أذار March 2014

الأخت أدما حبيبيتعجَّبتُ من جُرأتِه الكبيرة، وأُخذْتُ بحماستِه الشَّديدة وغيرتِه القوية، وجُذبت إلى حديثه المميَّز، ومشاركاته المؤثّرة التي حمَلتْ قصصًا من واقع الحياة واختباراتها المثيرة في كل مرة رأيناهُ فيها. وأنصتُّ مِرارًا كثيرة إلى حكاياتِ أناسٍ إما أن يكون قد مدَّ لهم يدَ المساعدة أو أرشدَهم في محنتهم وشَهِد لهم عن بابِ الخلاص المفتوح.
تعرّفتُ وزوجي به منذ أكثر من عشرين سنة خَلَتْ حين التقيناه أولًا هنا في أمريكا ومن بعدها في كوريا، وفي الأردن حين زرناهُ في مكتبه الخاص وطلبْنا منه بعض الإرشادات والنصائح إذ كنا في صدد عبور الحدود إلى بلدٍ مجاور. وحين علِم مُرادَنا للحال ترك كلَّ شيء بيده وأمسك بالتليفون واتصل على الفور بأحد الضباط على الحدود هناك موصيًا بنا. ليس هذا فحسب بل إنه أرسل معنا إليه مظروفًا يحوي فيديو وكتبًا قيّمة لتكون هدية لذلك الضابط الذي سيستقبلنا هناك. بالطبع لن ننسى تلك الزيارة إذ إنها تركت لديَّ ولدى زوجي انطباعًا إيجابيًا عنه وعن محبته وتضحيته ورَحابة صدره.
لم أعرفْ عن ماضيه شيئًا، لكنَّني عرفتُ عن حاضره الممزوج بالخدمة، وقلبه المفعم بالاهتمام بالآخر، والمملوء بالتضحية في سبيل إيصال نفس الآخر إلى شاطئ الأمان. وفي يوم من أيام السنة الماضية، حضر إلينا ليشاركَ عن عمله المثير ويتحفَنا بقصصٍ لحياة أشخاص انقلبتْ رأسًا على عقب. ولمَّا أثيرَ موضوع قصته هو، راح يسردُها علينا والآذان تسمع بشغفٍ والعيون تدمعُ مع كل مرحلة صعبة مرَّ بها في حياته منذ أيام الصغر وحتى الشباب. استمعنا إليه بكل شوق وجدية على الرغم من روحه المرحة التي أضفت على قصة حياته المؤثرة شيئًا من خفة الظِّل وقلَّلت من وطأة الصراع الداخلي الذي عاش فيه. فقال ما يلي:
قصتي طويلة، وحكايتي تحتاج إلى ساعات لأسردَها عليكم أيها الأحباء، لكنَّني لسوف أقولها باختصار ملقيًا الضوء على الأيام التي عشتها من ماضيّ مصليًا أن تكون سببَ بركة لكل من يسمع.
اسمي كمال مع أني بعيد عن صفة الكمال هذه المكنَّى بها. ولدت في عمان الأردن، وربيت في كنف عائلة مسيحية حقيقية، وتعَّلمت الإنجيل المقدس منذ نعومة أظفاري. وكان والداي قدوةً حسنة لنا في السلوك والإيمان المسيحي الحقيقي. لكن وعلى الرغم من ذلك كلِّه، اتجهتُ اتجاهًا آخر يختلف بالكلية عن واقع بيتي وعائلتي. وفي سن الرابعة عشرة اعتنقتُ ديانة أخرى متأثرًا بذلك من تعاليم المدرسة التي زُرعت في داخلي، ومن الأفلام التي شاهدتُها في أول أيام المراهقة عن هذا الدين في المدرسة أيضًا. ورسوت في تعليم هذا الدين لمدة زادت عن السنوات الأربع. ووقعَ هذا الخبرُ على أهلي كوقع الصاعقة، فراحت أمي تقضي الليالي وهي راكعةٌ إلى جانب السرير تصلي من أجلي بحرارة، ذارفةً الدموع السخينة لكي أعودَ عن ضلالي هذا. أما جدتي لأمي فكان لديها ثقة كاملة بأنها لن تموت قبل أن تراني قد عدتُ فعلًا إلى إيماني المسيحي وإلى الرب يسوع المسيح المخلص.
لم تقتصر حياتي الشابة على تغيير اعتقادي ومذهبي فحسب، بل انحدرت في الناحية الأخلاقية إلى الدَّرَك الأسفل أيضًا. فجرَّبت المخدرات، وصرتُ مدمنًا عليها. كما رحتُ أتناول كل أنواع المشروبات الروحية، وعملتُ في ملهىً ليليّ وصرتُ أقدِّم الكحول للناس الصغار منهم والكبار. ورأيت بأم عيني كيف كان يعيش الأغنياء وكيف كانوا يلجأون إلى الكحول من أجل التخفيف من آلامهم. رأيت حالتهم المزرية، لكن كلُّ ذلك لم يردعْني، بل ازدادتْ حالتي سوءًا وصرتُ أعيش حياةً فاسدة بكل ما في الكلمة من معنى. أما كلمات جدتي فكانت لا تزال ترن في أذني حين قالت لي يومًا: حتى ولو صرتُ بعمر متوشالح الذي كان أكبر رجل عمرًا في الكتاب المقدس (969 سنة)، فلن أموتَ قبل أن أراك مسيحيًا مؤمنًا.
ومرَّت الأيام والشهور وكذا السنون، وكنتُ أصارع في داخلي بين ما تلقَّنْته من تعاليم وأنا صغير، وبين ما تبنَّيته من معتقدات جديدة في هذه الديانة التي اخترتها وكذلك بين ما كنتُ أعيشه من حياة فاسدة أحسست من خلالها أنني أسير نحو وادٍ سحيق لا قرار فيه. عندها أردت الهروب من واقعي الأليم وحاولت الانتحار مرتين، لكنَّني لم أمتْ. ولمَّا دعاني مرة أحد الإخوة إلى حضور اجتماع للشبيبة في الكنيسة وأصرَّ عليّ أن أحضر معه، خضعت للأمر الواقع وذهبت. ويوم ذاك وقف أحد الشباب وكان أرمنيًا، وشارك بقراءة من الكتاب المقدس من سفر رؤيا يوحنا ومن الفصل الثالث حين يقول الكاتب: "أنا عارف أعمالك، أنك لست باردًا ولا حارًا، ليتك كنت باردًا أو حارًا هكذا لأنك فاتر... أنا مزمع أن أتقيّأك من فمي". قرأ هذه الآيات وأشارَ إليَّ بيده ثلاث مرات. فخفتُ أنا وارتعبُت، وتركتُ الكنيسة للحال وشعرتُ بأنَّ الله فعلًا قد  تقيَّأني من فمه. وعشتُ تحت وطأةِ هذا الهاجسِ الكبير أيامًا كثيرة، إلى أن ذهبت في الأحد التالي إلى كنيسةٍ أخرى حيث كان خالي القس فواز عميش هو راعي الكنيسة. فرحّب بي جدًّا، وقلت في نفسي لسوف أسلِّم حياتي حالما ينطقُ القس بالدعوة لكل من يرغب في أن يسلِّم حياته للرب من جديد. لكن لسوء حظي لم يفعلْ خالي ذلك. وحضرتُ الكنيسة في الليل أيضًا، وأيضًا لم ينطق بكلمات الدعوة. وحين عدتُ إلى المنزل، كنت في وضعٍ صعبٍ جدًا. وعندما رأتني أمي على هذه الحال، سألتني لماذا رائحتكَ دخّان؟ كذبت عليها نافيًا الأمر. أما هي فنظرت إليّ بكل ثقة وقالت: اسمع يا كمال يا ابني، إنَّ رُكَبي هذه تسجدُ في كلِّ ليلة أمام الرب، إلى أن تعود إليه مثلَ الأرنب خائفًا مرتعبًا.
وفي صباحِ اليوم التالي، عدتُ إلى عملي في الملهى، وقلت في نفسي: إذا كانَ الرب قد تقيَّأني  من فمه، فأنا لست بمستعدٍ أن أخسرَ عملي أيضًا. وهناك أحسستُ أنني متعب جدًا ومرهق. وصرتُ أطلب الله ورحتُ أتكلم معه، ممَّا جعل أصدقائي يستغربون. وصلَّيتُ بحرقة قلب وبصوت المستغيث المحتاج إلى الإنقاذ، قلت: يا رب أنت تقول: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم". نعم، أنا متعب كثيرًا، أنا فاسد، أنا حيران، أنا على المخدر، والمسكر. أرجوك، أطلب إليك أن تخلصني وتنقذني مما أنا فيه.
وهنا حصلتِ المعجزة، وحدث شيء عجيب في داخلي. شيء عجيب لا يمكنُ وصفُه أو التعبير عنه بكلمات. وقلت للرب أن ينقذني ويخلِّصني من سلطان المخدرات والدخان، وأمسكتُ بعلبة السجائر وفيها المخدّر أيضًا ومزَّقتها بين يديّ، ورميتُ بها بعيدًا، وطلبتُ من الرب النصرة الكاملة على كل شيء. ولما عدتُ إلى البيت، طلبتْ جدتي مني أن آتي إلى غرفتها ولمَّا فعلت: قالت لي بالحرف الواحد: أنت عملتَها يا كمال أليس كذلك؟ قلت لها وماذا تعنين؟ قالت: أنت سلَّمت حياتك من جديد للرب يسوع المسيح المخلص. لقد عرفتُ ذلك من وجهك.
أما صديقي من المعتقد الآخر، فاقترب مني وقال: إذا كان المسيح يغيِّر بهذا الشكل يا كمال فأنا أريده أن يُجري المعجزة فيَّ أنا أيضًا. قلت له: انتبه يا صديقي، هذه هي قصتي أنا. تأنَّ ولا تتسرَّع. وفي اليوم التالي، قال لي: أريد أن أؤمن بهذا المسيح المخلص، وأسلِّم حياتي له أنا أيضًا تمامًا كما فعلتَ أنت. وهكذا آمن وخُلص. ليس هو فحسب بل كثيرون من أصدقائي وزملائي اختبروا هم أيضًا هذا التغيير الجذري في حياتهم ونالوا الخلاص من عقاب خطاياهم، والغفران من الله الآب على أساس عمل الفداء الذي قام به الرب يسوع المسيح مخلصي وفاديّ.
وها أنا اليوم أشهد عن نعمة الله المخلصة لي التي منحتني هذا الخلاص مجانًا ودون أي مقابل.
بهذه الكلمات الجميلة ختمَ كمال قصتَه، وتحوَّل إلى شخص كامل حقًا وفعلًا لأنهُ صار مبرَّرًا ببر المسيح الذي وحده يبرّر الإنسان الخاطئ أمام الله القدوس. وكمال اليوم بعد أن كانَ ضالًا بعيدًا عن الطريق صار من أتباع الطريق، من أتباعِ يسوع المسيح الذي وحده قال عن نفسه: "أنا هو الطريق والحق والحياة". وهو الآن يدلُّ البعيد والقريب إلى ذلك المصلوب الذي سفك دمه على الصليب من أجل فداء الإنسان ومنحه الحياة الأبدية. فهل أُطلقَ عليك أنت أيضًا يا صديقي هذا اللقب "من أتباعِ الطريق"؟
الأخ كمال

المجموعة: أذار March 2014