كانون الثاني - شباط Jan-Feb 2014

الدكتور مفيد سعيدتهب على الإنسان في هذه الحياة رياح كثيرة، ليست كلها مواتية، فالرياح أحيانًا تأتي بما لا تشتهي السفن. هناك رياح عاصفة وأمواج عالية كثيرًا ما تتلاعب بسفينة حياتنا. وفي وسط هذه نتساءل ونتحيّر.
وأود أن أشارككم في بعض ما يمكن أن نتعلمه من عاصفتين كادتا أن توديا بسفينتين:
العاصفة الأولى كادت أن تغرق سفينة كان بها تلاميذ المسيح، وكان المسيح قد تركهم في الليلة السابقة وذهب ليصلي.
والعاصفة الثانية هبّت وكادت أن تغرق سفينة كان عليها بولس الرسول.
دعونا نتأمل كيف نجا تلاميذ المسيح، وكيف نجا بولس الرسول، وكيف أظهر الله نفسه في هذه العاصفة، وكيف هدّأ الرياح.
في المرة الأولى كان المسيح قد أطعم خمسة آلاف بأرغفة خمسة وسمكتين، وفرح الناس وقالوا: "هذا ملكنا... هذا يستطيع أن يشبع بطوننا". وأرادوا أن يتوّجوه ملكًا على أساس إشباع البطون – ملك الرغيف – لكنه رفض هذا المُلك لأنه لم يأت ليشبع البطون بقدر ما جاء أولاً ليشبع القلوب، ولم يأتِ ليكون ملكًا أرضيا بل ملكًا روحيًا.
وبعد هذه التجربة القاسية أراد المسيح أن يكون وحده، وطلب إلى التلاميذ أن يأخذوا السفينة وحدهم إلى عبر البحيرة، وهو يقضي الليلة في الصلاة.
وهبت العاصفة والتلاميذ في السفينة، وابتدأ التلاميذ يسألون: أتراه قد نام؟ أتراه لا يرى؟ هل الذي أطعم الخمسة آلاف لا يستطيع أن يهدّئ العاصفة؟ هل هو لا يستطيع، أم هو لا يريد، أو هو يتجاهل؟ لماذا يتركنا وسط العاصفة؟ إننا في أشد الحاجة إليه... وظنوا أنه لا يكترث بهم، لكنه جاء إليهم، وهم لم يعرفوه، إذ ظنوه خيالًا آتيًا فوق الماء، ولم يعرفوا أنه المسيح، ولكنه طمأنهم وقال: "أنا هو. لا تخافوا".
أقول أولًا: إننا في العاصفة نتعرف على نفوسنا ونتعرف على إلهنا. العواصف تكشف لنا حقيقتنا كما تكشف لنا حقيقة إلهنا.

حقيقة ذواتنا

في العاصفة قد تجد إنسانًا مضطربًا، وفي ذات العاصفة تجد إنسانًا هادئًا. في عاصفة وجدنا التلاميذ يتحيّرون ويتساءلون ويخافون ويتشككون، ووجدنا المسيح في ذات العاصفة هادئًا مطمئنًا.
في عاصفة أخرى وجدنا المسجونين يضطربون، وقائد السفينة يتحيّر ويلقي بكل شيء في المياه، ووجدنا حرس المسجونين يريدون أن يقتلوا المسجونين، لكننا رأينا شخصًا آخر هو بولس الرسول في اطمئنان وثبات كاملين، يطمئن غيره فيعلن أن الله الذي هو له والذي يعبده لن يفرط في إنسان في وسط هذه العاصفة، لأنه وعده بالنجاة.
أحيانًا كثيرة عندما تكون الحياة سهلة والرياح مواتية لا نعرف حقيقة ذواتنا، ونعيش في غير اكتراث بما يحدث، ونبدو لأنفسنا وللآخرين مطمئنين هادئين، لكن حين تهب العاصفة على غير هوانا، تظهر حقيقة نفوسنا، ويظهر الاضطراب الداخلي فينا، ونبدو قلقين متشككين، بل نكاد نفقد تمامًا إيماننا، وهكذا تكشف العواصف حقيقة ذواتنا.
لكن العواصف أيضًا قد تكشف إيمان إنسان ثابت ينام في العاصفة، لا لأنه لا يكترث، ولكن لأنه يثق في إله قادر يستطيع أن يتحكم في العواصف.
دعونا نفحص حقيقة ذواتنا لنعرف أنفسنا، لا في الظروف المواتية، ولا في الأوقات التي نبدو فيها كأحسن ما نكون أمام أنفسنا وأمام غيرنا، لكن دعونا نعرف ذواتنا حينما نخرج ما في دواخلنا على غير إرادة منا، ونحن في العاصفة. دعونا نكتشف مدى إيماننا، ولنعترف إلى إلهنا بضعفنا، ولنطلب منه مزيدًا من الإيمان.

حقيقة إلهنا

في العواصف نكتشف أن إلهنا قادر ومحب، وإن كان يتمهل علينا بعض الوقت، لكنه لا يمكن أن يهملنا. كان التلاميذ يظنون أن المسيح أهملهم ونسيهم، ولكن الكتاب يقول: "كان فوق الجبل يراهم معذبين في التجديف". لم يكن التلاميذ يعرفون أن المسيح يراهم، بل كانوا يظنون أنه لا يبالي بهم، ولكن الكتاب يؤكد لنا أن إلهنا يرانا... هو معنا في ضيقنا، هو يشعر بمتاعبنا. هو يواجه العاصفة معنا، ولا يمكن أن يتركنا... نكتشف أن إلهنا يظهر في منتصف الليل، في وسط العاصفة كما ظهر لبولس الرسول قائلًا:
"لا تخف يا بولس".
إنه يأتينا بصوته الهادئ المطمئن قائلًا: "أنا هو. لا تخافوا!". مهما كانت التجارب والصعاب... مهما كانت العواصف...
أنا هو، لا تخافوا!
والمؤسف أننا كثيرًا ما نسمع الصوت ولكننا لا نتبيّنه، وكثيرًا ما نرى المسيح ونظنه خيالًا، بل نظنه عدوًّا جاء ليصارعنا وليصرعنا – كما حدث حينما جاء المسيح في وسط العاصفة للتلاميذ ماشيًا على الماء، فظنوه خيالًا وشبحًا. ألا يحدث لنا هذا؟ يأتينا ليساعدنا ولكننا لا نعرف. دعونا نرهف السمع، ونوجه آذاننا الروحية إلى الموجة الإلهية، فنسمع صوت الله، في وسط عجيج هذا العالم قائلًا:
"أنا هو. لا تخافوا!".
نكتشف أيضًا أنه قد يتأخر لكنه يأتي... وحين يتأخر تكون التجربة قاسية، ولكنه حين يأتي تكون الفرحة غالبة. لقد أراد المسيح أن يعلّم التلاميذ درسًا في ضرورة الاتكال عليه، فأدخلهم في العاصفة وتأخر في المجيء إليهم ليحسّ التلاميذ أنهم بحاجة إليه لا إلى أنفسهم. في إنجيل متى 14:14 نرى التلاميذ يقدمون النصيحة للمسيح، كأنهم يعلّمونه كيف ينبغي أن يتصرف. يقول الإنجيل: "ولما صار المساء تقدم إليه تلاميذه قائلين: الموضع خلاء والوقت قد مضى، اصرف الجموع لكي يمضوا إلى القرى ويبتاعوا لهم طعامًا". ظن التلاميذ أن حكمتهم تفوق حكمة سيدهم، لأنهم اكتشفوا حقيقة لم يتنبه هو إليها، فذهبوا يقدمون له النصيحة والأوامر أن يصرف الجموع. كان لا بد أن هؤلاء التلاميذ يتعلمون درسًا ويدخلون العاصفة ويشعرون بعجزهم، وكان لا بد أن المسيح يتركهم فترة طويلة ليختبروا قوتهم ويكتشفوا عجزهم وحاجتهم إليه، وضرورة الاتكال عليه، والخضوع له وطاعته.

مجيئه العجيب

كان التلاميذ يتمنون أن يأتي المسيح، لكن لم تدر بخلد واحد منهم أن يأتي ماشيًا على الماء. كان هذا آخر طريق تصوّروا أن يأتي به. وإلهنا يستخدم طرقًا كثيرة قد لا تخطر على بال، يساعدنا بها. حين جاء المسيح على الأرض جاء في مذود، لا بين عظماء الناس... فتح بابًا لم يكن الناس يتصوّرون أنه يأتي منه، وجاء من طريق لم تكن متوقعة أو منتظرة. وحين اختار تلاميذه اختارهم من البسطاء والضعفاء، ولو أن واحدًا آخر أراد أن يختار تلاميذ، ما كان يمكن أن يسلك هذه الطريق. وفي تعاليمه طوّب المساكين بالروح، والجياع والعطاش... إنه يسلك طرقًا غير متوقعة، فيستخدم حكامًا أشرارًا أداة في يده، والحكام لا يعلمون، والكل يتصوّر أنهم يحكمون ويسيطرون ولا يعلمون أن الله يسخرهم لمجده ويستخدمهم لصورة غير متوقعة من الناس لكي يتمم مشيئته، ويستخدم حتى الشر لإخراج الخير، ويخرج من الآكل أكلًا ومن الجافي حلاوة.

هناك مرساة

في وسط العاصفة علينا أن نلقي بالمراسي. حين تهتز سفينة حياتنا في وسط العواصف وفوق الأمواج والمياه، نحن بحاجة إلى المرساة نلقيها ونثبّت السفينة بها.
في 1تيموثاوس 19:1 يقول بولس لتلميذه: "ولك إيمان وضمير صالح، الذي إذ رفضه قوم انكسرت بهم السفينة من جهة الإيمان أيضًا". أي، إن السفينة تنكسر حينما لا يكون لنا الإيمان والضمير الصالح، فهما المرساة التي تثبّت سفينة الحياة فلا تعصف بها العواصف.
وفي رسالة العبرانيين 18:6-19 يقول: "لنمسك بالرجاء الموضوع أمامنا. الذي هو لنا كمرساة للنفس مؤتمنة وثابتة، تدخل إلى ما داخل الحجاب". الرجاء، والإيمان، والضمير الصالح، مراسٍ لا بد من استخدامها وسط تجارب الحياة وعواصفها. علينا أن نتكل على الله بالإيمان. لتكن لنا ثقة أن إلهنا معنا، وأنه قادر، ولا يمكن أن ينسانا. لتكن لنا ثقة أن إلهنا يسمع الصلاة، حتى الأنين داخل القلب.
في وسط عواصف الحياة دعونا نلقي مرساة الإيمان الواثق بالله، ومرساة الضمير الصالح المرشوش بدم المسيح، ومرساة الرجاء الثابت الموضوع أمامنا بمجيء المسيح.

شخص واحد

كثيرًا ما تهدأ العواصف حول كثيرين من أجل شخص واحد. فحينما ظهر ملاك الرب لبولس في وسط العاصفة قال له: "لا تخف يا بولس، ينبغي لك أن تقف أمام قيصر، وهوذا قد وهبك الله جميع المسافرين معك". أي إن جميع المسافرين نجوا من أجل بولس. نحن في هذه الحياة نحمل ديونًا كثيرة نحو آخرين لا نعرفهم، ولا ندرك الفضل الذي لهم علينا. في ذلك اليوم حين نلتقي مع الآخرين في المجد، سوف نكتشف أسرارًا ما كنا نعرفها، وأن هذا العالم حُفظ من الدمار بسبب حفنة من المؤمنين. سنكتشف أن كنيسة نمت لا بسبب راعٍ مشهور فيها، ولكن بسبب سيدة كانت تصلي في الخفاء. ستكتشف أن حياتك نضجت ونمت لا بتقواك، لكن بسبب صلوات أمك أو بسبب مثال أبيك. سنكتشف أن الله أحسن إلينا، لا لأننا نستحق ولكن من أجل آخرين.
في العواصف يأتينا المسيح يكشف لنا حقيقتنا، ويكشف لنا حقيقته. يأتينا بسبل وطرق غير متوقعة، ويطالبنا أن نتمسك به ونتكل عليه، وأن نلقي بالمرساة لتثبّت مرساة الحياة. وهو كفيل بأن يهدّئ العاصفة ويصل بالسفينة إلى برّ الأمان.

المجموعة: كانون الثاني-شباط Jan-Feb 2014