آب Agust 2013

الدكتور القس لبيب ميخائيلالإنسان هو المخلوق الوحيد على الأرض الذي أعطاه الرب قدرة على الكلام. ولولا قدرة الإنسان على الكلام، لصارت الأرض غابة ترتع فيها الحيوانات مع الإنسان، وما رأينا مدرسة، أو جامعة، أو كنيسة، أو مكتبة عامة، أو تمثالاً لقائد عظيم، أو كتابات خالدة كالإلياذة والأوديسا وكتب فلاسفة اليونان. لكن قدرة الإنسان على الكلام هي التي جعلته يبني هذا العالم المتعدد اللغات، والعادات، والحضارات. وبتعدد اللغات بدأت الأمم وتفرقت الشعوب على وجه كل الأرض.


وقد استخدم الإنسان قدرته على الكلام في إنشاء مختلف العلوم. وكل علم صنعه الإنسان وضع له مختلف الاصطلاحات. ففي الطب اصطلاحات لا يفهمها إلا الأطباء، وفي الهندسة اصطلاحات لا يفهمها إلا المهندسون، وفي اللاهوت اصطلاحات لا يفهمها إلا اللاهوتيون، وهكذا في القانون، والمحاسبة، والموسيقى، وشتى العلوم. والكتاب المقدس ذكر كلمة الكلام ومشتقاتها مئات المرات، لكنني سأكتفي في هذه الرسالة أن أتحدث عن الكلام في عدة دوائر:

 

دائرة الكلام الهدام


الكلام الهدام هو الكلام الباطل، الملق، الخادع الذي قال عنه بولس الرسول: "لا يغركم أحد بكلام باطل" (أفسس 6:5)، "لئلا يخدعكم أحد بكلام ملق" (كولوسي 4:2). فهناك أناس تخصصوا في خداع الناس بتملقهم ومدحهم، وكلامهم كلامًا هدامًا.
والكلام الهدام هو كلام السفاهة الذي كتب عنه بولس الرسول الكلمات: "وَأَمَّا الزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ فَلاَ يُسَمَّ بَيْنَكُمْ كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ، وَلاَ الْقَبَاحَةُ، وَلاَ كَلاَمُ السَّفَاهَةِ، وَالْهَزْلُ الَّتِي لاَ تَلِيقُ، بَلْ بِالْحَرِيِّ الشُّكْرُ" (أفسس 3:5-4). وأفواه غير المؤمنين لا يخرج منها سوى الكلام الهدام. وقد وصفهم بولس الرسول بالكلمات: "حَنْجَرَتُهُمْ قَبْرٌ مَفْتُوحٌ. بِأَلْسِنَتِهِمْ قَدْ مَكَرُوا. سِمُّ الأَصْلاَلِ تَحْتَ شِفَاهِهِمْ. وَفَمُهُمْ مَمْلُوءٌ لَعْنَةً وَمَرَارَةً" (رومية 13:3-14). وقال كاتب المزمور عن الفرد منهم: "أَنْعَمُ مِنَ الزُّبْدَةِ فَمُهُ، وَقَلْبُهُ قِتَالٌ. أَلْيَنُ مِنَ الزَّيْتِ كَلِمَاتُهُ، وَهِيَ سُيُوفٌ مَسْلُولَةٌ" (مزمور 21:55). والكلام الهدام يهدم شخصية السامع ويوحي إليه باليأس وصغر النفس.
فليحرسك الرب أيها المؤمن من الكلام الهدام.

دائرة كلام النمام


"كَلاَمُ النَّمَّامِ مِثْلُ لُقَمٍ حُلْوَةٍ وَهُوَ يَنْزِلُ إِلَى مَخَادِعِ الْبَطْنِ" (أمثال 8:18). والنمام هو الذي يريد أن يوقع فتنة بين الأصدقاء ليفرّق بينهم. "رَجُلُ الأَكَاذِيبِ يُطْلِقُ الْخُصُومَةَ، وَالنَّمَّامُ يُفَرِّقُ الأَصْدِقَاءَ" (أمثال 28:16). وكم من صداقات وكنائس تحطمت بيد عضو نمام، وقد كتب بولس الرسول لكنيسة كورنثوس قائلاً:
"لأَنِّي أَخَافُ إِذَا جِئْتُ أَنْ لاَ أَجِدَكُمْ كَمَا أُرِيدُ، وَأُوجَدَ مِنْكُمْ كَمَا لاَ تُرِيدُونَ. أَنْ تُوجَدَ خُصُومَاتٌ وَمُحَاسَدَاتٌ وَسَخَطَاتٌ وَتَحَزُّبَاتٌ وَمَذَمَّاتٌ وَنَمِيمَاتٌ وَتَكَبُّرَاتٌ وَتَشْوِيشَاتٌ" (2كورنثوس 20:12). وقال كاتب الأمثال: "بِعَدَمِ الْحَطَبِ تَنْطَفِئُ النَّارُ، وَحَيْثُ لاَ نَمَّامَ يَهْدَأُ الْخِصَامُ" (أمثال 20:26).

دائرة الكلام الذي يشعل النيران

خصص يعقوب جزءًا من رسالته للحديث عن اللسان، واللسان هو عضو الكلام في الإنسان.
قال يعقوب في رسالته: "لاَ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ يَا إِخْوَتِي، عَالِمِينَ أَنَّنَا نَأْخُذُ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ! لأَنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا. إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْثُرُ فِي الْكَلاَمِ فَذَاكَ رَجُلٌ كَامِلٌ، قَادِرٌ أَنْ يُلْجِمَ كُلَّ الْجَسَدِ أَيْضًا. هُوَذَا الْخَيْلُ، نَضَعُ اللُّجُمَ فِي أَفْوَاهِهَا لِكَيْ تُطَاوِعَنَا، فَنُدِيرَ جِسْمَهَا كُلَّهُ. هُوَذَا السُّفُنُ أَيْضًا، وَهِيَ عَظِيمَةٌ بِهذَا الْمِقْدَارِ، وَتَسُوقُهَا رِيَاحٌ عَاصِفَةٌ، تُدِيرُهَا دَفَّةٌ صَغِيرَةٌ جِدًّا إِلَى حَيْثُمَا شَاءَ قَصْدُ الْمُدِيرِ. هكَذَا اللِّسَانُ أَيْضًا، هُوَ عُضْوٌ صَغِيرٌ وَيَفْتَخِرُ مُتَعَظِّمًا. هُوَذَا نَارٌ قَلِيلَةٌ، أَيَّ وُقُودٍ تُحْرِقُ؟ فَاللِّسَانُ نَارٌ! عَالَمُ الإِثْمِ. هكَذَا جُعِلَ فِي أَعْضَائِنَا اللِّسَانُ، الَّذِي يُدَنِّسُ الْجِسْمَ كُلَّهُ، وَيُضْرِمُ دَائِرَةَ الْكَوْنِ، وَيُضْرَمُ مِنْ جَهَنَّمَ. لأَنَّ كُلَّ طَبْعٍ لِلْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ وَالزَّحَّافَاتِ وَالْبَحْرِيَّاتِ يُذَلَّلُ، وَقَدْ تَذَلَّلَ لِلطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ. وَأَمَّا اللِّسَانُ، فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُذَلِِّّلـَهُ. هُوَ شَرٌّ لاَ يُضْبَطُ، مَمْلُوٌّ سُمًّا مُمِيتًا. بِهِ نُبَارِكُ اللهَ الآبَ، وَبِهِ نَلْعَنُ النَّاسَ الَّذِينَ قَدْ تَكَوَّنُوا عَلَى شِبْهِ اللهِ. مِنَ الْفَمِ الْوَاحِدِ تَخْرُجُ بَرَكَةٌ وَلَعْنَةٌ! لاَ يَصْلُحُ يَا إِخْوَتِي أَنْ تَكُونَ هذِهِ الأُمُورُ هكَذَا! أَلَعَلَّ يَنْبُوعًا يُنْبِعُ مِنْ نَفْسِ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ الْعَذْبَ وَالْمُرَّ؟ هَلْ تَقْدِرُ يَا إِخْوَتِي تِينَةٌ أَنْ تَصْنَعَ زَيْتُونًا، أَوْ كَرْمَةٌ تِينًا؟ وَلاَ كَذلِكَ يَنْبُوعٌ يَصْنَعُ مَاءً مَالِحًا وَعَذْبًا!" (يعقوب 1:3-12).
وصف يعقوب اللسان عضو الكلام بأنه نار، وأنه عالم الإثم في أعضائنا، وأنه يدنس الجسم كله، وأنه يضرم دائرة الكون ويُضرَم من جهنم... وأنه العضو الذي لم يستطع أحد من الناس أن يذلّلـه، وأنه شر لا يُضبط مملوء سمًّا مميتًا.
هل رأيت تأثير اللسان في إشعال النيران؟
كم من زيجات انتهت بالطلاق بسبب اللسان الذي أشعل النيران بين الزوجين؟ آه، لو تعلّم الزوجان الصلاة للرب قائلين: "اجعل يا رب حارسًا لفمي. احفظ باب شفتيّ" (مزمور 3:141)، إذًا لامتلأت البيوت سلامًا وهدوءًا بدل الغضب والخصام وحب الانتقام.
لن تستطيع ضبط لسانك إلا إذا تغير قلبك بالإيمان بالمسيح مخلصًا شخصيًا لك، لذلك قال الرب يسوع للفريسيين الذي أرادوا إهلاكه: "يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي! كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا بِالصَّالِحَاتِ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ؟ فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْب يَتَكَلَّمُ الْفَمُ. اَلإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنَ الْكَنْزِ الصَّالِحِ فِي الْقَلْب يُخْرِجُ الصَّالِحَاتِ، وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنَ الْكَنْزِ الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشُّرُورَ. وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَابًا يَوْمَ الدِّينِ. لأَنَّكَ بِكَلاَمِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلاَمِكَ تُدَانُ".
(متى 34:12-37)
إلى هذا المدى أعطى المسيح أهمية لكلام الإنسان.

دائرة الكلام الذي للبنيان


"لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحًا لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ الْحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ" (أفسس 29:4).
الهدم أسهل من البناء. لكن الهدم لا يترك سوى أكوامًا من الطوب والحجارة. أما البنّاء فهو يقيم بيتًا جميلاً، أو قصرًا عظيمًا، أو كنيسة يجتمع فيها المؤمنون.
عرفت الكثيرين من الآباء الجهلاء الذين هدموا أولادهم وبناتهم بكلامهم. فما يكاد الابن أو الابنة يخطئ أو تخطئ في أي درس من الدروس المدرسية إلا وينهال الأب عليه أو عليها بالأوصاف المحبطة، فيقول: أنت لن تفلح أبدًا! أنت لا مستقبل لك! أنت غبي! لا فائدة تُرجى منك! وتدخل كلمات الأب إلى أعماق العقل، وتُفقد الابن الإحساس بقيمته، وتولّد في عقله الإحساس بصغر نفسه، ويكبر ليعطي لأبيه الصورة التي وصفه بها في صغره. وما ينطبق على الابن ينطبق على الابنة. إن واجب المؤمنين هو البنيان، والكلام هو مادة البنيان، والكلام البناء هو كلام الله.
لهذا أنا أشجع وأطالب الذين أعرفهم من المؤمنين، أن يقرأوا الكتاب المقدس بتدقيق، وأن يحفظوا ما يستطيعون من أصحاحاته. فالمزمور الأول، والثالث والعشرون، والسابع والعشرون، والسابع والثلاثون، والتسعون، والحادي والتسعون، والمئة والثالث، مزامير جديرة بالحفظ.
وفي العهد الجديد الأصحاحات الخامس والسادس والسابع من إنجيل متى، وتتضمن الموعظة على الجبل جديرة بالحفظ.
والأصحاح الثاني عشر من رسالة رومية، والثالث عشر من رسالة كورنثوس الأولى، والأصحاح الحادي عشر من الرسالة إلى العبرانيين جديرة بالحفظ.
وحفظ آيات وأصحاحات من الكتاب المقدس، تعطينا القدرة على مقاومة تجارب إبليس، إذ لما جرب إبليس المسيح في البرية هزمه المسيح في كل مرة بالمكتوب في العهد القديم، فقال له أولاً: "مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ" (متى 4:4). وقال له ثانية: "مَكْتُوبٌ أَيْضًا: لاَ تُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ" (متى 7:4). وقال له ثالثة: "اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ" (متى10:4).
فاحفظ ما استطعت من أصحاحات وآيات الكتاب المقدس لتحميك من السقوط في فخاخ العدو حين يجربك، وحث أولادك وبناتك لحفظ كلمة الرب. فالكلمة المحفوظة في القلب تحفظ الإنسان المؤمن من السقوط. "خبأت كلامك في قلبي لكي لا أخطئ إليك" (مزمور 11:119).

دائرة الكلام الذي يعزي المؤمنين


كلمة "تعزية" تعني إراحة. والمؤمنون في هذا العالم المضطرب الشرير في حاجة دائمة إلى العزاء، والرب يعزي القديسين المتضايقين ليستطيعوا أن يعزوا المتضايقين من المؤمنين، وقد كتب بولس الرسول إلى القديسين في مدينة كورنثوس قائلاً: "مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الرَّأْفَةِ وَإِلهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ، الَّذِي يُعَزِّينَا فِي كُلِّ ضِيقَتِنَا، حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نُعَزِّيَ الَّذِينَ هُمْ فِي كُلِّ ضِيقَةٍ بِالتَّعْزِيَةِ الَّتِي نَتَعَزَّى نَحْنُ بِهَا مِنَ اللهِ. لأَنَّهُ كَمَا تَكْثُرُ آلاَمُ الْمَسِيحِ فِينَا، كَذلِكَ بِالْمَسِيحِ تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضًا" (2كورنثوس 3:1-5). فالرب يعزينا في ضيقاتنا لنعزي إخوتنا في ضيقاتهم بكلام التعزية الذي يعزينا به الرب.
ولما خرج بولس وسيلا من سجن فيلبي كان أول ما فعلاه هو تعزية الإخوة الذين حزنوا لسجنهما، "فخرجا من السجن ودخلا عند ليدية فأبصرا الإخوة وعزياهم ثم خرجا"
(أعمال 40:16)
فلنذكر دائمًا أن الإنسان هو المخلوق الوحيد على الأرض القادر على الكلام، وأن الكلام قوة جبارة، فنحن لا نرى الكلام، لكننا نسمعه، وتأثيره في العقل والقلب تأثير بلا حدود، لذا قال داود في المزمور: "قُلْتُ: أَتَحَفَّظُ لِسَبِيلِي مِنَ الْخَطَإِ بِلِسَانِي. أَحْفَظُ لِفَمِي كِمَامَةً فِيمَا الشِّرِّيرُ مُقَابِلِي" (مزمور 1:39).
وقال الملك سليمان: "اَلْجَوَابُ اللَّيِّنُ يَصْرِفُ الْغَضَبَ، وَالْكَلاَمُ الْمُوجعُ يُهَيِّجُ السَّخَطَ" (أمثال 1:15). وقال كذلك: "كَثْرَةُ الْكَلاَمِ لاَ تَخْلُو مِنْ مَعْصِيَةٍ، أَمَّا الضَّابِطُ شَفَتَيْهِ فَعَاقِلٌ" (أمثال 19:10).
فلنذكر هذه الدوائر المتصلة بالكلام:
دائرة الكلام الهدام
دائرة كلام النمام
دائرة الكلام الذي يشعل النيران
دائرة الكلام الذي للبنيان
دائرة الكلام الذي يعزي المؤمنين
ولنعمل بوصية بولس الرسول:
"وَلاَ تَسْكَرُوا بِالْخَمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخَلاَعَةُ، بَلِ امْتَلِئُوا بِالرُّوحِ، مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ".
(أفسس 18:5-19)

المجموعة: آب August 2013