرة يستريح فيها القاتل فوق جثة القتيل، ويتخذ من أنّاته وتأوّهاته قبيل احتضاره، أعذب أنغام موسيقية يرقص على إيقاعها. وفي نشوة أورشليم تحرك ذلك القبر ولفظ ذلك الحجر.
وقبيل شروق شمس الأحد، ظهر من خلال الظلام شبح امرأة مجللة بالسواد، عليها بقية من نضارة ذاهبة، وفيها مسحة من جمال عبثت به الأيام والآلام، فكانت في سيرها واهنة كالظل وفي وقفتها شاحبة كالخيال، غير أنها رددت كلمات أقوى من دوى الرعد: "لقد ظفر المسيح وقام. نعم، رأيته قد قام، ورأيت الحجر مدحرجًا عن القبر".
وما كادت أشعة شمس يوم الأحد تطرد البقية الباقية من جحافل الظلام، حتى قامت أورشليم من رقادها محاولة أن تغسل يديها ووجهها – ولكن من غير جدوى، لأن كل مياهها التي اختزنتها مدة الشتاء لم تقو على محو آثار دماء المسيح من يديها الآثمتين، وإلى جانب ذلك قد علت وجهها حمرة من الخجل، فلم يبق لديها إلا أن تسلم بأن المسيح قد قام حقًا، وأن ما ظنته هي نهاية له، لم تكن سوى بداية، وأن ما قاله حراس الرومان الأقوياء، من أن تلاميذ المسيح قد سرقوا جسده والحراس نيام، لم تكن سوى أضغاث أحلام. فإذا كانوا حقًا نيامًا، فمن أدراهم أن تلاميذه قد سرقوا جسده؟ وإذا كانوا إيقاظًا، فكيف استطاع صيادو الجليل "بشباكهم"، أن يهزموا جنود الرومان المدججين بسيوفهم ورماحهم.
كانت قيامة المسيح نهاية في ظاهرها، ولكنها حملت بين ثناياها بداية الإيمان الحقيقي بشخصه الإلهي، لأنها جاءت معجزة مؤيدة لمعجزات حياته. بمعجزة وُلد، وبمعجزة عاش، وبمعجزة أيضًا كان ينبغي أن يقوم. لقد ظفر المسيح بالموت في أثناء حياته بأقوى المعجزات إذ أقام لعازر من الأموات بمعجزة، وأخذه من بين شدقي القبر أخْذ عزيز مقتدر، لكن معجزة معجزاته هي معجزة قيامته هو، وكيف يعجز عن إتيان مثل هذه المعجزة من كان في ذاته وصفاته وحياته معجزة المعجزات؟
إن قيامة المسيح بداية الإيمان بالحياة الحقيقية. قبله كانت الحياة منسوجة خيوطها من أكفان العدم، فهي في حقيقتها موت بطيء، ينتقل فيها الإنسان من ظهر الأرض إلى باطنها، لكن قيامة المسيح أدخلت إلى الحياة عنصرًا جديًدا هو الحياة نفسها، بعد أنت انتزعت من الموت شوكته، وكسرت سم الأفعى.
إن قيامة المسيح بداية الإيمان بالحياة الحقة، الظافرة المنتصرة – فلو دفن المسيح نهائيًا في قبره لكان هذا إيذانًا بدفن الحق في ظلمة الباطل إلى يوم يبعثون، ولأضحى الإيمان بانتصار الحق أسطورة خيالية. أما وقد قام المسيح من ظلمة القبر، فقد فتح باب الظفر على مصراعيه، وعند قدميه خرت صريعة آلهة الرومان والأوثان. فكل أيام الأسبوع – في لغة الغرب – كان أحدها يومًا للشمس، وآخر للقمر، وثالث لثوراس إله الرعد، ومنذ قيامة المسيح، خرت الدولة الرومانية صريعة عند موطئ قدميه، وأضحت أيام آلهة الرومان بين سباياه.
من أجل ذلك أصبحت قيامة المسيح بدء قيامة الكنيسة. فلو ظل المسيح في قبره، لقبرت معه تعاليمه السامية، وقبرت معه المسيحية، وقبرت معه سمعة الرسل الأطهار. أما وقد قام المسيح فلا بد من قيامة الحق، ولو كره الظالمون، ولا بد من انهيار دولة الباطل إلى يوم يبعثون.
نعم، قام المسيح، فقام معه الحق، وانتصرت معه الحياة – ولكن مبدئيًا ونظريًا... وقام المسيح فقام معه البر وانهزمت الخطيئة – ولكن مبدئيًا ونظريًا... فإذا ما أردنا أن ينتصر الحق نهائيًا، وأن يفوز السلام عمليًا، وجب علينا أن نتحد مع المسيح في موته وحياته، فنحيا معه عمليًا بحياته فينا. عندئذ لا ترعبنا القنابل الذرية، لأن حياتنا مستترة ومرتفعة معه في السماء، ولو أننا نتمشى كخيال على الأرض فيحق لنا إذًا أن نحتفل اليوم وغدًا بعيد نصرة البر على الإثم، فنفرح مع أزهار الربيع التي تحيينا في عيد النسيم بطيب شذاها العطر، فنرتفع في عيدنا عن الدنيا والدنايا، ونرتقي إلى حرية المجد ومجد الحرية، ونهيّئ للفقراء فرصة يجتلون معنا فيها محاسن العيد المجيد.

المجموعة: أذار March 2013