JosephAbdoأقوالٌ لا حروف لها يسمعها الله ويحكم عليها أيضًا
كثيرة هي أنواع السلوك الإنساني الذي تقيّمه كلمة الله وتحكم عليه سلبًا أم إيجابًا، وتندرج هذه الأنواع في ثلاث حُزم رئيسية هي:
1. حزمة الأعمال، صالحها ورديئها
2. حزمة الأقوال، نقيّها وفاسدها
3. حزمة الأفكار، خيّرها وشرّيرها


والأقوال في كتب الوحي لا تقل أهمية عن الأفعال، حسب قول السيد المسيح، له المجد، مخاطبًا الفريسيين: "يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي! كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا بِالصَّالِحَاتِ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ؟ فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْب يَتَكَلَّمُ الْفَمُ. اَلإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنَ الْكَنْزِ الصَّالِحِ فِي الْقَلْب يُخْرِجُ الصَّالِحَاتِ، وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنَ الْكَنْزِ الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشُّرُورَ. وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَابًا يَوْمَ الدِّينِ. لأَنَّكَ بِكَلاَمِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلاَمِكَ تُدَانُ" (متى 34:12-37).
إن معظم الأقوال التي يتحدث عنها الكتاب المقدس، فيمدحها أو يدينها تتألف من عبارات مسموعة أو مقروءة تتشكل من أحرف في أبجدية اللغة... ولكنه يتطرق أيضًا إلى كلمات بدون أصوات ولا أشكال حروف: إنها كلمات القلوب، ويا لها من كلمات!
يقول الرسول بولس: "وَأَمَّا الْبِرُّ الَّذِي بِالإِيمَانِ فَيَقُولُ هكَذَا: «لاَ تَقُلْ فِي قَلْبِكَ: مَنْ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ؟» أَيْ لِيُحْدِرَ الْمَسِيحَ، «أَوْ: مَنْ يَهْبِطُ إِلَى الْهَاوِيَةِ؟» أَيْ لِيُصْعِدَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ لكِنْ مَاذَا يَقُولُ؟ «اَلْكَلِمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْكَ، فِي فَمِكَ وَفِي قَلْبِكَ» أَيْ كَلِمَةُ الإِيمَانِ الَّتِي نَكْرِزُ بِهَا" (رومية 6:10-8). فتلك الكلمات التي نوهّت عنها الآيات السابقة هي من أهم الأقوال لأنها تعبّر عن إيمان المرء أو عدم إيمانه بخطة الله السرمدية وعمله الفدائي الذي أنجزه الرب يسوع المسيح بموته على الصليب، وقيامته من بين الأموات من أجل خلاص البشرية.
ومع هذا فالكتاب يشير أيضًا إلى أقوال أخرى لا حروف لها بقوله: "اَلرَّجُلُ اللَّئِيمُ، الرَّجُلُ الأَثِيمُ يَسْعَى بِاعْوِجَاجِ الْفَمِ. يَغْمِزُ بِعَيْنَيْهِ. يَقُولُ بِرِجْلِهِ. يُشِيرُ بِأَصَابِعِهِ. فِي قَلْبِهِ أَكَاذِيبُ. يَخْتَرِعُ الشَّرَّ فِي كُلِّ حِينٍ. يَزْرَعُ خُصُومَاتٍ" (أمثال 12:6-14).
أما توقيت هذه الأقوال فلا يقتصر على النهار وأوقات اليقظة بل يتعداها إلى الليل وأوقات السبات، كما يقول أيوب: "ثُمَّ إِلَيَّ تَسَلَّلَتْ كَلِمَةٌ، فَقَبِلَتْ أُذُنِي مِنْهَا رِكْزًا (همسًا). فِي الْهَوَاجِسِ مِنْ رُؤَى اللَّيْلِ، عِنْدَ وُقُوعِ سَبَاتٍ عَلَى النَّاسِ" (أيوب 12:4-13). ويصلي داود قائلاً: "السهوات من يشعر بها، من الخطايا المستترة أبرئني" (مزمور 12:19).
إن كثيرين ممن عاشوا أو يعيشون الآن في هذا العالم، كانوا قد جاهروا أو يجاهرون بأنهم لا يؤمنون إلا بما تراه عيون رؤوسهم، أو تسمعه آذان مسامعهم، أو تلمسه أنامل أيديهم.
وإن آخرين يضمرون هذا الرفض ولا يعلنونه، أو على الأقل فإن ذلك هو ما يقولونه في قلوبهم وإن كانوا لا يصرّحون به بشفاههم... والأدهى من ذلك أن كثيرين أيضًا قد قرروا بكل إصرار وعناد إنكار حتى ما يسمعون أو يبصرون أو يلمسون إذ يرون نتائج عمل الإيمان في قلوب أصحابه بحيث يغيّر مسالك ومناهج وأفكار وأقوال هؤلاء المؤمنين فتصبح حياتهم التي كانت شريرة مجدبة مقفرة، حافلة بالحب والخير والسلام وسماحة القلب. لأنهم يقولون في قلوبهم ما يبيّن حقيقة نفوسهم. وأسباب ذلك هي:

1. ظلمة القلوب
فهي مغلقة مقفلة لا تدخلها أشعة نور الإيمان ولا معرفة الرب يسوع المسيح الذي هو نور العالم، ومع أنهم يدّعون نعمة البصيرة فهم في نظر الله عميان كما قال، له المجد: "لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هذَا الْعَالَمِ، حَتَّى يُبْصِرَ الَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الَّذِينَ يُبْصِرُونَ" (يوحنا 39:9).

2. العبودية لسلطة إبليس
حيث تقول الكلمة الإلهية:
"الَّذِينَ فِيهِمْ إِلهُ هذَا الدَّهْرِ (الشيطان) قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ" (2كورنثوس 4:4). فقد ملأهم عدو الخير بالجهل المطبق في الأمور الروحية بينما هم يعتبرون أنفسهم حكماء لأنهم برعوا في الطمع والخبث والغش والكذب والاستهزاء.

3. محبة العالم
والعالم هنا لا يعني الكون المادي، ولا الأشخاص الذين يحيون فيه، ولا حتى الحياة بحد ذاتها، بل يعني تلك المباهج الزاهية وشتى أنواع المتع الوقتية، التي تجتذب قلوب الكثيرين وتطغى على عقولهم وأذهانهم، فلا تترك لهم فرصة للبحث عن خلاص نفوسهم وأبديتهم الثمينة، إلى أن يكتشفوا زيفها وبطلانها، وربما بعد فوات الأوان. وتدخل محبة المال أيضًا تحت هذا البند لأن المال يزيد من بريق هذا العالم ومشتهياته، هذا إن لم يصبح معبودًا لذاته من دون الله. فهو يؤدي إلى الغرق في شرور عديدة كالقمار والمخدرات والفسق وغيرها.

4. فقدان الحسّ الروحي
يقول الرسول بولس:
"إِذْ هُمْ مُظْلِمُو الْفِكْرِ، وَمُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ اللهِ لِسَبَبِ الْجَهْلِ الَّذِي فِيهِمْ بِسَبَبِ غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ. اَلَّذِين - إِذْ هُمْ قَدْ فَقَدُوا الْحِسَّ - أَسْلَمُوا نُفُوسَهُمْ لِلدَّعَارَةِ لِيَعْمَلُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ فِي الطَّمَعِ" (أفسس 18:4-19). بينما نجد أمثال هؤلاء شديدي الإحساس في أمور الشرّ، فهم يراقبون كل كلمة، أو حركة، أن نظرة عابرة لعلها تسيء إلى كراماتهم المهزوزة، أو تمس كبرياءهم المريضة.

5. اكتساب مفاسد البيئة
حيث أن الكثيرين يتأثرون بما يرثونه من آبائهم وأمهاتهم، وما يتربّون عليه في مجتمعاتهم، فيرسفون تحت أغلال "عبودية الموروثات" دون امتلاك الجرأة للخروج من تحت سلطانها. رغم أن الله قد أعطى الإنسان منذ وجوده، كامل الحرية في أن يفكر أو يرغب أو يختار.
جلست مرة أفكر متسائلاً: لماذا خلق الله الإنسان ولم يجعله محصنًا ضد وساوس الشيطان ورغائب النفس، فيبقى معززًا كريمًا يحظى بقرب الله، دون السقوط في تلك الهوة التي كلفت الله إرسال الابن الإلهي "روحيًا" للموت من أجلهم؟ وبعد العودة إلى نص الكلمة الإلهية بإرشاد روح الله، أشرق على ذهني نورٌ إلهي فوصلت إلى الجواب وهو يندرج في النقاط التالية:
أ. تبين كلمة الله أنه خلق الإنسان على صورته ومثاله، وهذا التشابه ليس في الشكل الظاهري لأن الله يجلّ عن التشكّل ولكنه يفيد بأن الله قد خلق الإنسان على صورته الأدبية، ومن ضمن صفات تلك الصورة: الحرية الكاملة في الفكر والقول والسلوك.
ب. إن ذلك يظهر سمو محبة الله وكماله الأدبي، فهو لم يجعل الإنسان سلعة يستخدمها، ولا حيوانًا لا قرار له، بل متّعه بامتلاك صفاته الأدبية وأثمنها الحرية.
ج. إن هذا المسلك الإلهي ليملأ القلب بالبهجة، ويفعمه بالشكر والامتنان لذلك الخالق العظيم في سموّ صفاته وصنائعه البديعة.

6. الرضوخ لكبرياء القلب وعناده
وردت في ترنيمة السيدة العذراء بعد البشارة هذه العبارة:
"شتّت المستكبرين بفكر قلوبهم" (لوقا 51:1). فبالرغم من إنذارات الله الكثيرة لبني الإنسان سواء عن طريق كلمات الوحي أو بإحساس الضمير المزروع في دواخلهم، فإن كبرياء القلب تمنع صاحبها من الالتفات إلى الأمور الأبدية، واضعًا نفسه طوعًا تحت غضب الله وسخطه، بسبب رفضه لعروض المحبة الإلهية الباذلة.
وجميع تلك المعطلات والمعوّقات لا بدّ من أن تزول سريعًا عندما نضع نفوسنا بكل تواضع وإخلاص تحت سلطان العناية السرمدية حيث ينير روح الله القدوس أعماق قلوبنا، كيما ندرك مقاصده الصالحة من أجلنا نحن خليقته المفضَّلة، فيمنحنا رجاء الخلاص والحياة الأبدية، وبذلك تمتلئ حياتنا بالشكر والعرفان، فننطق بآيات الحمد والتسبيح مستخدمين حروف اللغة وألفاظها أو لغة القلب الشاكر الممتن في الليل كما في النهار، وفي اليقظة كما في السهاد، ذاكرين عظمة عمل وغنى النعمة الإلهية، وفداء الله العظيم الثمين.
فإن سكتت أفواهنا فإن قلوبنا تلهج بمجده وتسبيحه دائمًا، لأنه مستحق بسبب كثرة مراحمه الصادقة وإحساناته التي لا حدود لها... إنه موجود دائمًا لمعونتنا.
/

المجموعة: شباط (فبراير) 2015