الأخ منير فرج اللهالسكون يغطي المكان، والهدوء يهيمن على كل شيء فيه. رغم أنه بالقرب من أورشليم، لكنه بعيد عن ضجيجها وصخبها وصراعاتها. بِركة صغيرة منعزلة، مياهها راكدة يرقد حولها مرضى كثيرون، عميٌ وعرجٌ وعسمٌ في انتظار أن تهتزّ المياه حين ينزل ملاك ويحرّكها فيشفى من ينزل فيها أولاً.

لا أحد يعرف متى، فهذا الملاك ليس له ميعاد ولا وقت للنزول. اليوم أم غدًا أم بعد الغد؟ نهارًا أو ليلاً؟ صباحًا أم ظهرًا أم مساء؟ لا أحد يعلم لذلك يحيط المرضى بالبركة وأطرافهم تكاد تلمس الماء حتى يسرعوا بالنزول فيها حين تبدو بادرة حركة بها. الكل صامت ساكت ينتظر وهم يكتمون الأنفاس ليسمعوا صوت الملاك حين يجيء. هدوء لا يشوبه إلا أنين خافت أو سعال مكتوم أو حركة جسد على فراش.
فجأة مزّق السكون صوت أقدام تسير على الرمل الخشن. خطوات متتابعة لقادم غريب إلى محيط البركة. لم يحوّل أحد رأسه ليرى من القادم فالكل يركِّز على البركة ومياهها. استمرّ صوت الأقدام فترة ثم توقّفت عند مريض راقد منذ ثمان وثلاثين سنة. كان مغمض العينين مرهف السمع ينتظر. مرات كثيرة جاء الملاك وحرّك الماء وفي كل مرة كان المرضى يتسابقون للنزول وتمّ شفاء أول النازلين. كان دائمًا آخر من ينزل، لكنه ما يزال راقدًا ينتظر الملاك أن يحرك ماء البركة. سقط ظلٌّ على وجهه وأخفى عنه ضوء الشمس مما جعله يفتح عينيه وينظر إلى الغريب الذي كان واقفًا بجواره ويسمعه وهو يسأله:
أتريد أن تبرأ؟ (طبعًا يريد جدًا أن يبرأ. لكن كيف؟) أجاب:
يا سيد، ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرّك الماء. بينما أنا آتٍ ينزل أمامي آخر.
قم! احملْ سريرك وامشِ.
وحالاً قام صحيحًا وحمل سريره ومشى.
هكذا جاء يسوع إلى الرجل الذي انتظر ثمان وثلاثين سنة وخلصه وشفاه.

*******
وجاء إلى أريحا، وكان يسير بين الجماهير التي كانت ملتفّة حوله وتتدافع من كل جهة، حتى وصل إلى شجرة جمّيز على الطريق، فوقف تحتها ورفع نظره إلى أعلى، ووجد زكا جالسًا على فرع منها مختبئًا بين الأغصان. كان زكا عشارًا يعمل تحت سيادة الحاكم الروماني الذي كفل له القوة والحماية والسلطة لجمع الأموال من الشعب، ويستولي على جزء منها كما يشاء. وكلما ازداد ثراء زاد قوة وغطرسة وطمعًا.
كرهه الجميع، ونفروا منه، وابتعدوا عنه، فهو رمز لاستبداد الاحتلال الروماني وطغيانه. كان قصير القامة، ممتلئ الجسد، يلبس ملابس غالية مزركشة لا تتناسب وتسلّقه شجرة جمّيز، ويختبئ بين أغصانها. وقف يسوع عند أسفل الشجرة وناداه وسط دهشة الجميع:
يا زكا، أسرع وانزل لأنه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك.
توجّهت الأنظار إلى زكا وهو يبذل جهدًا في محاولته النزول. لم يتقدّم أحد لمساعدته. هم لا يقتربون منه ولا يفهمون اهتمام يسوع به ودعوةُ نفسِه للذهاب إلى بيت زكا والمكوث فيه.
يسوع ذهب إليه واقتحم حياته وغيّرها، جعله يعطي بدلًا من أن يأخذ، ويردّ المسلوب ويتطهَّر ويقول:
ها أنا يا رب أعطي نصف أموالي للمساكين، وإن كنت قد وشيت بأحد أردّ أربعة أضعاف.
يسوع استردّ مملكته المغتصبة وأعلن:
اليوم حصل خلاص لهذا البيت إذ هو أيضًا ابن إبراهيم. لأن ابن الإنسان قد جاء ليطلب ويخلِّص ما قد هلك.

*******
دخل يسوع إحدى المدن، وكالعادة تزاحم الناس حوله ليسمعوه ويشاهدوا أعماله الخارقة. كانوا يتدافعون ويضغطون عليه من كل جانب حتى أعاقوا حركته. فجأة توقّف التدافع وقلّ الضغط، ثم أخذ الزحام يتخلخل وتلاحم الأجساد ينفكّ، والمتزاحمون يتراجعون للخلف في بطء ثم بسرعة. تلفّت يسوع يبحث عن سبب ما يحدث. رجل أبرص دخل الساحة. مظهره أفزع الناس فبدأوا يتباعدون عنه ويهربون منه. البرص مرض مخيف يصعب الشفاء منه. مثله مثل الأمراض المفزعة التي انتشرت في العالم، الإيدز وزيكا وغيرها من الأمراض الفتاكة. فحين يهاجم البرص إنسانًا يشوّهه ويقتل فيه القدرة على الشعور بالألم. تموت أطرافه وتسقط دون أن يحسّ بها. تتغيّر ملامح المريض وتفقد شكلها ويصبح مسخًا قبيحًا مخيفًا. يهرب الناس من الوجود مع الأبرص والاختلاط به، فالمرض معدٍ وفتّاك وقاتل. يغطّي الأبرص نفسه بأسمال بالية قذرة ويُطرد من بيته ومجتمعه ولا يدنو منه أحد حتى زوجته وأولاده. ويصرخ بصوت عالٍ إذا اقترب منه أحد:
نجس... نجس... نجس!
لما رأى يسوع الأبرص والجميع يهربون منه والدائرة حوله تتسع وتخلو، تقدم نحوه فأسرع الرجل وخرّ على وجهه جاثيًا وقال بصوت مملوء ألمًا ومرارة متوسّلاً:
إن أردت تقدر أن تطهرني.
تحنن يسوع واقترب من الرجل أكثر ومدّ يده ولمسه قائلاً:
أريد، فاطهر.
وحالاً ذهب عنه البرص وأرسله إلى الكاهن ليعلن تطهيره.
لم تمنع النجاسة والقبح والرائحة النتنة الكريهة من أن يتقدّم من الرجل ويلمسه بحنان ويشفيه.

*******
مرة أخرى وفي نايين رأى يسوع موكب جنازة في مقدمتها أرملة تسير خلف نعش وحيدها الميت. تقدم ومدّ يده ولمس النعش. الموت بكل إجراءاته نجاسة عند الشعب اليهودي فلا يقتربون من الميت لئلا يتنجسوا. لمس النعش فوقف الحاملون. ونادى الشاب الميت:
أيها الشاب، لك أقول: قم!
وقام الشاب ودفعه إلى أمه.

*******
يسوع كرّس حياته، حين كان على الأرض، لاحتياجات المرضى والخطاة والفقراء والمنبوذين. كان يذهب إليهم ويلمسهم ويشفيهم ويخلصهم.
"رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ." (إشعياء 1:61)

المجموعة: حزيران (يونيو) 2016