الأخت أدما حبيبيهناك فوق جبال الألب في فرنسا قرر مساعد الطيار أندرياس لوبيتز Andreas Lubitz الألماني الجنسية أن يدع طائرة خطوط الجو الأجنحة الألمانية German wings التابعة لشركة اللوفتهانزا الأم، أن تهوي عمدًا فتقضي عليه وعلى الركاب أجمعين. فالنفس المريضة استطاعت أن تتغلب على التفكير العقلاني، وتسيطر عليه في اتخاذ قرار الانتحار الشخصي و"النحر الجماعي" على الرغم من توسّل قائد الطائرة المستميت وضرباته المستمرة على الباب من خارج حجرة القيادة. وهكذا ارتطمت الطائرة بقمم الجبال الشاهقة، وتحطمت ولاقى الركاب المئة والخمسون حتفهم المروع، وانتشرت أشلاء الضحايا في كل مكان إلى جانب أجزاء الطائرة المنكوبة.

وتبيَّن فيما بعد من خلال التقارير الواردة والتحقيقات التي طالت بأنَّ مساعد الطيار أندرياس لوبيتز وهو في طريقه من برشلونة - إسبانيا إلى دوسيلدورف - ألمانيا، كان يعاني من اكتئاب حاد تمكَّن منه في تلك اللحظة بالذات التي اختلى فيها بنفسه، وجعله يستجيب لنداء اليأس والاستسلام وتحقيق النهاية والموت المحتَّم. إنَّ ما حصل للرحلة 9525 كان بمثابة أكبر كارثة تحصل في تاريخ الخطوط الجوية الألمانية مثلما جاءت الأخبار من ألمانيا. ولشدَّ ما هو مفزعٌ ومرعب ومرهب ما يمكن لإنسان واحد أن يجلبَه من مآسٍ وآلام وأحزان ليس على نفسه فحسب بل على كثيرين أيضًا. وعندما تُسنحُ الفرص لهؤلاء الناس الذين يعيشون معاناةً حقيقيةً تسيطر على النفس والعقل، وعلى قراراتهم الرهيبة، فلا بدَّ عندئذٍ أن يشاطر الناسُ الأصحّاء نتائج تلك القرارات الوخيمة، وهكذا يصبحون كبش ضحية.
ومع أن التقارير الواردة مؤخرًا في شأن الاكتئاب تفيد بأن الاكتئاب يصيب النساء أكثر من الرجال، لكنَّ احتمال التداعيات التي تنتج عن اكتئاب الرجال تبدو أكثر تأثيرًا وأوسع وأشمل دائرة من تلك التي للنساء. فمثلًا، سمعنا مسبقًا الكثير ولا زلنا نسمع عن شبابٍ فقدوا أشغالهم، فاكتأبوا حتى اليأس، وقاموا بأعمالٍ انتقاميةٍ رهيبة، أدَّت إلى موت العديدين في الشركات التي كانوا يعملون بها. وراح بالطبع أناس كثيرون أبرياء ضحية للانتقام الهمَجي والعشوائي الذي كان سببُه الغضب والمرارة المتأصّلَيْن في نفس هؤلاء المرضى. ويقولون في اللغة الإنكليزية عن هؤلاء الأشخاص الذين يقومون بهذه التصرفات الهجومية ويعزونَ أعمالهم إلى أنَّ عقولهم قد زاغت أو they snapped. لكن سواء هذا هو السبب أم غيره من جراء اليأس والفشل وألم النفس وربما الفكر، فإنَّ النتائج وخيمة وكارثية كمثَل الطائرة الألمانية إذا لم تُعالَج.
وهاكَ يا قارئي تقريرًا ورد مؤخرًا في الصحيفة العربية عن هذا الموضوع عينه إذ يقول: "الاكتئاب يصيب النساء أكثر من الرجال. فلقد ذكرت دراسة بريطانية أنَّ الاضطرابات النفسية هي أكثر شيوعًا بنسبة 20-40٪ لدى النساء من الرجال. وذلك من جرَّاء التوتر الذي يتعرَّضن له بسبب تولِّيهن مهامًا عديدة. وقال البروفسور دانيال فريمان، وهو عالمٌ نفسي من جامعة أكسفورد، في دراسة نُشرت بعنوان: "الجنس المتوتّر، الكشف عن الحقيقة حول الرجال والنساء والصحة النفسية "إنَّ التحقيق الأول المنهجي لاستطلاعات صحية نفسية وطنية، أظهرت أن الاضطرابات النفسية هي أكثر شيوعًا بنسبة 20-40٪ لدى النساء من الرجال. وأوضح فريمان أنَّ التوتر الناجم عن الضغط على النساء لأداء أدوارٍ عديدة هو عامل أساسي لارتفاع معدلات الاكتئاب والرّهاب لديهن، وأشار أيضًا إلى أن النساء يصبن بمعدلات أكثر ارتفاعًا من التوتر من جرّاء المتطلبات المرافقة لأدوارهن الاجتماعية. ويُتوقع من المرأة أن تكون الراعية ومربية المنزل والعاملة. كما يُطلب منها في الوقت عينه أن يكون جسمها رشيقًا ومظهرُها مثاليًا... فمن أجل كل هذه التوقعات من الطبيعي أن يكون لهذه العوامل أثرٌ نفسي عليهن. وقال أيضًا إن هذه العوامل تشكل عناصر ضغط قد تجعل النساء يشعرن بأنَّهن أخفقن وبأنَّهن لا يملكن مكونات النجاح الضرورية وبأنَّه تمَّ التخلي عنهن. وهذا النوع من المشاعر قد يؤدي إلى مشاكل نفسية مثل القلق والاكتئاب."
حتى ولو اختلفت النسبة أو تضاعفت لدى المرأة عنها لدى الرجل بحسب هذه الدراسة، فالمهم من الموضوع هو أن الإنسان بطبيعته معرَّض إلى اكتئاب النفس. ويخطئ البعض في مجتمعاتنا العربية خاصة حين لا يأخذون مرض النفس على محمَلٍ من الجد. ولا أزال أذكر كيف أنني التقيتُ يومًا رجلًا في ريعان الشباب في لقاءٍ عام، وكانت تبدو عليه كلُّ علائم المرض النفسي المزمن. أما والداه فكانا في حالِ نكران لحالته، ونكرانٍ لكل الانفعالات والمشاعر والمعاناة التي بدا أنَّه يقاسي منها. كما وتحضرني الآن قصة إحدى المستمعات العربيات لإذاعة حول العالم في مونتي كارلو، إذ كتبت لي عن معاناتها الحقيقية وآلامها الدفينة. وأخبرتني كيف أنَّ زوجها ردّها إلى دار والديها وأخذ منها أولادها، لأنها كانت تعاني من الاكتئاب. أما ما فعلَه الأهل بها، فهو أبشع ممَّا فعله الزوج، إذ خافوا من الفضيحة، فحبسوها في غرفةٍ خلفية في المنزل وكانوا يجلبون لها الطعام ويعيدون إقفال الباب عليها حتى لا تظهر أمام الأهل والجيران. فلقد خافوا من تعيير الناس لهم، لهذا المرض الذي لم يكونوا يفهمون معناه ولا يدركون كنهَهُ.
أجل، ويعاني البعض بصمت، كيلا يُعيَّروا أو يعابوا. لكن، ألم يمرّ الناس من قبل في مثل هذه الظروف والمعاناة يا ترى؟ بالطبع. أولم يدوِّن لنا الوحي المقدس عن بعض رجال الله ممَّن اجتازوا في حياتهم بحالات من اليأس والفشل والقلق والخوف والاكتئاب الحاد؟ نعم، وتحدُث هذه الحالات حتى لرجال الله الأتقياء، وأنبيائه الحاملين كلمته إلى الناس. فالكتاب المقدس يحكي قصة "الإنسان" محور خليقة الله، بكل مناحي حياته الحلوة والمرة، لكي نتعلم نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور من كل مثلٍ ورد فيه، ومن كل شخصية ذُكرت، فتكون لنا عبرةً، أو مثالًا، أو درسًا نتبعه فنقوَّم به ونتَّعظ منه. أليس كذلك؟
خذوا مثلاً النبي إيليا في القديم الذي تحدَّى شعب الله آنئذ، على جبل الكرمل في فلسطين، بأن يتبعوا الإله الحقيقي ويتركوا عبادة البعل، وأظهر الله قوته بأنْ سقطت نار من السماء وأكلت المحرقة التي أعدَّها. فسقط جميع الشعب على وجوههم واعترفوا بأنَّ الرب هو الله. فأمر إيليا عندئذٍ بأن يُقضى على كل أنبياء البعل. على إثر ذلك، أرسلت إيزابل الملكة زوجة أخآب الملك رسولًا إلى إيليا تهدِّد وتتوعَّد: هكذا تفعل الآلهة وهكذا تزيد إن لم أجعل نفسك كنفس واحد منهم في نحو هذا الوقت غدًا. عندها خاف إيليا وقام وهرب لأجل نفسه وأتى إلى بئر سبع. وسار في البرية مسيرة يوم، واكتأب وصار حزينًا جدًا حتى إنه طلب الموت لنفسه بقوله: قد كفى الآن يا رب. خذ نفسي لأنني لست خيرًا من آبائي. (1 ملوك 19)
ثم ماذا عن النبي إرميا المعروف بالنبي الباكي حزنًا وألمًا على شعبه؟ "ألم يدوِّن مراثيه التي اعتبرها النقاد من أبدع وأروع ما كُتب في العالم من رثاء؟ وموضوع الرثاء هو غزو أورشليم وخرابها والآلام المروعة التي نتجت عن ذلك حتى إنه تمنَّى أن يكون رأسه ماء فقال: "يا ليت رأسي ماء وعيني ينبوع دموع فأبكي نهارًا وليلاً قتلى بنت شعبي..."
أما بنو قورح فنقرأ عنهم تعابيرهم الصادرة من الوجدان عن توقهم إلى الخلاص من انحناء النفس واكتئاب الروح فيهتفون قائلين: "لماذا أنتِ منحنية يا نفسي ولماذا تئنّين فيّ؟" (مزمور 42)
لكن، هل هناك من رجاء وأمل بعد كل هذه المشاعر الحزينة والكئيبة يا ترى؟ والتي وصلت بالبعض إلى كره الحياة وتمنِّي الموت؟ نعم يا قارئي، ومهما وصلت الحال بالإنسان فإنَّ مصدر الأمل ومبعث الرجاء هو الله وحده خالق الإنسان الذي يعرف دواخلنا، ومكنوناتنا، لهذا عاد وقال إرميا في مراثيه هذه الآيات التي صارت كلمات إحدى أعظم الترانيم المعروفة: Great is Thy Faithfulness وبالعربية وفاؤك عظيم: "أردد هذا في قلبي، من أجل ذلك أرجو: إنه من إحسانات الرب أننا لم نفن، لأن مراحمه لا تزول. هي جديدة في كل صباح. كثيرة أمانتك. نصيبي هو الرب، قالت نفسي، من أجل ذلك أرجوه." (مراثي إرميا 21:3-24) وبنفس المنحى كتب بنو قورح يقولون: "ترجَّي الله، لأني بعد أحمده، خلاص وجهي وإلهي." فهو مصدر ومبعث الرجاء الحقيقي الذي لا يشفي النفس الحزينة فقط بل يمنح أملًا بحياة جديدة.
أما الرسول بولس في العهد الجديد، وبالرغم من كلِّ ما مرَّ به من ضيقات واضطهادات وآلام سمعناه مرة يقول: "... أننا تثقَّلنا جدًّا فوق الطاقة، حتى أيسنا من الحياة أيضًا." (2كورنثوس 8:1 ب) يعود ويصرّح: "ولكن لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية، ليكون فضل القوة لله لا منا. مكتئبين في كل شيء، لكن غير متضايقين. متحيرين لكن غير يائسين، مضطهدين لكن غير متروكين، مطروحين لكن غير هالكين." (2كورنثوس 7:4-9)
أما إذا ما استسلم الواحد منا إلى اليأس والفشل والاكتئاب فإنَّ حالته حينئذ تصبح مزمنة، ويحتاج إلى علاج طبي أكيد. وطبعًا هذا لا يعني أن الله لا يشفي إن أراد، لأنَّ الرب يسوع هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد، وهو لا يزال يتعامل مع الإنسان بكل جوانب حياته النفسية والروحية والجسدية، وله الكلمة الأخيرة. لكن حريٌّ بنا أن ندرك نحن مخاطر استمرار هذه الانفعالات التي تَكتنِفُنا وتجرُّنا إلى وادٍ سحيق لا قرارَ فيه. فنعيش سوداويين، ونؤثر على غيرنا بسلبيتنا، وعلى تفكيرنا الذي يصبح ضحيةً لمشاعرنا الكئيبة وحِسِّنا المتوتر، رجالًا كنا أم نساء، شيوخًا أم شبابًا، لا فرق. فهل نبوح ونقرُّ ونعترف بحاجتنا القصوى إلى الله خالقنا الذي بيده وحده مقاصير أمورنا!

المجموعة: حزيران (يونيو) 2015