أيار May 2014

Ammariقبل أن نبدأ مسيرتنا ونحط الرحال عند محطتنا الكبرى للوصايا العشر، المكان الذي تراءى الله فيه لنبيّه موسى وسلّمه لوحَي الوصايا، يجدر بنا أن نتعرَّف أوّلًا بأحداثٍ ومشاهدَ سبق وشكَّلت حلقات تاريخية متصلة بعضها ببعض يخبرنا بها سفرَي التكوين والخروج سنتصفح هنا لمحات منها باختصار شديد لتصل بنا في نهاية المطاف إلى المشهد الذي نسعى للوصول إليه. ونبدأ بسيرة حياة رجل كلداني من أعاظم رجال الكتاب المقدس، هو أبونا إبراهيم، الذي لُقِّب في ما بعد بأبي الأنبياء.

 

 

تميَّز إبراهيم بإيمانه بالله بين رفاقه وأهل بيته في بيئةٍ اختلطت فيها الوثنية بالاعتراف التقليدي بوجود الله، فدعاه الله ليخرج من وسطهم قائلًا له: "اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك. فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظّم اسمك، وتكون بركة. وأبارك مباركيك... وتتبارك فيك جميع  قبائل الأرض" (تكوين 1:12-3).

سنتوقّف عند هذا الوعد الذي نطق به الله لأبينا إبراهيم لنلاحظ متى وكيف تمّت تلك البركة لينعم  بها جميع قبائل الأرض!

سار إبراهيم في طاعة الله كما قيل له، فغادر أرضه وعشيرته وبدأ رحلته من أور الكلدانيين في بلاد  العراق إلى حاران، ومن ثمّ اتّجه غربًا ترافقه زوجته سارة وابن أخيه لوط وزوجة لوط، وما كان لهما من قطعان ماشية يقتاتون بها، مع حاشية من الرعاة، وأثناء مروره بدمشق اصطحب معه ألعازر الدمشقي فصار له وكيل أعمال.

واستمرَّت المسيرة إلى أن وصل إبراهيم إلى الأرض التي أراه إيّاها الله، فسكن أولًا في شكيم، وهي نابلس اليوم، التي في ضواحيها بئر يعقوب حفيد إبراهيم، كدليل أثري على سكن العائلة هناك.

ثم أخذ إبراهيم يتنقّل مع قطعانه ومواشيه في سهول البلاد ومراعيها ما بين شكيم ويبوس (الاسم القديم لأورشليم) وحبرون (مدينة الخليل التي تُعرَف بخليل الرحمن على اعتبار أن إبراهيم هو خليل الله)، وبئر سبع في جنوب فلسطين. وعاش إبراهيم في الأرض لسنين عديدة معزَّزًا مكرمًا بين جيرانه من أهل البلاد الذين شهدوا لإيمانه ورفعة مقامه بينهم (تكوين 23: 1-7).

ووُلِد له إسماعيل من الجارية المصرية هاجر، إذ كانت زوجته سارة عاقرًا. ثُمَّ بمعجزة وُلِد له إسحاق من زوجته الحرّة سارة، وكان إبراهيم ابن مئة سنة عندما وُلد إسحاق، وسارة ابنة تسعين.

وسار خيط  ذهبي من النبوة من خلال إبراهيم مرورًا بإسحاق الملقب بابن الوعد، بانتظار منْ سيأتي مِنْ نسله فتتبارك به جميع قبائل الأرض تتميمًا للوعد. واستمر خيط النبوة مرورًا بيعقوب ابن إسحاق الملقب بأبي الأسباط، ومرورًا بسبط يهوذا الذي من نسله جاء المسيح بتسلسل موثّق في كتب الوحي (متى 2:1 و16)، وتحقَّق وعد الله لإبراهيم بأنْ تتبارك بنسله جميع قبائل الأرض.

جدير بالذكر أن وعد الله لإبراهيم له جذورٌ ترجع إلى زمن الخليقة، وبالتحديد بعد سقطة آدم مباشرة، التي تسببت له بالطرد من الجنة، ومنذئذ بدأت المعركة على أشدّها بين الخير والشر، بين ملكوت الله وملكوت الشيطان.

في بدء هذا الصراع، استطاع العدو أن يُسقِط آدم ويجرّ البشرية إلى ما هي عليه من تردٍ، وتخبُّطٍ، وقتلٍ، ودمارٍ، وارتكاب معاص. وفي لحظتها خاطب الله الشيطان المُمثَّل بهيئة الحية معلنًا عن مجيء المنقذ (ابن المرأة) الذي سيكسر شوكة إبليس إنقاذًا للبشرية من شر ما وقعت فيه من ضياع، فقال للحية: "أضع عداوة بينكِ وبين المرأة، وبين نسلِكِ ونسلِها. هو يسحق رأسكِ، وأنتِ تسحقين عقبه" (تكوين 15:3).

فنسل المرأة هنا إشارة للمسيح ابن مريم، فهو بناسوته انتسب لأمه العذراء الطهور. فالإنسان عادةً يُنسبُ لأبيه، ولا أحد منا يرضى بأن يُعَرَّفَ بين العامة بأنه ابن فلانة، ليس انتقاصًا لمقام الأم ودورها في جسم العائلة، إنما هو مصطلح استخدمه الوحي ودرجت عليه البشرية منذ أن كان الإنسان. أما المسيح فهو الوحيد الذي انْتُسبَ لأمه بشرف، فقيل فيه "المسيح ابن مريم".

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا:  لماذا؟ وما تفسير ذلك يا ترى؟

وجاء المسيح ابن مريم وسحق رأس الشيطان بالصليب، إذ به حمل خطايانا ليصالحنا مع الله على حساب دمه الخالي من كل عيب، ضامنًا حياة أبدية لكل من يؤمن به ويدرك حقيقة هويته.

ويُلاحَظ أنَّ البعض مِمّن يقفون عند تلك الآية من سفر التكوين، يتوقّفون عند قول الله أن ابن المرأة سيسحق رأس الحية الذي يُفسَّرُ بحق أن المسيح بالصليب سحق رأس العدو وفجّر ينبوع خلاص لكل الشعوب، لكن لا ننسى أن القسم الآخر من الآية يشير إلى أنّ الحية أيضًا ستسحق عقب ابن المرأة، وماذا يعنيه ذلك؟ فعقب ابن المرأة في ذلك النص من النبوة يشير إلى جسد المسيح ابن مريم الذي سيُسْحق بالصلب، وقد سُحق فعلًا، وكانت عملية السحق قد نُفِّذت على أيدي خطاة من أتباع الحية التي تَمَثَّلَ الشيطان بها، لكن الموت لم يقوَ على المسيح المصلوب، ففي اليوم الثالث قام وداس الموت في عُقر داره وحقّق الخلاص لكل من يُقبل إليه من كل الشعوب. وها قبره اليوم ومنذ ألفي عام قبرًا مُميّزًا يختلف عن كل قبور الناس، قبرًا مفتوحًا في كنيسة القيامة في مدينة القدس مشرّع الأبواب، يُزارُ يوميًا من كل شعوب الأرض، لا جثة فيه ولا بقايا عظام، لأن المسيح لم يعد هناك. قال الملاك للنسوة اللواتي جئن لزيارة القبر في فجر الأحد الذي يلي يوم الصلب: "لماذا تطلبن الحي بين الأموات؟" لقد قام، يسوع حي!

أما العدوّ فقصد من صلب المسيح القضاء عليه، وإفشال خطة الخلاص التي جاء ليحققها، لكن المسيح بقدرته التي لا تُحدّ، جعل من دمه الذي نزف على الصليب فداءًا للبشرية. فبصليبه فتح باب المصالحة مع الله، وبقيامته جعل من الموت بوابة للعبور إلى مجد الأبدية. وبهذا يردِّد المؤمنون الهتاف اعتزازًا بقيامة المسيح، ويُحَيُّون بعضهم بعضًا قائلين: المسيح قام، حقًا قام! ويتحدَّون الموت قائلين: "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتكِ يا هاوية؟" (1كورنثوس 15: 55). سبق للكتاب المقدس أن أنبأ عن قيامة المسيح في مزمور 9:16-10 "جسدي أيضًا يسكن مطمئنًا. لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيك يرى فسادًا"، أي لن تترك جسدي يتحلّل في قبره وهو في هاوية الموت. كما وأنبأ عن معجزة ميلاده، وهوية المولود، وهدف مجيئه للعالم بتلك الصورة المعجزية، وتحدث عن تفرّد المسيح ورفعة مقامه لتتبارك به جميع قبائل الأرض.

المجموعة: أيار May 2014