AdmaHabibiلقد اخترقتَ القلبَ والوجدان، وجذبتَ العقلَ والفكرَ والكَيان، وأحييتَ النفسَ والجَنان، وأنعشتَ الإحساس وملأتَ الروحَ بالأمان والاطمئنان، فهدأَ فيَّ الإنسانْ، إذ وجدْتُ عندك وحدَك الرجاءَ بالحياة والضمان. نعم، لقد سحرتَ اللبَّ والألباب، فيا ليتَ شِعْري هل من غالٍ ونفيسٍ أوفّرُه لنفسي من بعدِك!

كلاَّ بالحق، فكلُّ ثمين يَرْخصُ في سبيلك وكلُّ كنزٍ يزهَدُ من أجلك، وكلُّ عطرٍ لابدَّ أن يُباح فيفوحَ شذاهُ العبِق، حين يُسكبُ على جسدك أنت، لأنكَ أنت أصبحتَ الحياة كلَّ الحياة!
هناك في قريتي المتواضعة "بيت عنيا" التي تقع على بعد ميلين فقط من أورشليم وإلى الجهة الشرقية منها، كنت أقطن مع إخوتي مرثا الكبيرة ولعازر أخي الأصغر. وأحببنا الناس والجيران والخلاَّن، وكنا نتقن فن الضيافة وهكذا فتحنا بيتنا للذاهب والآيب، واستقبلنا الكثيرين من البعيدين والقريبين. وانشغلت أختي مرثا كثيرًا فهي المختصة بالابتكار والتنظيم لإراحة الضيوف وإكرامهم. وفي بيت عنيا الصغيرة هذه، تناهت إلى مسامعنا أخبارُه، وأعاجيبه، حتى بُهِرْنا نحن الثلاثة من الأقوال التي قيلت فيه. ورحنا نتحيَّنُ الفرص لكي نراه عن كثَب ونستمع إليه، ونمعن النظر في شخصه المميَّز. وتمت رغبتُنا هذه وقابلناه شخصيًا وتعارفنا واستضفناه. وتوطدت عُرى الصداقة بيننا حتى إنه صار كلما زار قريتنا يجيء إلينا. وفي ذات يوم، استقبلناه بعد عناء السفر، وبدأت أختي مرثا بتحضير الطعام وتجهيز كل ما يحتاجه من غذاء. أما أنا فجلست هناك عند قدميه، أستمع إلى حديثه الذي اخترق قلبي ولبِّي، وكل كياني. فلم أرِدْ أن أخسر أي شيء من حديثه الجذاب ومن الحكمة المميزة التي كان ينطق بها. لكن مرثا لم يَرُقْ لها ما بدَر مني، واعتبرتْني أنني غير مبالية بتعبها، فأتت إلى السيد بشكواها عساها تجد عنده العدلَ في الأمر. وحين سمعها، فوجئتْ بكلامه الذي وجدته أنا مليئًا بالنعمة والفطنة، حين وجَّه نظرها حينذاك إلى الأولويات في الحياة، فقال: "الحاجة هي إلى واحد، ومريم اختارت النصيب الصالح الذي لن ينزع منها." (لوقا 42:10) كانت هذه الزيارة هي أول معرفة حقيقية لي بالسيد المعلم. وتبعتْها زيارات أخر كثيرة بالطبع؛ وفي كل مرة كنت أُدهش بشخصه وبتعليمه أكثر من المرات السابقة. وتعلَّقت بكلامه وأحسست في أعماقي، ويفرّحني ويعزيني ويعلّمني مغزى الحياة وهدفها الأسمى.
ولكن حدث يومًا أن مرض أخونا الوحيد والحبيب لعازر، وارتعنا للأمر لأنه بدا خطيرًا. فأرسلنا كلتانا وراء السيد المعلم ليأتي إلينا ويعيننا. لكنَّه تأخَّر في المجيء ليومين أخريين. عندها حدث ما لم يكن في الحسبان إذ مات لعازر الشاب، وأضحينا أنا وأختي مرثا، من دون أنيس أو رفيق، يملأ علينا بيتنا ويحمل مسؤوليتنا. وبكينا جدًا وقلنا لبعضنا البعض: لو كان المعلم هنا لما مات أخونا. وبينما نحن في تلك الحال من الحزن والألم والبيت يعجُّ بالزائرين المعزّين من كل حدب وصوب، إذا بنا نسمع أن المعلم يسوع المسيح قادم إلى القرية. فأسرعت أختي مرثا للقائه. لكنَّها سرعان ما عادت إلى البيت لتقول لي: المعلم قد حضر وهو يدعوكِ. فتركتُ كل شيء في الدار، وأسرعت إليه ورميت بنفسي عند رجليه وقلت له والدموع تنساب على وجهي: يا سيد لو كنت هنا لم يمت أخي. ورحت أبكي بحرقة قلب على أخي الوحيد غير عابئة بمن حولي ولا بالناس الذين لحقوا بي. حزن المعلم لحزني، ورثا لأساي، وسأل: أين دفنتموه. ولما رأى المكان، بكى المعلم، وذرف الدموع على أخي وصديقه لعازر الذي كان بالحق يحبه. عندها تناهت إلى مسمعي كلمات فاه بها اليهود قائلين بعضهم لبعض: انظروا كم كان يحبه. وقالوا أيضًا: ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يرد الموت عن لعازر؟ فانزعج المعلم بالروح وأمر أن يُرفع الحجر عن باب القبر للحال. لكنَّ مرثا اعترضت قائلة بأنَّ جسده قد أنتن لأنَّ له أربعة أيام. فجاءت كلمات المعلم لتصب ماء باردًا على جرح القلب وتخمد ناره إذ قال: ألم أقل لكِ إن آمنت ترين مجد الله؟ ولما فعلوا، صلى يسوع رافعًا عينيه نحو السماء وشكر الآب على استماعه لصلاته، وطلب منه أن يجري المعجزة من أجل الجمع الواقف أمامه ليؤمنوا بأنه هو المرسل من قِبَله. ولما قال هذا صرخ المعلم بصوت عظيم وقال: لعازر هلم خارجًا. وهنا بالذات حصلت المعجزة، ودبَّت الحياة في الجسد الميت، وقام لعازر من القبر، ملبِّيًا أمر المعلم. حتى إنه بدأ يمشي وهو مربوط الرجلين واليدين، لكن السيد له المجد أوعز إليهم بأن يحلُّوه من ربطه ويدعوه يذهب. وهذا ما حصل بالضبط. إنها معجزة المعجزات فعلًا. وعبَّرتُ أنا عن فرحي الغامر بمزيد من الدموع. وقلت بنفسي: سمعت عنه مسبقًا يأتي المعجزات أمَّا الآن فرأيت ذلك بأم عيني. نعم أنت هو المرسل من الله حقًا. (يوحنا 11)
ثم قبل أن يصير الفصح بأيام فقط، أقمنا له في بيت عنيا عشاء كبيرًا ضمَّ أناسًا كثيرين. وكالعادة قامت أختي مرثا بخدمة الضيوف وعلى رأسهم السيد والمعلم يسوع المسيح. وكان لعازر أخونا المحبوب أحد المتكئين معه. أما أنا فأحسست بدافع داخلي يشدُّني إلى تنفيذ ما فكرت به مسبقًا. وقمت لتوّي وأحضرت نارديني الخالص من مخبئه، العطر الذي كنت أحتفظ به مع جهازي ليوم عرسي، وقلت بداخلي: ها قد حانت الساعة الآن. وبلمح البصر أخذتُ المنّا من الناردين ورحت أدهن قدميّ المعلم به. وحللْت شعري وجدائلي، وصرتُ أمسح قدميه المعطرة بالناردين الذي فاح بكل أرجاء البيت. ولم يكن لسان حالي سوى الشكر والتقدير والإجلال والتمجيد لمعلمي رب الحياة ومعطيها. وقلت آن الأوان لكي أظهر له محبتي وولائي وأمانتي وعبادتي بالحق والفعل. وبينما أنا أسجد هناك عابدة، اعترض البعض على هذا الإسراف وقال يهوذا الإسخريوطي وهو واحد من التلاميذ الاثني عشر، الذي تظاهر بالاهتمام بالفقراء والمساكين آنذاك: لماذا لم يُبعْ هذا الطيب بثلاثمئة دينار ويُعطَ للفقراء. لكنَّ المعلم أظهر ليهوذا وكذا للجميع بأنَّ ما قمتُ به أنا كان شيئًا ذات معنىً عميق جدًا. أجل لقد قمت بذلك العمل رمزًا لتكفينه بعد الموت. فهمت أنه لسوف يتألم ويُضرب ويقتل لأنهم رفضوه. وأحسست في داخلي بأنه ينبغي أن أدهنه بالأطياب تعبيرًا عن محبتي وثقتي ومعرفتي به كالمسيا المرسل من عند الله الآب. كلاَّ لن يبقى عطري وطيبي الثمين، في خزانتي بعد اليوم. بل أردت أن أسكبه عليه لأنه وحده يليق به كل تقدير ومجد وتكريم لأنه المعلم والمسيا والمحيي. (يوحنا 12 ومرقس 14 ومتى 26)
لم يكن هدف يهوذا الاهتمام بالمساكين والفقراء بالطبع، بل كان جلّ هدفه أن يأخذ المال لنفسه هو، المؤتمَن على الخزانة. أما يسوع المعلم والعارف القلوب كلها، فقد بيَّن للجميع بأنَّ عبادتي له صدرت من القلب، وعملي هذا سيُذكر على مرّ العصور والأجيال ما دام الإنجيلُ يكرز به وينتشر. ومدحني نعم، مدحني أنا مريم الناشئة في بيت عنيا القرية المتواضعة الصغيرة، مدحني وأكرمني بهذه الذكرى الأبدية. فطيبي وعطري الثمين يرخُصُ في سبيل تكفين مَن أحبنَّي بالحق، ومَن علَّمني بالحق، ومَن سيُقتل من أجلي قريبًا. أفلا يليق بي إذن أن أقدّم له أغلى ما عندي!! وأدركت ساعتئذ أن الغالي والنفيس هو هدية مني للمعلم الذي سبى قلبي وكياني، إذ كان الحدَثُ الرهيب قد أوشكَ على الوقوع. وفاح ناردين الشرق، ليظلَّ ذكرى خالدة عبر الأجيال. أجل، هذه هي نوع ضيافتي للمعلم، ليسوعي الذي أتى إلى بلدتي، وجلستُ في مجلسه، واستمعت إلى كلماته وأنصتُّ إلى تعاليمه الفريدة والمميزة، ورأيت معجزاته. فعرفت حق قدره وسمو محبته وعظْمَ قدرته. فشكرًا لأنك غدوت أنتَ الحياة، كلَّ الحياة. وصار لسان حالي:
ها آتي بطيبي فوق رأسك
هبني الآن أعرف حقَّ قدرك
عوضًا عن شوكي في إكليلك
واتكئن رأسي على صدرك
إذ كسرت قلبك من أجلي أنا
ها قارورة الطيب أكسرها هنا
عند قدميك وأدهنهما
حيث راحتي، لا ولا عنا
التوقيع: مريم العابدة
بيت عنيا - فلسطين

المجموعة: نيسان (إبريل) 2015