الأخ منير فرج اللهمشهد نادر لم يتكرر على مدى التاريخ! يسوع المسيح ابن الله الحي يحزن ويكتئب! تعالوا نقترب منه ونتأمل المشهد.
في طريقه إلى الصلب دخل بستان جثسيماني. كان الصمت يسود المكان. صمت ثقيل تجمّد فيه كل شيء. كأن نبض القلوب قد توقّف وتنفّس الصدور قد انحبس. لا صوت، وقد نامت الطيور في أعشاشها، واختفت الزواحف في جحورها. لا همس ولا حركة من فروع الشجر وأوراقها. صمت كأن الحياة توقفت، والموت يلف كل شيء بردائه ويحتويه، وظلام!

ظلام أسود أبطل كل قدرة للعيون على الإبصار. أنوار السماء انطفأت. لمعان النجوم اختفى وراء سحابٍ طبقاته سوداء متراكمة. العيون لا ترى، والآذان لا تسمع.
دلف يسوع للداخل وتلاميذه ملتصقون به. قال لهم:
اجلسوا ههنا حتى أمضي وأصلي هناك.
رغم أنهم لم يفهموا ما يقصد بـ "هنا" و "هناك"، توقفوا وتراجعوا وتركوه وحده. مدّ يده ولمس بطرس ويعقوب ويوحنا فتبعوه صامتين. مضى بهم خطوات في الظلام ثم توقّف وابتدأ يحزن ويكتئب، وقال:
نفسي حزينة جدًّا حتى الموت. امكثوا هنا واسهروا معي.
وقفوا وسط الظلام والصمت وقلوبهم وأرجلهم وعيونهم ثقيلة، ثم جلسوا على الأرض ورقدوا ينتظرون.
تقدّم يسوع قليلاً وخرّ على وجهه وقلبه ممزّق بالحزن والاكتئاب وصلّى: يا أبتاه. إن أمكن أن تعبر عنّي هذه الكأس.
كانت عيناه مفتوحتين على اتساعهما تحملقان في الظلام الدامس. كانتا تركزان على الكأس المزمع أن يشربها. لا أحد كان يعرف ما بتلك الكأس إلا هو والآب. جاء إلى الأرض، وعاش، وجال يعلّم، ويشفي المرضى، ويطهّر البرص، ويحرّر المأسورين، ويقيم الموتى، وهو في طريقه لتنفيذ مهمته لشرب تلك الكأس حتى آخر قطرة بها.
كان يعلم جيدًا مرارتها وصعوبتها، وأنه حسب التدبير الإلهي ليس هناك من يقدر ويستحق أن يشربها غيره هو. من يستطيع أن يحمل على كتفيه كل خطايا البشر من آدم إلى آخر ابن له يدبّ على الأرض في نهاية الزمن؟ من يقدر أن يضع على رأسه خطية عصيان آدم وحواء، وجريمة قايين، وكل شرور الإنسان حتى عصر نوح؟ من يتحمّل خطايا سدوم وعمورة وجميع الأجيال التي تلََتْهم؟ كل جيل كان يستحدث شرورًا أعظم من الجيل الذي سبقه! واستفحلت جرائم الطغاة والمستبدّين على مدى التاريخ في كل عصر من عصوره. وكذلك القتلة والسفاحون الذين استحلوا سفك الدماء إشباعًا لبطشهم ووحشيتهم. والزناة والزواني، وأعمالهم الحيوانية النجسة، وتدنيس خليقة الله الطاهرة. وجرائم الفساد التي استشرت في كل مكان وفي كل زمان في طول الأرض وعرضها. ثم خطايانا نحن الذين نحيد عن الخير ونصنع الشر ونكون عثرة للكثيرين.
من غيره يستطيع أن يتحمّل كل هذا الحمل ويشرب ما بتلك الكأس؟ لذلك قال مخاطبًا الآب:
يا أبا الآب، كل شيء مستطاع لك، فأجز عني هذه الكأس.
لكنه في وسط صلاته، وقد صار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض، تذكّر مهمته العظيمة وهدفه وهدف الآب فاستدرك قائلاً:
ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك.
ثم عاد إلى تلاميذه فوجدهم نيامًا، فقال لبطرس:
يا سمعان، أنت نائم؟! أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟ وقال للآخرين:
اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة.
وعاد يصلي، وزاد من حزنه واكتئابه أنه أحسّ أن الوقت قد اقترب الذي فيه سوف ينفصل الآب عنه ويتركه... وحده سيواجه الصلب والموت. ما أقسى هذا الانفصال وأصعبه! هو في الآب والآب فيه منذ الأزل، ولم يتركه أبدًا. العبور في وادي الموت لم يكن يخيفه، لكن ترك الآب له هنا كأس مرّ! مرّ جدًّا جدًّا. وعاد إليهم ووجدهم أيضًا نيامًا فتركهم ومضى ثالثة ليصلي ويحزن ويكتئب.
رجع إلى تلاميذه ثم قال: ناموا الآن واستريحوا. يكفي. قد أتت الساعة. هوذا ابن الإنسان يسلّم إلى أيدي الخطاة.
بدأوا يفيقون من النوم ويفركون عيونهم ليتنبّهوا.
قال يسوع: قوموا ننطلق. هوذا الذي يسلّمني قد اقترب.
ودخل المشهد ذاك الذي أسلمه وجمع غفير بسيوف وعصي ومشاعل ومصابيح. وكانت العلامة أن الذي يقبّله هو هو، امسكوه.
تقدّم يسوع وقال:
السلام يا سيدي!
وقبّله... قال يسوع:
أبقبلة تسلّم ابن الإنسان؟
والتفت إلى الجمع وقال:
كأنه على لصّ خرجتم بسيوف وعصي. كنت معكم كل يوم في الهيكل ولم تمسكوني.
من تطلبون؟
يسوع الناصري.
إني أنا هو.
صدمتهم الكلمة "أنا هو" ودفعتهم إلى الخلف فرجعوا وسقطوا على الأرض.
من تطلبون؟
يسوع الناصري.
إني أنا هو. دعوا هؤلاء يذهبون.
واستلّ سمعان بطرس سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه، لكن يسوع لمس أذنه وأبرأها وقال له:
ردّ سيفك إلى مكانه، لأن كل الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون. الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟
وشربها بكل الرضى والقبول لأنه كان ينفّذ إرادة الآب. وبذلك تمم خطة الآب لفداء الإنسان وأعاد العلاقة بين الله والإنسان وبنى بصليبه وقيامته الطريق الوحيد للحياة الأبدية.
"من له الابن فله الحياة، ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة."

المجموعة: حزيران (يونيو) 2015