آب Agust 2013

الدكتور صموئيل عبد الشهيد"وَقَالَ لَهُمْ أَيْضًا مَثَلاً فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ، قِائِلاً: كَانَ فِي مَدِينَةٍ قَاضٍ لاَ يَخَافُ اللهَ وَلاَ يَهَابُ إِنْسَانًا. وَكَانَ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ أَرْمَلَةٌ. وَكَانَتْ تَأْتِي إِلَيْهِ قَائِلَةً: أَنْصِفْنِي مِنْ خَصْمِي!. وَكَانَ لاَ يَشَاءُ إِلَى زَمَانٍ. وَلكِنْ بَعْدَ ذلِكَ قَالَ فِي نَفْسِهِ: وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَخَافُ اللهَ وَلاَ أَهَابُ إِنْسَانًا، فَإِنِّي لأَجْلِ أَنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ تُزْعِجُنِي، أُنْصِفُهَا، لِئَلاَّ تَأْتِيَ دَائِمًا فَتَقْمَعَنِي!. وَقَالَ الرَّبُّ: اسْمَعُوا مَا يَقُولُ قَاضِي الظُّلْمِ. أَفَلاَ يُنْصِفُ اللهُ مُخْتَارِيهِ، الصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَارًا وَلَيْلاً، وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ؟ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعًا! وَلكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟" (لوقا 1:18-8).
السؤال الخطير الذي أودّ أن أطرحه في هذا المقال هو: ما هي فكرتك عن عدالة الله؟ بل ما هي الصورة التي تتمثّل لك عن عدالة الله؟ هل تقارن هذه العدالة بالعدالة البشرية ومن ثَمّ تستخلص نتائجك الذاتية عن نوعية عدالة الله؟
من المؤسف أن يكون مفهومنا عن عدالة الله مماثلاً لمفهومنا عن عدالة الإنسان. لأن هناك فارق كبير بين العدالتين. أولاً، في الجوهر: إن عدالة الله ناجمة عن ذاته، فهي جزء لا يتجزّأ من طبيعته وذاته. "الله عادل". هذه صفة من صفات جوهره. إن الله ليس خاضعًا لعدالة قوانين من صنع سواه، لأنه هو العدل والعادل معًا.
كذلك، إن الله لا يخضع لتأويلات سواه لنصوص العدالة لأن "العدل" الذي فيه غير قابل لأي تأويل أو تغيير أو استبدال. فكما أن الله أزلي والعدالة جوهر من طبيعته، فإن عدالته أيضًا هي أزلية لا يطرأ عليها ما يبدلها.
ولدينا في الكتاب المقدس أمثلة عديدة على ذلك:
لنتأمل في موقف الله من تمرّد آدم وعصيانه. لقد نهاه الله عن كسر أوامره، وأعلن له ما ستكون عليه نتائج العصيان لم يتردد الله لحظة واحدة في تغيير قضائه عندما أقدم آدم على التعدّي على وصيّته. كان العدل هنا ناجمًا عن قداسته التي لا يرضى الله أن تصيبها شائبة من الخطيئة. فالتمرّد هو خطيئة.
وماذا عن قصة الطوفان؟ كانت الخطيئة قد طغت على المجتمع الإنساني في زمن نوح، ولكن الله أتاح الفرصة للناس لكي يرتدّوا عن شرهم فيتلافون العقاب الرهيب. أرسل إليهم نوحًا الذي قضى ما يقرب من مئة سنة وهو يحذرهم من عاقبة انتهاكهم قداسة الله، وشاهدوا بأم أعينهم ما كان يقوم به نوح من بناء الفلك؛ ومع كل ذلك ظلّوا متورطين في شرهم، غير مبالين بإنذارات الرب ووعيده. وهكذا أقبل عليهم العقاب في لحظة لا نجاة منها.
ونجد في قصة سدوم وعمورة صورة حية عن غضب الله على أبناء المعصية. فقد بلغ شرهم إلى عنان السماء، ومع أن هاتين المدينتين قد شهدتا معاملات الله معهما عندما أنقذهما من يد أعدائهما بفضل خليل الله إبراهيم ومن أجل لوط، فإنهما لم يأبها لصوت الضمير الذي أصبح مكبلاً بأصفاد الخطيئة، بل أوغلا في ارتكاب الإثم، فنزل بهما عقاب الله الذي محا أي أثر لهما.
من الجلي أن الله يحافظ على عدله لأن هذا العدل هو انبعاث لقداسته الأزلية.
ومن ناحية أخرى، إن الله في تطبيقه لقوانين الحياة والموت لا يغفل عامل الرحمة، فالكتاب يصرّح بأن رحمة الله تسبق غضبه بل عدله وقد ظهر ذلك في قصة آدم أيضًا عندما وعده بالفداء. ونرى ذلك في مجيء المسيح وموته على الصليب من أجل مصالحتنا مع الآب السماوي.
لكن تجلت رحمة الله بصورة آنية عندما لم يحاسب ذرية آدم على سقوط آدم وحواء في خطيئة العصيان. صحيح أن أبوينا الأولين كممثلين عن الجنس البشري قد أورثانا الطبيعة الفاسدة، ولكن ذلك لم يكن الداعي ليعاقبنا الله على فساد هذه الطبيعة. إن عقابنا، وهو عقاب عادل، يتوقف على اختيارنا الفردي للعصيان. إن حرية الإرادة التي هي من شيمة الإنسان، هي التي تقرر موقفنا من الله. فنحن لدينا حق اختيار الطاعة أو التمرد عليها. وعلى هذا الأساس يحاسبنا الله. إن الله لا يمكن أن يتجنّى علينا قط، فكما أن عدالته تعاقب تمرّدنا فإنها في الوقت عينه ترفض الظلم والجور.
في المثل الذي ضربه المسيح لتلاميذه، نرى هنا موقفين:
أحدهما يتمثّل بقاضي الظلم، والآخر يجسد عدل الله وإنصافه. ولكي يبدي المسيح الفارق الأشد بين عدل القاضي وإنصاف الله، يسرد علينا قصة الأرملة. والواقع أن هذه القصة تكشف عن عدة مظاهر لها مساس بحياة مختاري الله، ولا سيما المواظبة على الصلاة، والطلب بلا ملل من الله. ويتخذ المسيح موقف قاضي الظلم الذي، لسبب ما، ظلّ يصُمّ أذنيه عن توسلات هذه الأرملة وما استجاب لها أخيرًا إلا ليتخلّص من إلحاحها وإزعاجها.
ولكن الله في موقفه من مختاريه يسعى لتشجيعهم على الصلاة لأجل كونه عادلاً، منصفًا، ولكنه أيضًا محب ورحوم، لهذا يقول: "أَفَلاَ يُنْصِفُ اللهُ مُخْتَارِيهِ، الصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَارًا وَلَيْلاً، وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ؟ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعًا!" ولفظتا "متمهّل" و "سريعًا"، تكشفان عن أسلوب عدالة الله، وطريقة معاملاته. إن مختاريه يبتهلون إليه نهارًا وليلاً وهو متمهّل عليهم. إن "التمهّل" هنا يستهدف الكشف عن اللحظة المناسبة التي لا يعلم بها إلا الله لكي يتدخّل آنئذٍ وينصف مختاريه. إن وقت الله يختلف عن وقتنا، وإرادته لا تماثل إرادتنا. إن الله لا يخضع لبرنامجنا بل علينا نحن أن نخضع لبرنامجه، وعندئذ يأتي الإنصاف سريعًا.
إن تمهّل الله هو دائمًا لصالحنا، وإن بدا لنا أن الوقت قد طال. لقد قضى الشعب الإسرائيلي ما يزيد عن أربع مئة سنة في العبودية ولكن حين أزف زمان الله، حررهم بقوة لا نظير لها رغم أنف فرعون. وقد جاء حقًا إنصافه سريعًا.
إن وقت الله مشوب بالرحمة. وعدالة الإنصاف تشتمل على ما هو أفضل لمختاريه. بيد أنه في الوقت نفسه يريد منا الله أن نلجّ بصلواتنا ولا نملّ لنبرهن على قوة إيماننا بأن الله لا بدّ أن يستجيبنا، وأننا جدّيّون في طلبنا.
وأخيرًا أقول: ويل للإنسان الذي تتخذ عدالة الله موقفًا سلبيًا منه، فإنه لا يجد مهربًا من النجاة ولا سيما إن انقضى زمن الرحمة. لهذا نرى المسيح يقول بكثير من الأسى:
"وَلكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟".
يا له من توقّع رهيب يبعث على الرعب!

المجموعة: آب August 2013