نيسان April 2013

الأخ عماد خوريها قد مضى الشتاء الكئيب فطردت الآفاقُ الغيومَ القاتمة من رحابها، واكتست المروج وسفوح الجبال ببهاء الّربيع الباهر، وقد أطلّت الشمس بابتسامات وجهٍ مشعٍّ تعلن أن فصلاً جديدًا من البهجة والأمل والجمال قد بدأ في هذا اليوم. "تفرح البرية والأرض اليابسة، ويبتهج القفر ويُزهر كالنّرجس" (إشعياء 1:35).
فالرّبيع رائعٌ فتّان، لا لأنه أجمل فصل على الإطلاق وحسب، بل لأنه أيضًا لا يطل علينا إلاّ وهو على موعد، في يومه الأوّل، مع الأمِّ في عيدها النّبيل هذا. "فهل يسيراثنان معًا إن لم يتواعدا؟" (عاموس 3:3).
نعم، لقد تواعدا فالتقيا كالتقاء الرحمة بالحق، وكتلاثُم البر والسّلام في صليب الفادي المجيد. فيا لها من روعة أن يمتزج عنفوان الرّبيع برقّة الأمومة، وانعطاف نُسَيْماته بحنان قلبها، وآثار محاسنه بآثار إحساناتها! إنّ الأمومة والربيع توأمان لا ينفصلان.  
فالرّبيع هو طاقة هائلة من الجمال والحيويّة، والأمومة كذلك هي طاقة هائلة من العاطفة والعطاء؛ وكلاهما هبة من الله المبدع الخلاّق "الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتّمتُّع". فهو من شحم الحنطة يُشبعنا خيرات جزيلة، ومن الفداء أفخر البركات وأعظمها إطلاقًا. ومع تمايل السّنابل والأغصان مع نُسيمات الحقول الآتية عبر الوادي الصّخري، ينتشر الحب والسرور في بساتين النفوس العطشى إلى  البر في محضره. بلى، يا الله، "أمامك شِبعُ سرورٍ. في يمينك نِعمٌ إلى الأبد" (مزمور 16:11).
كم يزخر فصل الرّبيع هذا بمواسمَ ما أعظمها! فبعد الاحتفال بالأمومة، نكون على موعدٍ مع الفصح: موت المسيح البديلي؛ ثمّ بدء الحصاد: القيامة؛ ومن ثَمّ عيد الخمسين- الأسابيع: انسكاب الروح القدس وتكوُّن الكنيسة. وهذه كلها فقط خلال الربيع الجميل.

الفصح

لقد صنع موسى وكل بيت من العبرانيين الفصحَ، أوّل مرة، مساء خروجهم من مصر في الرابع عشر من شهر أبيب- نيسان في العام 1446 ق.م. وحيثما وُجد دم خروف الفصح مرشوشًا على قوائم بيوتهم وعتباتها العليا عبَرَ المهلك عنهم عند اجتياز الرب هناك، ولم يؤذِ أحدًا في البيت... أمّا نحن فلنا الحقيقة لا الرّمز،" لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبحَ لأَجْلِنَا" (1كورنثوس 7:5). لقد نُفِّذ حُكم الموت في الذبيحة العاقلة: المسيح البار، عوضًا عنّا نحن الفجّار، وكل مَن يلجأ بإيمان خالص إلى الاحتماء بدم الرب يسوع ينجو من الدينونة الأبدية لينعم بالحياة مع الله إلى أبد الآبدين. وفي اليوم التّالي للفصح يأتي عيد الفطير - خبز بلا خمير - لسبعة أيام، على أنه لا ينفصل عنه؛ فالذي افتُدي بدم ابن الله عليه ألاّ يُراعي أفكارًا دنسة ولا سلوكًا خاطئًا، بل يحيا للرب بطهارة وإخلاص. وهكذا نُعيِّد المسيح بنقاءٍ وابتهاج.

القيامة - أوّل الحصاد

كان على الشعب قديمًا أن يأتوا بحزمة أوّل غلاّت حصيدهم إلى الكاهن، فيردِّدها أمام الرب للرِّضا عنهم. كان عليه أن يلوّح الحزمة في اليوم التّالي للّسبت، أي يوم الأحد. فالمسيح قام من الأموات بعد السبت عند فجر الأحد، وصار باكورة الرّاقدين (1كورنثوس 20:15)، "الذي هو البداءة بكر من الأموات" (كولوسي 18:1)، إذ هو،
من حيث التسلسل الزّمني: أوّل مَن مات وقام ليحيا إلى أبد الآبدين؛ وهو في السُّمو: المتَقدّم على كل الذين سيقومون من رقاد أجسادهم، لأنّه رأس الخليقة الجديدة؛ وهو كذا قد قام بجسدٍ مُمَجّدٍ لا يعرف أي هوانٍ في ما بعد؛ كما أنّه بقيامته باكورة ضامنة لقيامة مَن له في مجيئه ثانيةً (1كورنثوس 20:15 و23). حقًّا قد قام الرّب وصعد فوق جميع المجرّات والسّماوات. فهو في الرُّحبِ ينشر للعقبانِ أجنحةً، وبرّه بذُرى الحرمونِ يتّسمُ!
وها هي أشجار اللّوز المُزهرة في بساتين الحقول كأنها عرائس في فساتين الزّفاف، وفي ظل أشجار الصنوبر والصفصاف راح الأولاد يلهون بمرح عظيم، وصياح ابتهاجهم يرنّ في الفضاء الفسيح، بينما رقّة الخالق اللاّمتناهي تجلّت في الفراشات الحائمة حول الورود هناك بقرب غديرٍ انساب ماؤه عذبًا ورقراقًا. فبعد برودة الموت الشِّتائيّ يأتي ربيع القيامة وإشراقة الحياة. وكما أزهرت عصا هارون الجافة عديمة الحياة زهرًا وأنضجت لوزًا، كذلك تكتسي عظامنا المائتة باللحم والعصب لتحيا بكلمة الرب وبقوة قيامته المقتدرة. هناك وفرة من الفرح والحيويّة والحب في انتظارنا: فالرّبيع هزَم الشتاء؛ والتجربة أخذت وقتها ثم انقضت؛ والموت ابتُلع من حياة القيامة. فالوعور مبتهجة ومتلألئة بالأزهار الحمراء والبيضاء، ومنها باللّون الأصفر كالرّصيف إلى المجد في خلفيّة من مشهد العشب الأخضر والصخور الرّمادية . ومتى كان القلب ينبض بالرّجاء والعطف، فلا بدّ أن نرى الأمور ربيعًا وكل الأشياء تعمل معًا لخيرنا ولإسعادنا، حتى ولو أظهر العَيان عكس ذلك، "لأننا بالإيمان نسلك لا بالعَيان" (2كورنثوس 7:5).     
يا رب، كم أنا في حاجة إليك وإلى مباهجك، هبني كل بركات موتك وقيامتك. من دونك ربيع الحياة يصير شتاء ثقيلاً؛ أماّ معك فكل الفصول تصبح ربيعا. هأنذا أسير برفقتك وأحيا لك دومًا.        
وها نداء العريس لعروسه مفعم برقة عاطفة محبّته الفائقة التي تؤكد لها أن فصل الضيق الشّديد قد انتهى وأن أمامها الآن في صحبته استمتاعًا بربيع مُشبع بالمحاسن والنّفائس، وبكل ما يتمنّاه قلبها بل وأكثر: "قُومِي يَا حَبِيبَتِي، يَا جَمِيلَتِي وَتَعَالَي. لأن الشتاء قد مضى، والمطر مرّ وزال. ٱلزُّهُورُ ظَهَرَتْ فِي ٱلأرْضِ... وَصَوْتُ ٱلْيَمَامَةِ سُمِعَ فِي أَرْضِنَا... قُومِي يَا حَبِيبَتِي، يَا جَمِيلَتِي وَتَعَالَيْ. يَا حَمَامَتِي فِي مَحَاجِئِ ٱلصَّخْرِ، فِي سِتْرِ ٱلْمَعَاقِلِ، أَرِينِي وَجْهَكِ، أَسْمِعِينِي صَوْتَكِ، لأنَّ صَوْتَكِ لَطِيفٌ وَوَجْهَكِ جَمِيلٌ" (نشيد 2). وهذا كله لها، ذلك لأنها صعدت فقط بالإيمان إلى الصخرة الرّفيعة، شخص المسيح المتوّج والممجّد في يمين الله. وهي في ملاجئ صخر جراحات صليبه حيث أمنها ونجاتها من كل خطر وعدو ودينونة. وكذا في ستر معاقل شركتها الحميمة معه، تجد كم هو مشبع ومدهش ذاك الحبيب الذي تغنت به عن تذوّقٍ واختبار: "وكله مشتهيات" (نشيد 16:5).
انظر إلى الشمس المشرقة كالجبّار الخارج من خيمته متسربلاً بالنّصر ومتألِّقًا بالنضارة، إنها تبعث على النشاط والتقدم نحو الملء والعلاء؛ فأمامنا بعد مساحات شاسعة من الإنجازات والبركات ينبغي لنا أن نمتلكها بكليّتها، ولن نفرط بأي نصيبِ شبرٍ واحد منها. كما أن امتناننا العميق لمن أحبنا حتى موت الصليب والفداء، يلزمنا أن نتحرك معه حتى نشبع ونُسر قلبه المحب. وهكذا نقدم للعالم غنى حياة قيامته وكنوز إنجيل نعمته.
هكذا الدنيا ربيعٌ
قرب فادينا هنا
يُكثرُ الغفرانَ مهما
عظُمَتْ آثامُنا

وفراشُ الحقلِ يُبدي
رِقّة اللهِ لنا
ونرى روْعتَهُ في
كلِّ آفاقِ الدُنى

ولنا فيهِ فداءٌ
ودماهُ سترُنا
ومن الرّوحِ ضمانٌ
لفداءِ المُقتنى

دمعنا دمعُهُ.. يبكي
مدركًا آلامَنا
جاءنا بعد شتاءٍ
بتباشيرِ الهَنا

أزهرَ البستانُ لمّا
قامَ حيًّا ربُّنا
يملأُ الأرضَ رجاءً
والسّماواتِ غِنى

شِبَعُ القلبِ لديهِ
ورضاهُ سؤلُنا
فرضا ابنِ الآبِ
يُحيي ويفي آمالَنا

المجموعة: نيسان April 2013