الدكتور أنيس بهنامتكلمنا في المرات الماضية عن ظهور المسيح على هذه الأرض، إذ جاء في ملء الزمان "مولودًا من امرأة." وذكرنا أنه جاء ليمجد الله، ولكي "يبطل الخطية بذبيحة نفسه." ولكي يترك لنا مثالاً لنتبع خطواته. في هذه المرة سنتكلم بعون الله عن ظهوره الآن "أمام وجه الله لأجلنا." (عبرانيين 24:9) وسنحصر الكلام في ثلاثة مواضيع:

كهنوت المسيح، شفاعة المسيح، ووساطة المسيح.

أولاً: المسيح هو رئيس كهنتنا

إذ صعد المسيح إلى السماء "لم يَدْخُلْ إِلَى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ الْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى السَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ الآنَ أَمَامَ وَجْهِ اللهِ لأَجْلِنَا." (عبرانيين 24:9) كان رئيس الكهنة في العهد القديم يدخل إلى قدس الأقداس (الذي كان رمزًا لمحضر الله) مرة واحدة في السنة، ويدخل بدم ذبيحة حيوانية، وهذا كله كان رموزًا، كما هو واضح من القول "مصنوعة بيد أشباه الحقيقية"، فلم تكن هي الأقداس الحقيقية. وأما المسيح كرئيس الكهنة الحقيقي، وليس الرمز، فقد دخل إلى محضر الله الذي "أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماوات فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يُسمّى ليس في هذا الدهر فقط، بل في المستقبل أيضًا وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْسًا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ." (أفسس 20:1-23)
دخل المسيح إلى الأقداس، "دخل كسابق لنا." (عبرانيين 20:6) يا لها من كلمات تملأ القلب بالفرح والسلام والسجود. هو يمثلنا أمام الآب. هناك في قدس الأقداس الحقيقي في سماء السماوات، الإنسان يسوع المسيح الذي فيه سُرّ أن يحلّ كل ملء اللاهوت جسديًا. وهو مضى ليعدّ لنا مكانًا حتى حيث يكون هو سنكون نحن أيضًا. وبدخوله إلى الأقداس كسابق لنا، صار لنا حق الدخول بالإيمان إلى محضر الله. "فَإِذْ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ اجْتَازَ السَّمَاوَاتِ، يَسُوعُ ابْنُ اللهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بِالإِقْرَارِ. لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ. فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْنًا فِي حِينِهِ." كان رئيس الكهنة يدخل إلى قدس الأقداس حاملاً أسماء أسباط بني إسرائيل على كتفيه وعلى قلبه (انظر خروج 6:28-12 و29-30) وهذا رمز لما يعمله ربنا يسوع المسيح رئيس كهنتنا العظيم.
يخبرنا الكتاب المقدس أن المسيح جاء إلى العالم لا لفائدة الملائكة بل لفائدة وبركة الجنس البشري. "مِنْ ثَمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ (أي يتعرّض لما يتعرّض له الإنسان من تعب وجوع وعطش وآلام وإهانة)، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيمًا، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِينًا فِي مَا ِللهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا الشَّعْبِ. لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّبًا يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ." (عبرانيين 17:4-18)

ثانيًا: المسيح هو شفيعنا عند الآب

"يَا أَوْلاَدِي، أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ لاَ تُخْطِئُوا. وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ الآبِ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ." (1يوحنا 1:2)
من المهم جدًا أن نفهم معنى هذه الآية فهمًا صحيحًا. إن هدف المؤمن الحقيقي هو أن يحيا حياة البر والتقوى، والشركة المتواصلة مع الرب. وبهذا يتحاشى الوقوع في الخطيئة. ولكنه معرّض لأن يخطئ. "لأَنَّهُ لاَ إِنْسَانٌ صِدِّيقٌ فِي الأَرْضِ يَعْمَلُ صَلاَحًا وَلاَ يُخْطِئُ." (جامعة 20:7) وأيضًا "إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ الْحَقُّ فِينَا." (1يوحنا 8:1) فماذا يحصل للمؤمن إذا أخطأ؟ هل ييأس؟ هل يفشل؟ لا. لأنه "لنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار." ولتوضيح هذه الحقيقة المهمة لنفترض أن ابنًا حصل على رخصة قيادة السيارة فيوصيه أبوه قائلاً: كن حريصًا جدًا ومتنبهًا وأنت تقود السيارة. ويجب أن نطيع كل قوانين المرور. لا تتسرع ولا تجازف. بذلك يمكنك أن تتحاشى الحوادث. ولكن بالتأكيد ليس هناك إنسان معصوم من الحوادث. ولذلك عندنا تأمين إذا حدث ما لم نكن نتوقعه. فمهما كان الإنسان حريصًا فهو معرض للحوادث. هل من المعقول أن الابن الحكيم يستهتر في قيادة السيارة لأن عنده تأمين؟ طبعًا لا، وإلاّ فهو لا يحق له أن يقود سيارة. كذلك من الناحية الروحية يجب أن يكون هدف المؤمن ألّا يخطئ، ومما يساعده على حياة البر والتقوى هو المواظبة على الصلاة وقراءة الكتاب المقدس وإطاعة التعاليم الإلهية. شفاعة المسيح ليست لكي نحيا بدون تدقيق، بل هي لكي نعلم أن الله أحبنا وخلّصنا ودعانا دعوة مقدسة (2تيموثاوس 9:1)، دعوة عليا (فيلبي 3:14)، دعوة سماوية (عبرانيين 1:3)، يعرف جبلتنا، يذكر أننا تراب نحن (مزمور 14:103). يجب أن تكون حياتنا لمجد أبينا ولمجد فادينا الذي أحبنا وأسلم نفسه لأجلنا.
هناك في أعلى السما عرش عظيم قد علا
عرش جليل مجده فوق النجوم قد سما
هناك ربي جالس شافع في كل حين
واعد بأن يجيء لاختطاف المؤمنين

ثالثًا: المسيح هو الوسيط الوحيد

"لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ." (1تيموثاوس 5:2) إذ يطلب الرسول بولس من المؤمنين أن يصلوا من أجل الملوك وجميع الذين هم في منصب. يقول إن الله يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون. لكن كيف يمكن للإنسان مهما كان خاطئًا، وحتى إن كان يضطهد المؤمنين، أن ينال الخلاص؟ الجواب هو أنه يوجد وسيط واحد. فكما أنه هناك إله واحد هناك أيضًا وسيط واحد، وهو الإنسان يسوع المسيح، أي المسيح الذي جاء في الجسد وبذل نفسه لأجل الجميع. كان رؤساء الكهنة في العهد القديم يعملون كوسطاء، ولكن خدماتهم كانت جزئية ومؤقتة وتتعلق بالأرضيات ولا تنال لأحد خلاصًا أبدًيا. أما عن المسيح فيقول أنه "قَدْ حَصَلَ عَلَى خِدْمَةٍ أَفْضَلَ بِمِقْدَارِ مَا هُوَ وَسِيطٌ أَيْضًا لِعَهْدٍ أَعْظَمَ، قَدْ تَثَبَّتَ عَلَى مَوَاعِيدَ أَفْضَلَ." (عبرانيين 6:8) وفي عبرانيين 24:12 نقرأ هذه الكلمات الواضحة: "وسيط العهد الجديد." ولنلاحظ أيضًا أن الوحي المقدس يربط وساطة المسيح بموته كالسبيل الوحيد لخلاص الإنسان. في 1تيموثاوس 5:2-6 "وسيط واحد يسوع المسيح الذي بذل نفسه لأجل الجميع." وفي عبرانيين 15:9 "وسيط عهد جديد إذ صار موت لفداء التعديات." وفي عبرانيين 24:12 "وإلى وسيط العهد الجديد، يسوع، وإلى دم رشّ يتكلم أفضل من هابيل." فدم هابيل صرخ من الأرض طالبًا الانتقام. أما المسيح فدخل إلى الأقداس "بدم نفسه"، فوجد فداء أبديًا." (عبرانيين 12:9)
تنبأ إشعياء عن هذا إذ قال: "بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها." (إشعياء 11:53)
حين سأل سجان فيلبي الرسول بولس وزميله سيلا قائلاً: "ماذا أفعل لكي أخلص؟" كان الجواب هو: "آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص." المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله والناس. "له يشهد جميع الأنبياء أن كل من يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا." (أعمال 43:10)
الخلاصة: المؤمنون في العهد الجديد هم الكهنة والمسيح هو رئيس الكهنة.
المسيح هو شفيعنا عند الآب. المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله والناس. له المجد إلى أبد الآبدين. آمين.

المجموعة: كانون الأول (ديسمبر) 2015