الدكتور أنيس بهنامذكرنا في العدد السابق تحت عنوان "المسيح أُظهر مرة" أن المسيح جاء،
أولاً، ليمجد الله. لذلك قرب نهاية خدمته على هذه الأرض قال للآب: "أنا مجدتك على الأرض." (يوحنا 4:17)
ثانيًا، جاء "ليبطل الخطية بذبيحة نفسه" (عبرانيين 26:9)، كما جاء في 1تيموثاوس 15:1 "صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُول: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا."

ثالثًا: أنه بمجيئه ترك لنا مثالاً لكي نتبع خطواته (انظر 1بطرس 21:2 ومتى 29:11). لذلك سنبدأ الآن تأملاتنا في حياة المسيح الذي ترك لنا هذا المثال لكي نتعلم دروسًا نافعة لنا في حياتنا اليومية. وسنتكلم بعون الله عن:
صفاته، أي كماله الخلقي، وتعاليمه، ومعجزاته

كماله وجماله الخلقي

المسيح هو الوحيد الذي عاش هنا حياة الكمال من كل وجه. فهو القدوس الذي لم يفعل خطيئة واحدة، سواء بالفكر أو بالقول أو بالعمل. قال عنه الكتاب المقدس أنه لم يعرف خطية (2كورنثوس 21:5)، وأنه لم يفعل خطية (1بطرس 22:2)، وأنه ليس فيه خطية (1يوحنا 5:3). لا عجب أن الله فتح السماوات مرتين وقال عنه بصوت من السماء: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (متى 17:3؛ 5:17). حاول رؤساء الذين يراقبونه أن يجدوا علة واحدة يشتكون بها عليه فأخفقوا. قال لهم مرة: "من منكم يبكتني على خطيئة؟" فلم يجرؤ أحد على اتهامه أو أن يجد فيه عيبًا. وحين اشتكوا ضده لبيلاطس الحاكم الروماني، قال بيلاطس أنه فحص الأمر فلم يجد فيه علة واحدة، وبعد صلبه شهد القائد الروماني قائلاً: "بالحقيقة كان هذا الإنسان بارًا." (لوقا 47:23)
وشهد له الأنبياء قبل مجيئه فتغنّوا بجماله الخلقي وكماله المطلق. فقال عنه كاتب مزمور 45: "أنت أبرع جمالاً من بني البشر (والمقصود هو الجمال الخلقي لا جمال الوجه). انسكبت النعمة على شفتيك." فكلامه كله كان كلام النعمة، لأنه جاء مملوءًا نعمة وحقًّا (يوحنا 14:1). وقال عنه إشعياء النبي أنه: "لم يعمل ظلمًا، ولم يكن في فمه غش." (إشعياء 9:53) إن من يقرأ تاريخ الأنبياء كما هو مسجل في كتاب الله المقدس (الذي هو كلام الله الموحى به، الذي لم يصبه، ولا يمكن أن يصيبه تحريف أو تبديل) يرى أن جميع الأنبياء يشهدون عن أنفسهم بأنهم قد أخطأوا. فقال داود النبي: "لأَنِّي عَارِفٌ بِمَعَاصِيَّ، وَخَطِيَّتِي أَمَامِي دَائِمًا. إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ، وَالشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ." (مزمور 3:51-4) ويقول الكتاب المقدس أن تعدد الزوجات حوّل قلب سليمان عن محبته لله. وإشعياء النبي قال: "وَقَدْ صِرْنَا كُلُّنَا كَنَجِسٍ، وَكَثَوْبِ عِدَّةٍ كُلُّ أَعْمَالِ بِرِّنَا، وَقَدْ ذَبُلْنَا كَوَرَقَةٍ، وَآثَامُنَا كَرِيحٍ تَحْمِلُنَا." (إشعياء 6:64) فمع أنهم كانوا أفضل من الكثيرين الآخرين، إلا أنهم لم يكونوا كاملين. أما المسيح فكان كاملاً من كل وجه. كان كاملاً في محبته ونعمته وتضحيته من أجل الآخرين. كان عطوفًا وشفوقًا، يواسي الحزانى ويجبر القلوب المنكسرة. "الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْرًا وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ، لأَنَّ اللهَ كَانَ مَعَهُ." (أعمال 38:10) لم يحمل سيفًا ولا رمحًا، وعندما لم يقبلوه في إحدى المدن قال له اثنان من تلاميذه: "يَا رَبُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضًا؟ فَالْتَفَتَ وَانْتَهَرَهُمَا (أي وبّخهما) وَقَالَ: لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ." (لوقا 54:9-56) قارن هذا أيها القارئ العزيز مع كثيرين من القادة السياسيين والدينيين الذين ضحّوا بنفوس أتباعهم وأعدائهم لكي يصلوا إلى ما كانوا يطمعون في الوصول إليه. فلم تكن للمسيح فتوحات أو غزوات، إلا فتح البصيرة وإنارتها. وفتح القلوب ليطهّرها ويمحو منها الذنوب والآثام. أتى ذات مرة رجال الدين المراؤون إليه ومعهم امرأة أُمسكت وهي تزني. وأقاموها في الوسط، ثم قالوا له: "يا معلم، هذه المرأة أُمسكت وهي تزني في ذات الفعل، وموسى في الناموس (أي الشريعة) أوصانا أن مثل هذه تُرجم، فماذا تقول أنت؟" قالوا هذا ليجرّبوه، لأنهم علموا أنه لن يقول ارجموها. وبذلك يمكنهم أن يقولوا إنه يعلّم ضد الشريعة. ولكن المسيح قال لهم: "من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر." فهو لم يعتبر خطيتها أمرًا تافهًا، بل أقرّ أنها تستحق الرجم بالحجارة، ولكن من منهم لم يكسر الشريعة؟ من منهم كان أهلاً للحكم عليها؟ فابتدأت ضمائرهم تبكتهم وخرجوا كلهم من أمامه وبقيت المرأة وحدها، فماذا فعل المسيح؟ هل رجمها؟ لا، لأنه لو رجمها لذهبت إلى الجحيم. وهو لم يأتِ ليهلك أنفس الناس بل ليخلصها. لذلك أعطاها فرصة للتوبة وقدرة على حياة البر إذ قال لها: اذهبي ولا تخطئي (انظر يوحنا 1:8-11). وهذ هو ما يعمله المسيح نحو الإنسان الخاطئ الذي يأتي إليه: يغفر له خطاياه ويمنحه قوة ليحيا حياة البر. ألا ترى معي أيها القارئ العزيز أن المسيح يسمو في صفاته فوق جميع رجال الدين ومؤسسي الديانات. فهو جاء ليمنح الإنسان حياة جديدة وقدرة على حياة البر.
ومع أن المسيح كان يصنع معجزات جليلة إلا أنه كان يتصف بالوداعة والتواضع حتى أنه قال مرة للمستمعين حوله: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيليّ الأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم." (متى 28:11-29) لم يسكن في قصر ولم يملك عبيدًا ولا خدمًا، بل قال لأتباعه أنه قد أتى بينهم ليخدم (لوقا 27:22)، وأنه جاء "لا ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين." (مرقس 45:10)ومع أن المسيح لم يلتحق بالمعاهد العليا أو الجامعات إلا أنه كان يتّصف بحكمة ومعرفة تفوق الوصف. حدث ذات مرة وهو في الثانية عشر من عمره أنه التقى بمعلمي الدين وكان يسمعهم ويسألهم فاندهش الذين سمعوه من فهمه وأجوبته (انظر لوقا 39:2-50). وذات مرة أيضًا أرسل رجال الدين جنودًا ليقبضوا عليه – لأنه كان يوبخهم على ريائهم – ولكن الجنود، إذ سمعوا كلامه رجعوا إلى رجال الدين وقالوا لهم أنهم لم يسمعوا أحدًا يتكلم بمثل كلامه، فقد كان يتصف بالحكمة وبالتأثير على الضمائر والقلوب. وقد تنبأ عن ذلك إشعياء النبي قبل مجيء المسيح بمئات السنين، فقال: "ويحلّ عليه روح الرب روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب." (إشعياء 2:11) وكان كلامه يوبّخ رياء الكثيرين وخصوصًا رجال الدين "كانوا يغتاظون منه ويحاورونه كثيرًا. ولكن أجوبته كانت مقنعة وتتصف بالحكمة والمحبة معًا. فآمن بعضهم، وأما الآخرون فازدادوا كراهية له.
إن من أراد أن يعرف الأكثر عن صفات هذا الشخص الفريد عليه أن يقرأ ما جاء في الكتاب المقدس، ولا سيما الأناجيل الأربعة، لأن كلاًّ منها يتناول ناحية معينة من حياته. فقد تكلمنا هنا باختصار عن قداسته، وعن محبته، ونعمته، وتضحيته، وعن وداعته، وتواضعه، وعن حكمته، ومعرفته. ولكن المجال لا يسمح بأن نتكلم عن كل صفاته وكماله وجماله الخلقي. ولذلك نشجعك على قراءة كلام الله الموحى به، أي الكتاب المقدس. وفي المرة القادمة سنتكلم بإذن الله عن تعاليمه وعن معجزاته.

المجموعة: آب (أغسطس) 2015