حزيران June 2014

Munir Faragallaكان يومًا طويلاً مشحونًا بالأحداث. دخل يسوع الهيكل في الصباح، وما أن رآه الشعب حتى تجمّعوا حوله فجلس يعلمهم. واقتحم الكتبة والفريسيون المجلس ودفعوا بامرأة أُمسكت في زنا وأقاموها في الوسط قائلين له: إن موسى أوصى أن تُرجم، وسألوه ليجربوه ما قوله في ذلك. رأى في عيونهم استعدادًا للانقضاض ورغبة في القتل. انحنى إلى أسفل وأخذ يكتب على الأرض. ثم قال:

- من منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر.

وانحنى واستمر يكتب... وإذا بهم تحت لذعات ضمائرهم يخرجون واحدًا فواحدًا، وأخيرًا اعتدل وسأل المرأة بصوت يقطر رحمة وعطفًا ولطفًا:

-  أين هم المشتكون عليك؟ أما دانكِ أحد؟ أجابت:

-  لا أحد يا سيدي.

وانتصب واقفًا وجاء صوته ممتلئًا قوة وجلالاً وسلطانًا:

-  ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضًا.

واستمر اليوم وهو يكلم اليهود الذين جاءوا ليسمعوه ويتحاور مع معارضيه ويصدّ هجوم الفريسيين والكتبة، وانتهى بهجوم وتعدّ عليه، فخرج من الهيكل ومضى.

 

* * * * * * * * * *

وبينما هو وتلاميذه يسيرون، رأوا إنسانًا أعمى منذ ولادته فتوقّفوا. المشهد لم يكن غريبًا، فهذا الأعمى كان يجلس على جانب الطريق ليستعطي لسنوات عديدة، وأمثاله من المعاقين بعاقات مختلفة كانوا منتشرين في كل مدن اليهودية وخاصة أورشليم في محيط الهيكل. وكلما كانت الإعاقة شديدة كانت أكثر جذبًا لعطف المارين ودراهمهم. ومن الغريب أن هذا الإنسان كان أعمى منذ ولادته. وُلد بعينين لا تريان، وليس في وعيه صورة ما للعالم حوله. الذي يُصاب بالعمى بعد وقت من ولادته لديه صورًا للأشياء في ذاكرته، رآها قبل أن يفقد بصره، أما هذا الرجل فلم يكن عنده معرفة بشكل أو لون أو ملامح أي شيء... لا الشمس ولا القمر... لا الإنسان ولا الحيوان... حتى زوجته وأولاده لا يستطيع أن يميّزهم إلا بأصواتهم ورائحتهم. حين تلتقط أذناه حركة أو يشتم أنفه رائحة يرسم لمصدرها شكلاً يختلف عن الأشياء المألوفة للمبصر، ملامح خاصة به. عالمه غير عالم المبصرين، تحدده وتشكله حواسه المتبقية له. يرى بحواسه... يرى خلال ما تسمعه أذنه... يرى بما تلمسه أصابعه. يرى بطعم ما يتذوّقه وبرائحة ما يشمّه. فوقف يسوع وتلاميذه أمام الأعمى. كان يجلس رافعًا رأسه إلى أعلى منحرفًا بها نحو اليمين تارة ونحو اليسار تارة أخرى ليسمح لأذنيه أن تلتقطا الأصوات ليميّز ما يحيط به. صوت الأقدام تحدّد إن كان رجلاً أو امرأة، وهل هو في سن الطفولة أو متقدّمًا في العمر. أذناه قادرتان أن تميّزا له تلك الأشياء، فكل ما حوله أشياء لا أشخاص. وكان ارتفاع رأسه يتيح لأنفه أن تضيف للشيء أبعادًا أكثر فيعرف إن كان ذلك الشيء من البشر أو الحيوان أم الطير أم الجماد. لكلٍ رائحةٌ متميّزة وملمسٌ خاص إن استطاع أن يصل بيده إليه. ويمكنه وهو جالس في مكانه أن يعرف إن كان ذلك الشيء حيوانًا اقترب منه بحثًا عن طعام في جحره أو عصفورًا حط بجواره ليلتقط شيئًا ساقطًا على الأرض، أو حشرة تبحث عن مخبأ. كل ما حوله أشياء مثل ذلك الشيء الذي يجري ضاحكًا بجوار أمه ثم يضع شيئًا يقولون إنه درهم في شيء اسمه صندوق بجانبه، ويعود جريًا مرة أخرى نحو أمه. ذلك كله يستطيع أن يحدده دون أن يستخدم عينيه كباقي الناس.

وقف التلاميذ يراقبون حركاته وبداخلهم سؤال. هم يعرفون أن كل بلاء الإنسان سببه الخطية. وهذا الأعمى خاطئ بلا أدنى شك، لكنه وقد وُلد هكذا فلعل الخطية خطية والديه. سألوا يسوع في ذلك. كان في داخلهم اقتناعًا بالإدانة أن هذا الرجل خاطئ مقضي عليه بالعمى. يسوع رآه غير ذلك. يسوع رآه إنسانًا فاقد البصر. إنسانًا لم تكتمل خلقته، جاء إلى الحياة بلا عينين. سألوه:

-  يا معلّم، من أخطأ؟ هذا أم أبواه حتى وُلد أعمى؟

أجابهم وهو ينظر إلى ذلك المسكين بكلتا عينيه ويراه منبوذًا وحيدًا يعيش في عالم مظلم بلا قبس من نور... عالم كله ليل لا نهار فيه. خلقٌ لم يكتمل، وقصة لم تتم بعد. أجاب بصوت يعكس مشاعر وعاطفة واهتمامًا:

-  لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه.

لم يلُمْ ولم يدن، ولم يصدر أحكامًا. تقدم ليكمل ما لم يكتمل وليعمل ما ينبغي أن يعمل. أضاف:

- ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار. يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل. ما دمت في العالم فأنا نور العالم.

وكما جبل الرب الإله آدم ترابًا من الأرض، تناول يسوع بعض تراب الأرض وصنع طينًا، وطلى عيني الأعمى وقال له:

-  اذهب اغتسل في بركة سلوام.

فمضى واغتسل وأتى بصيرًا.

وتستمر القصة وإذا بالجيران يتحيّرون ويتساءلون إن كان هو، فيفسّر لهم:

- إنسان يُقال له يسوع صنع طينًا وطلى عينيّ وقال لي: اذهب إلى بركة سلوام واغتسل، فمضيت واغتسلت فأبصرت.

أما الفريسيون فلما سمعوا اتهموه بالكذب واتهموا يسوع بأنه ليس من الله لأنه لا يحفظ السبت، ولما كرروا السؤال عدة مرات سألهم بذكاء وشجاعة إن كانوا يريدون أن يكونوا تلاميذًا له. ولما أخرجوه خارج الهيكل وجده يسوع وتأكد من إيمانه ثم قال:

- لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم، حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون.

عزيزي... عزيزتي...

هي من أسرة صديقة من الخدام، الأب كارز جال في الداخل والخارج مقدمًا رسالة الخلاص للآلاف، والأم كرّست حياتها لخدمة كنيستها وجيرانها كرابحة نفوس طوال حياتها. وُلدت وهي مصابة بشلل الأطفال غير قادرة على تحريك رجليها. حملتها أمها إلى مدرسة رياض الأطفال، لكن المديرة رفضتها ونصحت الأم أن تريح نفسها وتلقي بها في القمامة أو دورة المياه. استمرت الأم تعتني بها وتحملها على كتفيها إلى الحضانة، ثم المدرسة ثم الجامعة. ولأن الإعاقة يمكن أن تتحوّل إلى طاقة، تخرجت من كلية الطب بدرجة امتياز وبمرتبة الشرف. وما تزال حتى اليوم أستاذة مرموقة معروفة في المحافل الطبية المحلية والعالمية كعالمة في مجال التحاليل الطبية وحصلت على الكثير من الجوائز والأنواط.

التلاميذ رأوا المولود أعمى خاطئًا مُدانًا عقابه فقدان بصره، أما يسوع فرآه إنسانًا يحتاج إلى التعاطف والمساعدة.

التلاميذ وجدوا فيه قضية اتهام تحتاج إلى نقاش، أما يسوع فوجد فيه شخصًا يحتاج إلى عودة بصره إليه. لهذا يقول المسيح لنا: لا تدينوا لكي لا تُدانوا، لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تُدانون.

قبل أن تدين، فكّر في من تدينه... لو سمع الأعمى ما قاله التلاميذ عنه لانزعج وحزن وتألم، وهم يلقون اللوم عليه أو على والديه... فكّر قبل أن تدين لعل الموضوع ليس للإدانة بل لتمجيد الله. لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه...

ونحن نستطيع أن نرى في ظلمة التجربة نور الله، ونختبر في مرارة الألم جود الله وقدرته.

المجموعة: حزيران June 2014