الدكتور صموئيل عبد الشهيدمتى ابتدأ المسيح في حمل الصليب؟
وما هو المنظور الإلهي لفكرة الكفارة؟
وما هي الدواعي التي استأثرت باهتمام الله ليقوم بأعظم عملية إنقاذ في تاريخ الجنس البشري؟ بل أكثر من هذا: ما الذي دعا المسيح ليتحمّل مسؤولية فداء هذا المخلوق المتمرّد على وصايا الله ونواهيه؟

إنني في هذه الدراسة القصيرة لا أسعى لأقدّم بحثًا تاريخيًا عن صحة صلب المسيح وقيامته أو أن أعرض للوثائق التاريخية التي توافرت لنا في السجلات الرسمية في زمن الدولة الرومانية أو في مؤلفات مؤرخي اليونان واليهود، وما ورد عن الصلب في كتابات آباء الكنيسة الأولى أو بعض المصادر الإسلامية، إذ يمكن الرجوع إليها في مظانِّها ولا سيما ما ورد في الدراسة القيمة التي نشرها مؤلفها فارس القيرواني باللغتين العربية والإنكليزية تحت عنوان: هل صُلب المسيح حقًا؟ ولكنني أستهدف في هذا المقال أن أرجع القهقرى إلى بداية البدايات حتى قبل خلق الله للإنسان، وذلك على ثلاثة أسس نبّر عليها الكتاب المقدس، وهي أسس رئيسة تختصّ بجوهر الله وصفاته الأزلية، ومن ثم أستطرد في شرح هذا المنظور الإلهي الذي اشترك فيه الثالوث الأقدس في وحدانيته، أي في المشاركة العملية للآب والابن والروح القدس.

1. مبدأ العلم الإلهي الكلّي

والمبدأ الأول الذي أبغي أن أُشير إليه هو مبدأ العلم الإلهي الكلّي. فكما أن الله أزليّ فعلمه أزليّ أيضًا، أي أن الله، حتى من قبل أن يبدأ بعملية الخلق التي دوّنها لنا سفر التكوين، كان عالمًا بأن الإنسان الذي جبله من تراب الأرض سيرتكب خطيئة العصيان، ويتنكّر لنواهيه، وبذلك سيحقّ عليه عقاب الموت.
ولكن، قد يقول سائل: إن كان الله كلّي العلم وعارفًا بتمرّد الإنسان وعصيانه وأن أحداث الماضي والحاضر والمستقبل كلها مكشوفة لديه، فلماذا خلق الإنسان في الدرجة الأولى؟ بل ما الجدوى من وجوده الذي أفضى إلى كل ما أصاب البشرية من ويلات وأهوال، بل كلّف الله ثمنًا باهظًا هو سفك دم ابنه الحبيب على خشبة اللعنة كما دعاها الكتاب المقدس؟ ألم يكن الله في غنىً عن هذه المشكلات التي تركت آثارها على السماء والأرض على حدٍّ سواء؟
قد يتعذّر على المرء أن يدرك مرامي الخطة الإلهية بجميع تفاصيلها، غير أن الكتاب المقدس الموحى به بإرشاد روح الله القدوس يُلقي أضواءً كافية، وإن لم تكن كاملة على هذه الدراما الإلهية الإنسانية، بقدر ما تستطيع عقولنا، نحن المخلوقين، أن تستوعبها، أو تتبيّن بعض مقاصدها.
وهنا لا بدّ أن نطرح سؤالاً جوهريًا: هل كانت هناك ضرورة لخلق الإنسان على الرغم مما يسفر عنه وجوده من النتائج المرتّبة الوخيمة؟ والجواب على ذلك: نعم. لأن قبل خلق الإنسان كان الله الأزلي الكينونة خفيٌّ في طيّ الزمن، غير معروف، ومجهول الصفات، بل إن عالم الألوهة بكليته لم يكن له أي حضور ملموس في الوجود الإنساني، فالله في ثالوث وحدانيته كان مجهولاً ولا يستطيع أن يراه أحد. ويؤكد الكتاب المقدس على هذه الحقيقة، غير أن من طبيعة الله الخلق والإبداع، فأراد أن يعبّر عن ذاته إذ أن الله ليس كائنًا متحجرًا، بل هو الحياة ذاتها، والحياة لا بُدّ أن تكون فاعلة وخالقة. وفي عملية الخلق أعرب الله خالق السماوات والأرض عن صفاته الجوهرية وإن كلفه ذلك بذل ابنه لخلاص خليقته التي أصبحت مستعبدة للخطيئة.
أجل، إن الله كلّي المعرفة لأنه خارج محدودية الزمان والمكان، لهذا كان مطلعًا على أحداث المستقبل.

2. مبدأ الله محبة

ولكن العلم الكلّي هذا ليس هو الصفة الجوهرية الوحيدة التي كشف لنا الله فيها عن ذاته. فهو أيضًا محبة كما يؤكد لنا الكتاب المقدس، وهذا هو المبدأ الثاني. هو كلّي المحبة فضلاً عن الرحمة والرأفة. (والواقع إن صفات الله لا تُعدّ ولا تُحصى). ومن غير خلق الإنسان، على الرغم من نقائصه ومعائبه وآثامه، كيف كان في وسع هذا الإله الأوحد، أن يجسّد ذات جوهر محبته ليكون ظاهرًا فيها خارج عالم الورائيات أو دنيا الغيبيات؟ فكل ما يجري في عالم الورائيات هو مجهول قبل خلق الإنسان. ولكن، عندما شاءت الإرادة الإلهية أن تعبّر عن ذاتها وأن تكشف عن وجودها بصورة مرئية، وفي الوقت المعيّن، أعلنها في إبداعه السماوات والأرض وعلى رأسها تاج خليقته الإنسان. وهكذا أصبحت ظاهرة في المعاملات الروحية والتاريخية والاجتماعية في حياة البشر.
ولكن كان لعملية خلق الإنسان مضاعفات مأساوية من ناحية ومدهشة ورائعة من ناحية أخرى. وهي لم تكن غائبة قط عن المنظور الإلهي لارتباطها جوهريًا بالخطة الإلهية لخلاص الإنسان. ولكنها في حدّ ذاتها أماطت اللثام عن تلك الصفات الخفية التي كانت مطوية في سرّ الأزل. لم تكن محبة الله التي تفوق كل فهم خافية في عالم الملكوت الأزلي، فقد أحب الله ابنه الوحيد، كما عبّر عنه الكتاب المقدس في أكثر من موضع كقوله: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت،" و "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد..." فالله الذي هو محبة لم يحجب حبه لابنه في عالم الملكوت الإلهي بسجف غير قابلة للاختراق، بل كان ذلك الحب بخورًا ذكيًا متضوّعًا في أرجاء ذلك العالم الأزلي. فالمحبة الإلهية هذه لم تُخلق لأنها كبقية الصفات، بل جواهر الله، أزلية مثله بل سرمدية. لهذا، كانت خاضعة لحتميّة التعبير عن وجودها. وعندما جاء ملء الزمان، أي المسيح، ذاك الذي كان في حضن الآب، أعلن لنا بصورة صارخة تلك المحبة التي لم يكن في وسعنا أن ندركها أو نلمسها على الأقلّ، لو لم نخلق، أو لو لم يتجسّد المسيح. لهذا عندما قال المسيح لفيلبّس: "من رآني فقد رأى الآب،" فإنه كان يشير إلى الوحدانية الإلهية التي كانت كلية العلم والمحبّة.

3. مبدأ الطاعة وحرّية الاختيار

أما المبدأ الثالث فهو مبدأ الطاعة وحرّية الاختيار. فمن حيث أن المسيح في أزليته كلّي العلم وكلّي المحبة، فقد كان عارفًا في وحدانيته مع الآب والروح القدس أن عملية خلق الإنسان ستتولّد عنها مشكلة الخطيئة. فمنذ البدء خلق الله الإنسان على صورته؛ وفي مكان آخر ورد النص التالي: وقال الله: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا." (تكوين 26:1) ونستخلص من فحوى نواهي الله ووصاياه لآدم وحواء أن الله قد أعطى لهما حرية الاختيار بين الطاعة والعصيان، وأن لكل اختيار نتائجه ومسؤولياته. فهذا المبدأ في حرية الاختيار كان مرتبطًا بكل أعمال الله وتصرفاته وعلاقته مع الإنسان منذ عصور الخلق. لهذا، فإن المسيح، الابن الأزلي والأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، المطّلع على كل شيء، رأى "حادثة" سقوط الإنسان في خطيئة العصيان وما سينجم عنها من نكبات، من قبل أن تبدأ الإرادة الإلهية في عملية الخلق، وكان عالمًا أيضًا بالمسؤولية التي سيتحمّلها في خطة الخلاص المعدّة تطوّعًا واختيارًا ومحبّة، لتنفيذها حين يكتمل زمان إنجازها. ولدينا على ذلك أدلة كثيرة في الكتاب المقدس في الرموز الكفارية التي أوصى الرب الإله نبيّه موسى أن يفرضها على الشعب. ولكن المتأمل في الكتاب المقدس يعثر على العديد من هذه الرموز قبل إعلان الشريعة للشعب. فمثلاً، بعد ارتكاب آدم خطيئة العصيان أقدم الله على ذبح حيوان صنع من جلده إزارين لآدم وحواء، فكانت هذه أول ذبيحة كفارية، وبعد ذلك نقرأ عن تقدمة هابيل من خيرة حملانه ذبيحة للرب؛ ونجد في فلك نوح الذي أشار إليه العهد الجديد رمزًا لكفارة المسيح عن خطايا المؤمنين به. والصورة الأروع التي نقرأ عنها هي قصة إبراهيم وابنه إسحاق، وفيها نزولاً عند أمر الله، أزمع إبراهيم أن يقدّم ابنه ذبيحة لله، فافتداه الله بكبش عظيم. فهذه جميعها لم تكن سوى رموز تشير إلى الذبيحة الأبدية العظمى، ذبيحة الابن الحبيب الذي أطاع حتى الموت موت الصليب.
والواقع، إن التاريخ الإلهي المعروف والمجهول كان يدور حول الصليب، والمسيح لعلمه المسبق بما سيصيب الإنسان المخلوق من ويلات وأهوال، تحمّل طوعًا واختيارًا أن يكون الحمل الأبدي الذبيح، ليفتدي الإنسان الخاطئ من الدينونة الأبدية التي يستحقّها.
وخلاصة القول، وجوابًا عن متى ابتدأ المسيح في حمل الصليب؟ هو منذ الأزل، وما كان تجسده وصلبه سوى التحقيق الظاهري المادي لتلك الخطة الإلهية التي وجدت من قبل تأسيس العالم.

المجموعة: حزيران (يونيو) 2016