نيسان April 2013

الأخت أدما حبيبيتقلّبتُ في فراشي يُمْنةً ويُسرةً وأنا أحاولُ بعقليَ اللاَّواعي أن أتخلّصَ من تأثيرِ كابوسٍ رهيبٍ هزَّ أعماقي هزًا. وَعُدْتُ من بعدِها لأغطَّ في نومٍ عميق. لكنَّ الحُلْمَ الكابوس، عاد ليتكرَّر من جديد. ورأيتُ نفسي مرةً أخرى في مكانٍ غيرِ معروف، تطغي عليهِ العتمةُ من كلِّ صوبٍ، وصوتُ أناسٍ مجتمعينَ يتهامسون.سونْ.
وأحسسْتُ أنَّ هناكَ قوّاتٍ شريرةً كالأشباحِ تحاولُ إيذاءَ أولئكَ الناسِ المتجمِّعين. فَصِرْتُ أنا نفسي أصلِّي بقوةِ الروح وباسم يسوعَ الحبيب المنتصرِ أن يَطرُدَ تلكَ الكائناتِ المزعجة. وما هي إلاَّ لُحيظات حتى أضاءَ المكانَ شعاعُ نورٍ مفاجئ، فتوضَّحتِ الصورةُ أمامي بشكلٍ كامل. وعندئذٍ شاهدتُ سيدةً أعرفُها جيدًا من الكنيسة التي في  بلدي سوريا، وعلى وجهِها ابتسامةٌ عذبةٌ وهي تجلسُ على رأس الطاولة، وكَذا بدَتْ عائلتُها والأحفادُ جميعُهم متحلِّقينَ حولَ الطاولة في مغارةٍ في قلْبِ الصَّخر، وهم يهمسون: نحنُ في أمان، نعم في أمان. وإثْرَ سَماعي لهذه الكلمات أفقتُ للحال من حُلْمي هذا، وإحساسٌ غامر من الطمأنينةِ الأكيدة يسيطرُ عليَّ، وفكرٌ بهيج يملأُ أعماقي قائلاً: سلامٌ، سلامٌ، سلامٌ لأولادِ الربِّ وسلامٌ لكنيسةِ المسيح.
لم أصدّق بادئَ ذي بدءٍ ما حصلَ معي، ورحتُ أحلّلُ بيني وبينَ نفسي هذا الذي رأيت. وتساءلتُ: أتراهُ كان حُلمًا أم رؤيا؟ أتراهُ لمسةً من عند السيدِ القدير ليُريحَ نفسيَ القلقة لِمَا يعتمِلُ فيها من حُزنٍ على أبناءِ شعبي، أم تُراه دفعةً منهُ تحفِّزني  لكي أصلِّيَ وأستغيثَ من أجل إخوتي أحبّائي، وكلِّ مَنِ انتمى إلى كنيسةِ المسيح في بلدي الذي صارَ ريشةً في مهبِّ ريحِ الغدرِ والشرِّ والظلم؟! مهما كانَ الحالُ، فالسلام كانَ حقيقيًا لأنَّه بعثَ في نفسيَ الراحةَ والاستقرارَ والطمأنينةَ والشكرَ والحمدَ لإلهيَ العظيم.
والآنْ، مرةً أخرى أعودُ إلى تلكَ الليلة لكنْ لأذكُرَ ما سبقَ ذلكَ الحُلْمَ من أحداثٍ شاهدتها وأخرى سمعْتُها عن قَتلى بني شعبي. فقبعَتْ هناكَ لا تبرحُ من ذاكرتي، وحازتْ على كلِّ حواسي ووجداني. وقلتُ في نفسي أين أنا مِنْ كلِّ ما يحدُث هناكَ بعيدًا عني؟ في وطنٍ انسلخْتُ عنهُ، ولكنَّه ما انسلخ يومًا مني؟! والآن لقد مرَّت سنتانِ طويلتانِ على الذلِّ والهوانِ، وعلى موتِ الناسِ الأبرياءْ. نعم لقد  جازَ عامانِ  متتاليانْ،  فَسَاد القتلُ وعمَّ الظلمُ مجتمعَ الإنسان، وتحوّلَ فيهِ منْ رَغَدِ العيشِ، إلى معركةِ الصِّراعِ على البقاءْ.
وعندها، انتابتْني قشعريرةٌ في جسدي، وحزَّت في نفسي صورُ أطفالٍ يستغيثون، ونساءٍ يولْولْنَ ويَنُحْنَ على فُقدانهنَّ لأزواجِهن وفلذاتِ أكبادهن. وفي صورةٍ أخرى رأيتُ أخرياتٍ يركضنَ حاملاتٍ حوائجهنَّ، عساهُنَّ يجدنَ مكانًا آمنًا يلجأْنَ إليه مع أطفالهنَّ الرُّضَّع. فقلت: أين أنا؟ نعم، أينَ أنا من كلِّ ما يجري في وطني الجريح، الذي ينزِفُ الدمَ مع كلِّ عبرةِ دَمْعٍ. نعم، أين أنا من كلِّ ما يحدث؟ أجابتْني أفكاري على الفور بخلاصةِ كلامٍ ما استطعْتُ إلاَّ أن أبوحَ به. فدوّنْتُه بحزن: نعم، سأكونُ مرائيةً لو لمْ أعبِّر لكم جميعًا يا قرَّائي الأعزاء عما يعتملُ في قلبي من ضيقٍ وأسىً، ما لم أصرّحْ عن مشاعر الحزن التي تكتنفني، والألم الذي يعتصرُ فؤادي، لما يعصفُ ببلدي من قتالٍ ودمارٍ وتشريد، ولِما يجتاز به أطفالُ بلَدي ونساؤها وشيوخُها من عذابٍ وحيرةٍ ورعبٍ وخوفٍ وعنفٍ، حتى أمستِ القلوبُ مفعمةً بالهلَع والولَع. ما هي هذه المحنةُ العصيبةُ التي ألمَّت بنا وبعائلاتنا وبأصحابنا وأحبابنا؟ ما هذه المحنةُ التي عصفَتْ بشعبنا من كبيره إلى صغيره؟ وكيف ولماذا يتعرَّضُ أترابُ جنسي فيه إلى الذلِّ والإهانةِ والعار، حتى إنَّه بطلقةٍ واحدة صارَ يُقضَى على الإنسان؟ أبهذا الشكلِ أضحى الإنسانُ رخيصًا رخيصًا!
قلتُ في نفسي بعدَ ذلك: هل عجبًا ما ألمّ بإرمياء النبي حين شعرَ مع شعبِه وتألَّمَ لألمِهم وحَزِن لحزنِهم؟ بالطبع كلاَّ.. فصرخ هاتفًا من قلبه المكسورِ على قتلى شعبه وصاحَ يقول:
"مَن مفرِّجٌ عنِّي الحزن؟ قلبي فيَّ سقيمٌ. هوذا صوتُ استغاثةِ بنتِ شعبي من أرضٍ بعيدة... من أجل سحقِِ بنتِ شعبي انسحقْت. حزنْتُ. أخذتْني دهشةٌ. أليسَ بلَسان في جَلعَادْ، أمْ ليسَ هناكَ طبيبْ؟ فلماذا لم تُعصبْ بنتُ شعبي؟ يا ليتَ رأسي ماء، وعينيَّ ينبوعُ دموع، فأبكي نهارًا وليلاً قتلى بنت شعبي" (إرميا 18:8-19 و21-22؛ 1:9). لم يَذرفِ النبيُّ إرميا الدمعَ على بني شعبه فحسبْ، بل صلَّى من أعماقِ وجدانِه يشفعُ بأهلِه وشعبِه وعشيرتِه. فسَمِعَ الربُّ من السماء وعادَ فدوَّن كلماتِ الرجاء بالروح القدس وقال:
"أردِّد هذا في قلبي، من أجل ذلك أرجو... نصيبي هو الرب، قالت نفسي، من أجل ذلك أرجوه. طيِّب هو الرب للذين يترجّونه، للنفس التي تطلبُه. جيد أن ينتظرَ الإنسانُ ويتوقَّعَ بسكوتٍ خلاصَ الرب" (مراثي 21:3-26).
ونحن اليوم ماذا تُرانا نفعل؟ وكيف تُرانا نتصرّفُ؟ هل نتجاوب مع صرخةَ الألمِ المنبعثةَ من قلوبِ الناس؟ فنحزنُ لحزنهم؟ ونهتمُّ باحتياجاتِهم؟ ونهبُّ لكي نشتركَ في تسديد عوَزِهم؟ أم ترانا نبقى متفرِّجين، طالما أنَّ ما يجري لا يطالُنا أو يصلُ إلينا لأنهُ بعيدٌ عنا؟ هل تحرَّكتْ أحشاؤنا كما تحرَّكتْ أحشاءُ السيِّد له المجد الربُّ يسوع المسيح يومَ كانَ على أرضنا؟ حين رأى آلامَ المتألمين وحُزْنَ اليتامى وبكاءَ النساء؟ ألمْ تتحرَّكْ أحشاؤُه حين عاينَ الأمَّ الثَّكلى تبكي ابنَها الشابَّ الوحيد؟ ألم يتفاعَلْ مع الجماهير الجائعة فأطعَمَها وملأَ بطونَها من الطعام الجسدي؟ ألم يبكِ على مدينةِ أورشليم وأهلِها إذ عَلِمَ مُسبقًا ما سيأتي عليهِم من ضيقٍ وألَم؟ لقد سمع لأنَّاتِ الناس تمامًا، كما غفَر خطاياهم، وشفى مرضاهم، وأقام موتاهم. فهل نتبع خطاهُ نحن المؤمنين في القرن الحادي والعشرين؟ هل تتحرَّك أحشاؤنا حين يضيقُ العيشُ بإخوتِنا في كنيسة المسيح؟ فنفتحُ جيوبَنا ونقدِّم لأهلِنا وشعبِنا وكنيستِنا حتى ولو كانَ شيئًًا زهيدًا؟ إنَّ فِلْسَي الأرملة لفَتا نظَرَ السيد له المجد، وعَلِم أنَّها أعطَتْ أكثَر من الكلِّ لأنَّها أعطتْ من إعوازِها. أم تُرانا لا نكترث؟  فنرى ونسمع ولكنَّنا نصمُّ آذانَنا وكأنَّ الأمرَ لا يعنينا؟ هذا هو التحدّي الذي يواجهُ كلَّ مؤمنٍ ومؤمنة في المسيح اليوم، الذينَ أوصاهُم المسيحُ نفسُه قائلاً:
"بهذا يعرفُ الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حبٌّ بعضًا لبعض" (يوحنا 35:13). كيف يكون لنا حبٌّ بعضًا لبعض ما لم نشعرْ مع بعضنا البعض؟ ألم يقَلِ الرسولُ بولس بوحي من الروح القدس: "المحبة تتأنى وترفق... ولا تطلب ما لنفسها... المحبة لا تسقط أبدًا" (1كورنثوس 13)؟ وقال أيضًا: "فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفات" (كولوسي 13:3). فيا حبَّذا لو نفعل، ونشترك باحتياجات القديسين المتألِّمين جسدًا ونفسًا وروحًا، حتى هم بالتالي يشاركونَ باحتياجاتِ أبناء شعبهم النفسية والروحية. فيقدِّمون للناسِ بشارةَ السلام بين الله والإنسان. عندها تسكنُ القلوب، وتهدأُ النفوس، وتُغفرُ الذنوب، ويتعلَّمُ الإنسانُ المحبةَ من جديد من الله الذي هو المحبة بذاتِها، ويعودُ لينعُمَ بالسلام الحقيقي لأنَّ رئيسَ السلامِ الربَّ يسوع المسيح قد ملكَ على قلبِه. فهل نهبُّ لتلبيةِِ ما يُمليهِ علينَا ضميرُنا المسيحي؟!

المجموعة: نيسان April 2013