أسئلةٌ مقلقةٌ في المسيحيّةِ: دينونةٌ قاسيةٌ؟ حنانيا وسفيرة
يُصدم كلٌّ من المؤمنين بالمسيحِ، وغيرُ المؤمنينَ أيضًا، لدى قراءتِهم عن الدينونةِ القاسيةِ غيرِ المفهومةِ التي أوقعَها اللهُ في الفصلِ الخامسِ من سفرِ أعمالِ الرسل. فكيف يمكنُ لإلهِ المحبّةِ في العهدِ الجديدِ بالذاتِ أن يميتَ شخصينِ تبرّعا بكمية كبيرة من المالٍ لكنيستِه الفقيرةِ في أورشليمَ؟ (1كورنثوس 16) وهذا هو ما حدثَ فعلًا. فأين المنطقُ في ذلك؟

قصّةٌ لم تُفهمْ

"وَرَجُلٌ اسْمُهُ حَنَانِيَّا، وَامْرَأَتُهُ سَفِّيرَةُ، بَاعَ مُلْكًا وَاخْتَلَسَ مِنَ الثَّمَنِ، وَامْرَأَتُهُ لَهَا خَبَرُ ذلِكَ، وَأَتَى بِجُزْءٍ وَوَضَعَهُ عِنْدَ أَرْجُلِ الرُّسُلِ. فَقَالَ بُطْرُسُ: «يَا حَنَانِيَّا، لِمَاذَا مَلأَ الشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ وَتَخْتَلِسَ مِنْ ثَمَنِ الْحَقْلِ؟ أَلَيْسَ وَهُوَ بَاق كَانَ يَبْقَى لَكَ؟ وَلَمَّا بِيعَ، أَلَمْ يَكُنْ فِي سُلْطَانِكَ؟ فَمَا بَالُكَ وَضَعْتَ فِي قَلْبِكَ هذَا الأَمْرَ؟ أَنْتَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى النَّاسِ بَلْ عَلَى اللهِ». فَلَمَّا سَمِعَ حَنَانِيَّا هذَا الْكَلاَمَ وَقَعَ وَمَاتَ. وَصَارَ خَوْفٌ عَظِيمٌ عَلَى جَمِيعِ الَّذِينَ سَمِعُوا بِذلِكَ. فَنَهَضَ الأَحْدَاثُ وَلَفُّوهُ وَحَمَلُوهُ خَارِجًا وَدَفَنُوهُ. ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ مُدَّةِ نَحْوِ ثَلاَثِ سَاعَاتٍ، أَنَّ امْرَأَتَهُ دَخَلَتْ، وَلَيْسَ لَهَا خَبَرُ مَا جَرَى. فأَجَابَهَا بُطْرُسُ: «قُولِي لِي: أَبِهذَا الْمِقْدَارِ بِعْتُمَا الْحَقْلَ؟» فَقَالَتْ: «نَعَمْ، بِهذَا الْمِقْدَارِ». فَقَالَ لَهَا بُطْرُسُ: «مَا بَالُكُمَا اتَّفَقْتُمَا عَلَى تَجْرِبَةِ رُوحِ الرَّبِّ؟ هُوَذَا أَرْجُلُ الَّذِينَ دَفَنُوا رَجُلَكِ عَلَى الْبَابِ، وَسَيَحْمِلُونَكِ خَارِجًا». فَوَقَعَتْ فِي الْحَالِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَمَاتَتْ. فَدَخَلَ الشَّبَابُ وَوَجَدُوهَا مَيْتَةً، فَحَمَلُوهَا خَارِجًا وَدَفَنُوهَا بِجَانِبِ رَجُلِهَا. فَصَارَ خَوْفٌ عَظِيمٌ عَلَى جَمِيعِ الْكَنِيسَةِ وَعَلَى جَمِيعِ الَّذِينَ سَمِعُوا بِذلِكَ."
تبدو القصّةُ في ظاهرِها أن حنانيا وزوجتَهُ سفيرةً قرّرا أن يبيعا أرضًا لهما ويتبرّعا بجزءٍ كبيرٍ من ثمنِها مُدَّعِيَيْنِ بأنّ هذا المبلغَ المدفوعَ للكنيسةِ ثمنُ الأرضِ كلُّهُ. ويشرحُ لنا اللاهوتيّون المفسِّرون أنّ هذا الكذبَ في هذه المسألةِ هو الذي جعلهما مستحقّين للموتِ والافتضاحِ أمامَ جماعةِ المؤمنين. ونحنُ نرى تثبيتًا لهذه التهمةِ وربْطًا مباشرًا بالدينونةِ التي نزلتْ عليهما. ويشرحُ هؤلاء بحقٍّ أن اللهَ هو القدّوسُ والنورٌ والحقُّ، وهو لا يحتملُ الكذبَ أو أيَّ شرٍّ، وأن تلك خطيّةٌ فظيعةٌ (وهذا أمرٌ لا شكَّ فيهِ.)

استدراكٌ

لكنْ، إذا تمعّنّا في ذلك الموقفِ، بهذا الفهمِ المطروحِ، نجدُ من ناحيةٍ إنسانيّةٍ أنّ ما حدثَ للزوجينِ غيرُ منطقيٍّ، وأنّ ردَّ فعلِ بطرسَ الذي كشفَ الخطيَّةَ وأعلنَ دينونةَ الموتِ بسببِها مبالَغٌ فيهِ جدًّا وغيرُ مبرَّرٍ. ومن الملاحظِ هنا أن هذه الكذبةَ ليست خبيثةً ولن تضرَّ بكثير أو قليل.

مزايا هذين الزوجين

فهذانِ الزوجانِ، حسبَ ظاهرِ الأمورِ، مؤمنان بالمسيحِ في لحظاتٍ عصيبةٍ من التاريخِ المسيحيِّ الذي كان متّسمًا بالاضطهادِ والمعاناةِ وحتى الاستشهادِ. ولهذا يمكنُ لنا أن نتصوّرَهما شجاعينِ في الانضمامِ إلى كنيسة المسيحِ المضطهَدِ في أورشليمَ. وفضلًا عن ذلك، أرادا طوعًا أن يدعما الكنيسةَ بمبلغٍ كبيرٍ حصلا عليه من خلالِ بيع قطعةِ أرضٍ لهما. ولا شكَّ أنّ تلك كانت تضحيةً كبيرةً منهما وكرمًا قلَّ مثيلُهُ. وهو أمرٌ مدعاةٌ إلى الإعجابِ. وأمّا ادّعاؤهما بأن المبلغَ المتبرَّعَ به يشكّلُ ثمنَ الأرضِ المباعةِ كلِّها فليسَ الجريمةَ التي ينبغي للوحيِ أن يتوقّفَ عندَها في ذلك السياقِ، أو التي تستوجبُ دينونةَ الموتِ. إذْ أرادا أن يوهما الآخرين بعِظَمِ كرمِهما.

المقارنة مع المؤمنين الآخرين

وفي التحليلِ النهائيِّ، قام حنانيا وسفيرةٌ بعملٍ صالحٍ يمكنُ للهِ أن يزنَهُ ويقيّمَهُ ويحكمَ عليه في وقتِه. فلماذا يُرعبُ أعضاءَ الكنيسةِ والذين من خارجٍ الآنَ؟ فهل الأمرُ يستحقُّ هذا حقًّا؟ قد نتصوّرُ من دونِ مبالغةٍ أنّ مؤمنين آخرين في الكنيسةِ ارتكبوا خطايا أفظعَ من تلك ولم يتعرّضوا لمثلِ هذا العقابِ. فإنْ كان اللهُ متحمّسًا للاقتصاصِ من المؤمنين الذين يرتكبون خطايا فظيعةً بشكلٍ فوريٍّ لتلقينِ الناسِ دروسًا، فلماذا لم يفعلْ ذلك مع بطرسَ الذي شهد بولسُ نفسُهُ عليهِ عندما أظهرَ جُبنًا ورياءً للمؤمنين بالمسيحِ من خلفيّةٍ يهوديّةٍ؟ يخبرُنا الرسولُ بولسُ بتفاصيلِ تلك الخطيّةِ.
"وَلكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً، لأَنَّهُ كَانَ مَلُومًا. لأَنَّهُ قَبْلَمَا أَتَى قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الأُمَمِ، وَلكِنْ لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ، خَائِفًا مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْخِتَانِ. وَرَاءَى مَعَهُ بَاقِي الْيَهُودِ أَيْضًا، حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضًا انْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ! لكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لاَ يَسْلُكُونَ بِاسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ الإِنْجِيلِ، قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ: «إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيًّا لاَ يَهُودِيًّا، فَلِمَاذَا تُلْزِمُ الأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا؟»" (غلاطية 11:2-13)
لقد خافَ بطرسُ الناسَ بدلًا من أن يخافَ اللهَ. وبدأ يتجنّبُ المؤمنين بالمسيح من غير اليهودِ خوفًا من اليهودِ. وقد خالفَ كلامَهُ الذي نطقَ بهِ أمامَ محكمة السنهدريم: "ينبغي أن يطاعَ اللهُ أكثرَ من الناسِ." (أعمال 29:5)
ألم تكنْ تلك الخطيّةُ تستحقُّ دينونةً مماثلةً؟ فهل كان اللهُ يكيلُ بمكيالين لاعتباراتٍ مختلفةٍ؟ حاشا!
لا بدَّ أنّ هنالكَ سرًّا في الأمرِ خفِيَ عن قرّاءِ تلك القصّةِ. فما هي حقيقةُ جريمةِ حنانيا وسفيرةٍ التي استوجبتْ تلك الدينونةَ القاسيةَ الفوريّةَ؟ صحيحٌ أنّ كلمةَ اللهِ تحدّدُ أنهما كذبا على اللهِ (الروحِ القدسِ) في مسألةِ ثمنِ الأرضِ، لكن ماذا كانت طبيعةُ تلك الكذبةِ ودوافعُها؟

خلفيّةٌ ضروريّةٌ

لا بدَّ لنا أنْ نرجعَ إلى نصٍّ سابقٍ في أعمالِ الرسلِ يحملُ مفتاحَ سرِّ ما حدثَ. كانتِ الكنيسةُ منهمكةً في الأمورِ الروحيّةِ التي كانت تبنيها كمؤسسةٍ وأفرادٍ، مثلِ تعليمِ الرسلِ، والشركةِ، وكسرِ الخبزِ، والصلواتِ. (أعمال 42:2–44) وقد صهرتْهم محبّةُ المسيحِ في وحدةٍ كاملةٍ معًا، فبانَ ازدهارُهم الروحيُّ. تقول كلمةُ اللهِ: "وَجَمِيعُ الَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا مَعًا، وَكَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكًا. وَالأَمْلاَكُ وَالْمُقْتَنَيَاتُ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ الْجَمِيعِ، كَمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ احْتِيَاجٌ."
كانت تلك شيوعيّةً إلهيّةً طوعيّةَ مبنيّةً على المحبّةِ والتضحيةِ ضِمْنَ الكنيسةِ. لم تقمْ على الطمعِ أو الجشعِ أو الاستغلالِ. لم تكن هنالك ملكيّةٌ فرديّةٌ. "وَكَانَ لِجُمْهُورِ الَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِ لَهُ، بَلْ كَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكًا." (أعمال 32:4) بل كان الجميعُ يملكونَ مقتنياتِ الجميعِ. إذْ كان الواحدُ فيهم يبيعُ أملاكَهُ كلَّها لتوضعَ في أمْرةِ الجماعةِ، حيثُ يستخدمُ كلُّ واحدٍ كلَّ ما هو موجودٌ لهم حسبَ احتياجِهِ. وبعدَ أن يبيعَ الفردُ أملاكَهُ، لا يكونُ لديهِ ما ينفقُ على نفسِهِ لاحتياجاتِه. فتلك ستكونُ مسؤوليّةَ الكنيسةِ ككلٍّ.

وضْعُ حنانيا وسفيرة

وهذا هو حالُ حنانيا وسفيرةٍ. فبعدَ أن باعا قطعةَ الأرضِ التي لهما، قدّما جزءًا من ثمنِ الأرضِ للكنيسةِ ولسانُ حالِهما هو: "ها نحن بعنا أملاكَنا كلَّها وقدّمنا أموالَنا كلَّها لكم. وليس لدينا الآنَ أيُّ شيءٍ لننفقَ به على نفسينا أو على الجماعةِ. وتقعُ المسؤوليّةُ على الكنيسةِ في أن تصرفَ على احتياجاتِنا!" ويعني هذا عمليًّا ما يلي: لم يجيئا للتبرّعِ للكنيسة مدفوعين بالمحبّةِ. بل جاءا ليخدعا الكنيسةَ ويسلباها؛ ولهذا استخدم الرسولُ بطرس تعبيرَ "اختلسَ من الثمنِ" (2:5) ويعيشا على مقدّراتِها من دونِ أن يتعبا نفسيهما في العملِ. ففي عملهما هذا اختلسا مالَ الكنيسةِ وأرادا استغلالَ بساطةَ المؤمنين بنيّاتِهما الخبيثةِ. فهذان جاءا ليأخذا لا ليعطيا. ولولا ذلك لَما حاسَبهُ بطرسُ على الثمنِ الحقيقيِّ للأرضِ. وغنيُّ عن القولِ إن هذا التصرفَ خلا من أيّةِ محبّةٍ. وفضلًا عن ذلك، أبقيا باقي ثمنِ الأرضِ على سبيلِ الاحتياطِ. فربما تفشلُ الكنيسةُ في مشروعِها الجماعيِّ هذا، وعندئذٍ سيكونُ لديهما موردٌ لتغطيةِ احتياجاتِهما في المستقبل. ويعكسُ هذا عدمَ إيمانٍ باللهِ.
وهكذا كذبا على الكنيسةِ وعلى اللهِ وروحِهِ القدوسِ. كانت هذه محاولةً شيطانيّةً لتسميمِ الجوِّ الروحيِّ المزدهرِ في الكنيسةِ والقضاءِ على وحدتِها. كانت هجومًا على المؤسّسةِ الوليدةِ في مهدِها. فكانَ على اللهِ أن يحمي كنيستَهُ ليعرفَ الجميعُ أنه صعبٌ على أيِّ أحدٍ "أن يرفسَ مناخسَ." (أعمال 5:9) لم تكن الكنيسةُ مسلّحةً بسيوفٍ، بل بربّ الجنودِ نفسِهِ الذي اقتناها بدمِهِ. (أعمال 28:20) فكان هذا تحذيرًا موجّهًا لكلِّ من يريدُ استغلالَ كنيسة الربِّ. فهي ليست متروكةً وحدَها.
ولأنّ الكنيسةَ هي التي كانت المستهدفةَ، تركَ اللهُ مجالًا لبطرسَ، ممثّلِ الكنيسةِ، أن يلعبَ دورًا في هذه المسألةِ. فكشفَ كذبَهما الذي تجاوزَ إلى حدٍّ كبيرٍ مجرّدَ تقديمِ معلوماتٍ مغلوطةٍ، ومحاولةَ سرقةِ مواردِ الكنيسةِ، ونفّذَ اللهُ دينونتَهُ بوساطتِه.

المجموعة: آب (أغسطس) 2015