أيلول September 2014

AdmaHabibiهل تعلم يا قارئي أنَّ لون السجون في سويسرا وردي؟ وأنَّ السجون الفيدرالية البرازيلية تقلِّص من مدة حكم المسجون إذا ما أتم قراءة كتابٍ واحد في الشهر!

يبدو أنَّ الخبرين طريفان لا بل بعيدان عن الواقع في عُرْفِ مجتمعاتنا. أليس كذلك؟ لكن لنعُدْ ونتقصَّى حقيقة كلٍّ منهما علّنا نستشفّ العبرة وننال الفائدة، فننقلُ ما ورد في الخبر الأول تحت عنوان "لون السجون في سويسرا وردي" بحسب الصحيفة التي نقلته: "اعتمدت مصلحة السجون في سويسرا نظامًا جديدًا يتعلَّق بلون الجدران. وأصدرت قرارًا بدَهنها باللون الوردي استنادًا إلى آراء مستشارين في علم النفس نصحوا بهذا اللون لما يحمله من تأثير إيجابي على حالة الإنسان النفسية. ولم يقتصر ذلك على السجون فحسب، بل قررت الشركةُ السويسرية أيضًا دهن زنزانات الحجز المؤقت باللون الوردي. إذ لاحظت أن الموقوفين المعروفين بعدوانيتهم قد أصبحوا أكثرَ هدوءًا. حتى إنَّ بعضهم راح يغطُّ في نوم عميق.

ويصف علماء النفس اللون الوردي بأنَّه اللون الذي يرمز إلى السعادة النفسية. ويُصنَّف اللون الوردي ضمن فئة الألوان التي توحي بالرقة والضعف والأحاسيس المرهفة، ولذلك يوصف بأنَّه "لون البنات". أما في الثقافة الروسية فكان اللون الوردي يرمز دائمًا إلى التفاؤل والأمل".

اللون الوردي الزاهي يرمز إذن بحسب علماء النفس إلى السعادة النفسية. ويحاولون هنا جلب السعادة الداخلية إلى نفس السجين، أي إلى نفس المجرم والمفتري، وربما القاتل أو السارق، وقِسْ على ذلك. ولا أستطيع إلا أن أعلّق على هذا الخبر لأقول: طوبى إذن لِمن تطأ أقدامه سجنًا زاهيًا كهذا لأنَّ المستشارين النفسيين يهتمُّون براحته، ويعملون ما بوسعهم على تحسين نفسيته، وبالتالي إعادة تأهيله من جديد ليصبح عضوًا فعّالًا سويًّا في المجتمع.

إنَّ قوانين العديد من سجون العالم تبدو مثيرةً للاهتمام وللإعجاب أكثر الأحيان! فعلى سبيل المثال ننقل الخبر الثاني الذي يقول: "بأنَّ ثمةَ قانون تعمل به السجون الفيدرالية البرازيلية، يسمح بتقليص مدة الحكم لأربعة أيام في الشهر مقابل قراءة كتاب واحد. وإن كان ذلك بشرط ألَّا يتجاوز مجموع هذه الأيام شهرًا ونصف الشهر في العام الواحد. وسعيًا من المسؤولين للتأكد من أنَّ السجناء قد قرأوا الكتب حقًا، يُبدي المسجونون استعدادَهم للخضوع إلى اختبار إنشاء، يجيبون فيه على أسئلةٍ ويكتبون ملخَّصًا للكتب التي قرأوها."

شتَّان ما بين هذه العناوين الملفِتة للنظر والمثيرة للدهشة والإعجاب، وبين عناوين أخرى تحملُ إلينا نحن القراء حالة من الاكتئاب لِما فيها من استهتارٍ وقمعٍ لحقوق الإنسان العادي في مجتمعاتنا العربية، لحقوق الطفل والبنت والولد والشيخ، لحقوق المواطن الذي يُسكَت ويُخرَسُ ويُبكَمُ، لا بل يزجُّ بالسجن لمجرد أنَّه نطق بكلماتٍ لا تسوغُ للمسؤولين، أو لم تُرضِ أذواقَ السياسيين، أو إنه أتى بعمل أو نشاط غير مرغوب فيه. لا يُزجُّ في السجن فحسب بل تُهدَّد عائلتُه وعشيرته. كما ويُحكَم عليه ويَنال من التعذيب والإهانة والذلّ ما لا يمكن لعقلٍ أن يتصوّره.

على الصعيد الاجتماعي، خذ مثلًا يا قارئي هذا العنوان الذي يقول: فتاة مقدِسية تقضي حرْقًا بسبب الفيسبوك! فقد قام والدٌ بقتل ابنته البالغة من العمر سبعة عشر عامًا بسبب أنَّ لها أصدقاء على الفيسبوك، وهذا لا يتناسب مع التقاليد بأن تقيم الفتاة علاقات مع معارف لها. نعم، عنوان يبعث في النفس الاشمئزاز ويعطينا لمحة ليس عن استهتار الحكومات بحقوق مواطنيها فحسب، بل بسلب الأهل أولادهم حقوقهم الطبيعية والحطِّ من قيمتهم. فهناك عناوين ترفع من شأن الإنسان حتى ولو كان سجينًا وأخطأ مرة أو مرات، وتمنحه فرصة أخرى في الحياة علَّه يُسترَدّ إلى الطريق السويّ المرضي والمقبول في المجتمع. وعناوين أخرى، تقضي على الإنسان الطليق والحر، كبيرًا كان أم صغيرًا، في بيته وبين عائلته أو في مجتمعه، وفي وطنه، فنراه يتعرَّض لكافة أنواع العذاب والقهر لكن في سجنٍ كبير محيط به من كل جانب. فالقيود والتقاليد والمتوارَثات أحيانًا تكبِّله إلى أبعد ما يمكن، لتجعل من الفرد إنسانًا آليًا يعمل ما تفرضه عليه الأعرافُ والمعتقدات.

وما يجري الآن في بلادنا ومجتمعاتنا في القرن الحادي والعشرين، قد فاق هذا وذاك. فما يحصل اليوم به وفيه وله، هو عودة إلى قمة الجاهلية، لا بل إلى ذروة البداءة وعصر الحجر، لأنَّ الإنسان فيه صار يتصرّف كإنسان الكهف المتوحش، وأضحى يسيطر على حقوق الآخر (هذا إذا بقيت هناك حقوق)، إما بالسلاح والطائرات والمدافع، أو بالتهديد والوعيد، أو بالاحتلال والإذلال، أو بالتحقير والتهجير. ترى، ماذا حصل لمجتمع الإنسان الذي يدّعي بالتحضُّر؟ ليس لي أن أقول إلا أن جدران سجنه الكبير هذا قد أصبح مطليًا باللون الأسود القاتم والداكن. أجل، وغاص في وحلِ وَبؤَر إبليس وأحابيله وأفعاله الدنيَّة الذي كان قتّالًا وكذّابًا من البدء؟

لقد تغيَّر العصرُ والزمان، لكن كل هذا لم يقدر أن يغيّر من قلب الإنسان الذي قال عنه النبي إرميا في القديم: "القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس من يعرفه؟" (9:17). فاللون الوردي الزاهي ربما يعيد تأهيل الإنسان بشكل نسبي ليُضحي مقبولًا في المجتمع ويسير ضمن قوانينه وشرائعه. ولكن من يقدر أن يغيِّر هذا القلب الحجري القاسي الذي طغت عليه الأنانية والحقد والكراهية والبغضاء! ومن يستطيع أن يمنحه خلاصًا أكيدًا وتغييرًا جذريًا؟

يخبرنا البشير لوقا عن لقاء هام سجله بالروح القدس حصل بين يسوع المسيح يوم كان على أرضنا هذه، وبين رجل سارق ومكروه من الناس. إذ بينما كان يسوع مجتازًا في أريحا في فلسطين إذا رجل اسمه زكا وهو رئيس للعشارين وكان غنيًا، وطلب أن يرى يسوع من هو، ولم يقدر من الجمع، لأنه كان قصير القامة. فركض متقدّمًا وصعد إلى جمّيزة لكي يراه، لأنه كان مزمعًا أن يمرّ من هناك. فلما جاء يسوع إلى المكان، نظر إلى فوق فرآه، وقال له: يا زكا، أسرع وانزل، لأنه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك... فأسرع ونزل وقبله فرحًا. فلما رأى الجميع ذلك تذمّروا قائلين: إنه دخل ليبيت عند رجل خاطئ. فوقف زكا وقال للرب: ها أنا يا رب أعطي نصف أموالي للمساكين، وإن كنت قد وشيت بأحد أردُّ أربعة أضعاف. فقال له يسوع: اليوم حصل خلاص لهذا البيت... لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لوقا 1:19-10).

أجل، مكث يسوع في بيت زكا رئيس العشارين، حتى قيل عنه بأنه دخل ليبيت في بيت رجل خاطئ. فالعشار، أي جابي الضرائب لم يكن محبوبًا من الناس بالطبع، لأنه كان يأخذ الضرائب من الشعب ليعطيها للحكومة الرومانية آنذاك. وليست الضرائب فحسب، بل يضيف عليها أضعافًا لتصبح له وفي جيبه الخاص. لكن حين دخل يسوع إلى بيته تحوَّل قلبه الحجري القاسي، وشخصيته الجشعة، وضميره المائت، إلى كيانٍ آخر بالكلية. فالنور دخل البيت وسطع في أرجائه، وهكذا تبددت الظلمة إلى غير رجعة. وعندما علم حالته المزرية إزاء محبة المسيح ولطفه وحنانه وقداسته، اعترف وصرّح بأنه سيردُّ المسلوب لا بل سيزيد عليه الأضعاف أيضًا. عندها قال يسوع: "اليوم حصل خلاص لهذا البيت... لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك." حقًّا، لقد خلقه المسيح من جديد، ومنحه خلاصًا كاملًا من عقاب خطاياه، وغفرانًا تامًا عليها. إذن، هناك من يهتم ويحبُّ بغض النظر عن حالة الإنسان المزرية، ومهما كانت. وهناك من يقدر لا أن يعيد تأهيل هذا القلب النجيس، بل يعيد خلقَه من جديد. إنه يسوع المسيح وحده إله الفرص الثانية يا قارئي، لكن بشرط أن يعود إليه الإنسان نادمًا، وتائبًا عن شره وغيِّه وإثمه، ومعترفًا بحاجته الماسَّة إليه. هذا هو يسوعي! هذا هو مسيحي! هذا هو مخلصي الذي ترك عرشه في السماء لأجلي أنا ولأجل كل واحد منا! أتى لكي يخلِّص ما قد هلك ويعيد علاقة الإنسان بالله الآب المحب. هو وحده الذي دفع الثمن لهذا الخلاص الثمين، دمه الأحمر القاني الذي يبرِّر كل خاطئ أثيم أمام الله القدوس والعادل.

إذن ليس هو اللون الوردي الذي يمكن أن يحسّن إلى حين، أو الكتاب المقروء الذي يخفِّف من عقوبة مدة السجن لأيام قليلة، بل هو وحده الفريد، الذي "فيه لنا الفداء وبدمه غفران الخطايا".

فهل طلبت غفرانًا لخطاياك تائبًا نادمًا على ما فعلته في حياتك؟ هل تغسَّلت بدم يسوع الغالي والثمين، الدم الذي يشفع بالملايين، الدم الذي يشفي الجروح والأنين؟ ليتك تفعل قبل فوات الفرصة وانقضاء السنين!

المجموعة: أيلول (سبتمبر) September 2014