تموز July 2013

الأخت أدما حبيبيوتفتح فمَها لتنطقَ بكلماتٍ شبيهةٍ بالهَمْس، وبأسلوبٍ ينمُّ عن رهَفٍ في الحسِّ، وبأداءٍ يتظاهرُ بالنَّدم في القلب والنفس، على الفعلةِ البِئْس التي أقدمتْ عليها. وتوجَّه نظرُها من وراء نظَّارتها البيضاء، التي لم تستطع إخفاءَ معالمِ شخصيتها، إلى مجموعةِ المحلفّين مستنجدةً بهم، وملتمسةً منهم الرحمة، وطالبةً إليهم الترفُّق بها، وعدم الحكم عليها بالإعدام. إنَّها جودي أرييز Jodi Arias التي ملأت قصتُها المشينةُ صفحاتِ الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي، كما احتلَّت مكانًا متصدِّرًا في الأخبار اليومية في أميركا لمدةٍ فاقتِ الخمسة أشهر ونيِّف في إحدى محاكم ولاية أريزونا. لقد أصدرت هيئة المحلَّفين ذاتها حكمَها بحق (جودي) بارتكاب جريمة قتل صاحبها Travis (ترافيس) من الدرجة الأولى، جريمة القتل المتعمَّد، عن سابق عزمٍ وإصرار. وهنا نسمع صوتها المتحشرج يستجدي الرحمة علَّه يجد صدى في آذان هيئة المحلفين، فيثير عطفهم عليها ورثاءهم لحالها، وشفقتهم لما آلت إليه حالها من يأس، حتى إنها وُضعت في غرفة منفردة في مستشفى للعلاج النفسي تابعة للسجن وجرت مراقبتها ساعةً بساعة لئلا تُقدم على الانتحار.


نعم، تقف الآن لتستعطف هيئة المحلفين من أجل إبقائها على قيد الحياة، على الرغم من أنَّها وفي مقابلة تلفزيونية أجرتها بعد إصدار الحكم عليها، صرّحت معلنةً بأنها تفضِّل الموت على أن تقضي حياتها كلها خلف القضبان، لأنَّ الموت - كما قالت - هو الحريةُ المطلقة أو النهائية. وبناءً على تصريحها هذا تراجع فريق المحامين الذي يدافع عنها عن استكمال القضية بسبب صراع المصالح بينهم وبين موكِّلتهم. إلا أن القاضية رفضت ذلك. والأكثر عجبًا في هذه القضية هو أنَّ (جودي أرييز) وقفت بنفسها تطالب هيئة المحلفين بإنقاذ حياتها ولم يقبلْ أحدٌ من أفراد عائلتها ولا حتى من أعزِّ أصدقائها الظهور في المحكمة والقبول بإعطاء شهادة عنها. لقد استنفذ محاموها كل وسائل الدفاع عنها ولم يبقَ سوى صوتها الوحيد ليلعبَ لعبةَ الهمسِ الماكر عساه يستدرّ شفقتهم. لكن، هل تراه سيجد هذا الصوت صدىً بالحق والفعل؟ هذا هو السؤال الآن! هل بقي لهذا الصوت الهامس، والكلام المنتَقى بمكرٍ ودهاء،  أيةُ مصداقيةٍ؟
هي التي أنكرتْ أصلاً أيَّةَ صلةٍ لها بقتل صديقها الشاب (ترافيس) فكذبت على الشرطة وعلى المحققين وعلى الناس أجمعين بمن فيهم هيئة المحلّفين؟ لم تقرّ أو تعترف بادئ ذي بدء لا بل أنكرت وجودها في الولاية كلِّها وقت حدوث الجريمة. لكن، وبعد أن ثبُتَ عكسُ ذلك من خلال التحقيق والأدلّة القاطعة، والبراهين الساطعة، وتبيَّن وجودها في مكان الجريمة، عادت لتختلق قصة جديدة هي أشبه بفيلم سينمائي عرضَتْه على المحققين، بأنَّ شخصين ملثمين أتيا إلى البيت حيث كانت مع (ترافيس) وهاجماهما معًا لكنَّها تمكّنت من الفرار من البيت والنجاة بنفسها. وفي كلِّ مرة تعيد القصة الفيلم كانت تزيد عليها أو تغيّر فيها من تفاصيل لتخدم قضيتها وتُبعد عنها الشُّبهات. لكن يبدو أنه قد غاب عن ذهن (جودي أرييز) هذه بأنَّ حبل الكذب قصير وقصير جدًا، وأنَّ الطريق الذي اتبعته والأسلوب الذي تكلمت به، إنَّما قاداها إلى الإدانة بدل التبرير.
أجل، لقد أدانت (جودي أرييز) نفسها بنفسها حين حامتْ أيضًا حولَ جريمتها، إذ قامت بالاتصال بالشرطة بعد أن وُجدت جثةُ صاحبها في بيته، وحالما تصدَّر الخبر صفحات المجلات ونشرات الأخبار في التلفزيون والانترنيت. اتصلت بالشرطة على أساس أنها صديقة (ترافيس) الحميمة، وأنها مستعدة كل الاستعداد بأن تضع كلَّ ما لديها من معلومات وما تعرفه عنه، بين يدي البوليس علَّ ذلك يقودهم إلى الذي فعَل هذا الفعلِ المنكَر. بالحق لقد صدق القول: ويبقى المجرم يحومُ حول جريمته. أرادت بذلك (أرييز) خداع المحققين، ظنًّا منها أنَّها أكثرُ حنكةً منهم، وأنَّه لا بدَّ لهم أن يصدِّقوها. لقد اعتقدت أرييز بأنها تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت ونسيت أنَّ ذلك مستحيل إذ من الممكن أن يخدع الإنسان بعض الناس بعض الوقت، لكنه لا يمكن له أن يخدع كل الناس كل الوقت! هذه حقيقة أيضًا غابت عن ذهن الصبية الحسناء التي توهّمت أنَّها بحركات يديها العابثة بشعرها الطويل من حين إلى آخر، أو ببكائها المفتعَل تقدر أن تغيِّر من وجهة نظر المحلَّفين نحوها. يا لها بالفعل من طرقٍ معوَّجة بالحق، وأساليب لابتزاز الآخرين.
علّق أعضاءُ هيئة المحلَّفين على ابتزاز أرييز هذا من خلال الأسئلة التي وجَّهوها إليها، والتي كان على رأسها: "لماذا نصدقك الآن وأنتِ قد كذبت علينا سابقًا؟!" استطاع هؤلاء بأن يكوّنوا فكرة كاملة عنها على الرغم من أسلوبها المخادع الذي اتَّبعتْه. حتى إنهم أدركوا بالضبط قدرتها على القتل المتعمَّد لصديقها الذي كانت تقول بأنَّها تحبه ولا تريد التخلي عنه. لا بل كانت تحلم بالزواج منه وتأسيس عائلة معه. وبعد أن اعترفت بتوجيه المسدس إلى رأسه وإطلاق الرصاص عليه، وطعنه أكثر من ثلاثين مرة بالسكين، لم يعدْ هناك من بدّ من تذنيبها وتحميلها المسؤولية كاملة. إنَّ الصور التي أُخذت لساحة المعركة في غرفة الاستحمام والممرّ، كانت واضحةً كلَّ الوضوح في إظهار قوة الانتقام في معالم الجريمة، وفي الآليَّة التي أتمَّت فيها خطتها في الغدر بصديقها وقتله. لقد بيَّنت كلُّ الصور التي أخذتها هي بآلة التصوير (الكاميرا) قبل الإقدام على القتل، وأثناء القتل، على حجم الغضب والسخط اللَّذين كانا يستشريان في كيانها كلِّه. كما كانت دليلاً واضحًا على غيرتها التي ثارت حين أعلَمها صاحبها بقراره  في إنهاء علاقته بها، فأشبعتْه طعنًا، وتمكَّنت أن تجزَّ رقبتَه كما يجزُّون الخراف في المسلخ. وفي المحكمة اعترفت بكلِّ شيء ما عدا هذه الأخيرة إذ أصرَّت على عدم تذكّرها ذلك. فادَّعت بأنها أصيبت لحظتئذٍ بفقدان مؤقت للذاكرة.
ومرةً أخرى تتحايل وهي تحاول الدفاع عن نفسها في آخر مرة لها، وتقول بأنها لم تقتل (ترافيس) إلا دفاعًا عن النفس ليس إلا. وصوَّرت نفسها بأنَّها الضحية التي عاشت معه معاناة العذاب والتعنيف النفسي والجسدي. والآن بماذا ستحكم هيئة المحلفين يا ترى إزاء كل ما حدث في علاقة اتسمت بالمرارة، والغيرة، والحقد، والسخط، والجنس، والقباحة، والإباحية، والكلام البذيء؟ هذا هو الطريق الواسع الذي سارت فيه أرييز كما سار فيه صاحبها ترافيس،  فانحدرا كلاهما فيه إلى الدَّرك الأسفل. وبعد أيامٍ قلائل من المناقشة والتفكير عادت هيئة المحلفين لتبثَّ قرارها النهائي بعدم التوصل بالإجماع باتخاذ قرار الحكم بالإعدام عليها، ممَّا أصاب الجميع في قاعة المحكمة بالذهول الشديد. وعلَت علائم الصدمة هذه على الوجوه بوجوم ما بعده وجوم. فتأجَّلت المحكمة من جديد لأشهر أخرى، عسى أن تقوم بهذه المهمة هيئةُ محلَّفين أخرى جديدة.
نعم، هذا هو الطريق البرّاق الذي يزدان باللمعان، بالشهوة والعبَث والهوى واللامبالاة،  الذي لا بدَّ أن يؤدي إلى الهلاك المحتوم، إن لم يكن عاجلاً فآجلاً، وإن لم يكن الهلاك في هذه الحياة، فهو الهلاك المنتظر في النهاية. قال الربُّ يسوع المسيح في موعظته الشهيرة على الجبل ما يلي:  ادخلوا من الباب الضيق. لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك، وكثيرون هم الذين يدخلون منه! ما أضيقَ الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه! (متى 13:7-14)  وفي الإنجيل بحسب البشير يوحنا نسمعه يقول لتوما التلميذ جوابًا عن سؤاله - لسنا نعلم أين تذهب فكيف نقدر أن نعرف الطريق؟ - ما يلي: "أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي."
فإلى كلِّ مَن يفتش حقًا على الطريق الصحيح للحياة الناجحة قلبًا وقالبًا، هاكَ الربَّ يسوعَ المسيح، الذي وحده يصرِّح لك ويقول "أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي". طريق واحد وحيد وليس له ثانٍ، ذاك المؤدي بكَ إلى الحياة. لقد أُطلق على أتباع يسوع المسيح بأتباعِ الطريق في بداية الكنيسة المسيحية الأولى، وكلُّ من اتَّبعه لم يخزَ قطُّ. فأيَّ الطريقين تختار يا قارئي؟ الطريقَ الواسع الرَّحبَ والجذَّاب، الذي يسير فيه الكثيرون وهم لا يدرون المصيرَ النهائي، إلا بعد فوات الأوان؟! أم الطريق الضيِّق المؤدي إلى الحياة، والحياة الأبدية الفضلى؟ حريٌّ بنا أن نتَّعظ ممَّا نراه ونسمعه عن أناس ضلُّوا وتبِعوا الطريق الخاطئ، ولنغتنم الفرصة فنتصالح مع الله بربنا يسوع المسيح. عندها لن نستغيثَ طالبين رحمةَ فلانٍ وعطفَ آخر، بل ننظر بثقة إلى ذاك المعلَّق على الصليب من أجل خلاصنا من الخطية وتحريرنا من الشر والفساد. هذا ما يقوله الرب يسوع: "فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا." (يوحنا 36:8)  "الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة." (يوحنا 24:5) وأخيرًا، كلُّ من له أذنان للسمع فليسمع.

 

المجموعة: تموز July 2013