لغز السكوت الإلهيلماذا يسكت الله في وقت آلام الأبرياء؟ لماذا يسكت في وقت أحزان أولاده؟ لماذا يسكت عندما تقوم الاضطرابات والثورات في الأرض؟ لماذا يسكت عندما يرفع المؤمنون صلواتهم إليه؟ لماذا يسكت عندما يرى الأشرار يكثرون ثروة؟! لماذا يسكت عندما يرى أولاده وبناته يُضطهدون، ويُعذبون، ويُقتلون؟ هذه كلها أسئلة تفعم العقل الإنساني حيرة وارتباكًا. ويعطينا النبي صفنيا الجواب الشافي للقلب المعذّب والعقل الحائر، في كلماته الموحى بها من الله:


"الرب إلهك في وسطك جبار يخلّص يبتهج بك فرحًا. يسكت في محبته. يبتهج بك بترنّم." (صفنيا 17:3) فإلهنا الحيّ العظيم يسكت في محبته وهو يسكت في عدة مواقف أعلنها لنا الكتاب المقدّس:

1- الله يسكت وقت ثوران أمواج الحياة ضدنا

أجل، فهو يسكت وسفينة حياتنا تتلاعب بها الأمواج، وتكاد تغرقها الرياح العاصفة. وها نحن نرى الرب في السفينة مع تلاميذه، ينتحي مكانًا في مؤخرة السفينة وينام، ويثور البحر، وتشتد الرياح، ويحاول بطرس أن يصلح القلاع، ويوحنا أن يدير دفة السفينة، وتوما أن يجدّف بسرعة للوصول إلى الشاطئ، ولكن بلا جدوى، فالأمواج ترتفع فترفع معها السفينة إلى العلاء، ثم تتركها لكي تسقط بين أحضان الماء العجاج الذي لا يرحم، ولما تفشل المجهودات البشرية، يرفع التلاميذ عيونهم للتفكير في سيدهم. لماذا هو ساكت؟ لماذا لم يقم لإنقاذهم؟ أهكذا هو مثقل بنوم عميق؟ ألم يسمع ضوضاءهم؟ ألم يرَ محاولاتهم؟ إذًا فليتقدموا إليه ليوقظوه، وهكذا أسرعوا إليه وعلى أفواههم صرخة الأبد: "يا معلم، أما يهمّك أننا نهلك؟" كلّا، بل يهمّه جدًا، فشعور رؤوسنا محصاة عنده، وعظامنا مرسومة في سفره قبل أن توجد، وأنفاسنا مدخرة في قوته اللانهائية. لكنه يسكت لنعترف نحن بفشل محاولاتنا، وليعلمنا الدرس الخالد الذي أراد أن يلقّنه لنا، "لا تتكلوا على الرؤساء، ولا على ابن آدم حيث لا خلاص عنده." (مزمور 3:146)وعندما نتعلم الدرس ونلجأ إليه هو، يقوم وينتهر البحر والأمواج فيسود هدوء عظيم وعندئذ ترى فيه الخالق العظيم الذي وضع للبحر حدًّا فلا يتعدّاه وقال له هنا تقف وهنا تُتخم كبرياء لججك.
فيا أيها الخائف من الأمواج الهائجة المحيطة بك، ويا أيها المضطرب في بحر ثارت عواصفه، لا تخف فرُبَّان السفينة ما زال يقودها، ولن تهلك شعرة من رؤوسنا.

2- الله يسكت وقت نجاح الأشرار حولنا

هذا هو ما أعلنه حبقوق عندما قال: "فلِمَ تنظر إلى الناهبين، وتصمت حين يبلع الشرير من هو أبرُّ منه؟" وهذا هو ما جعل إيمان آساف يهتزّ في يوم ما، فسجل اختباره الذي قال فيه: "أما أنا فكادت تزلُّ قدماي. لولا قليل لزلقت خطواتي. لأني غرت من المتكبرين، إذ رأيت سلامة الأشرار. لأنه ليست في موتهم شدائد، وجسمهم سمين. ليسوا في تعب الناس، ومع البشر لا يصابون. لذلك تقلّدوا الكبرياء. لبسوا كثوب ظلمهم... يستهزئون ويتكلمون بالشر ظلمًا. من العلاء يتكلمون... هوذا هؤلاء هم الأشرار، ومستريحين إلى الدهر يُكثرون ثروة." (مزمور 2:73-12) لكن هل يسكت الله على كبرياء الأشرار إلى الأبد؟ كلّا، فقد أمسك الرب بيد آساف وأدخله إلى مقادسه فكتب الرجل يقول: "حتى دخلت مقادس الله، وانتبهت إلى آخرتهم. حقًا في مزالق جعلتهم. أسقطتهم إلى البوار. كيف صاروا للخراب بغتة! اضمحلوا، فنوا من الدواهي." ففي ترتيبات الله أن يسكت على شرّ الأشرار، إلى أن يرتفعوا إلى أعلى درجات المجد، ثم يحطمهم فيسقطون من علٍ ولا تكون لهم نجاة. نعم فهو يسكت على المرتشين والظالمين، والخدّاعين، والنجسين، لكنهم في لحظة يُسقَطون ويتهشّمون.

3- الله يسكت في وقت أحزاننا وتجاربنا

لقد سكت قديمًا عندما سمع بموت لعازر الذي كان يحبه، وهو يعلم أن قلب مرثا قد حطّمه الحزن وأن قلب مريم قد ذاب من الأنين. وسكت عندما رأى يوسف يباع كالعبيد، وتتهمه امرأة فاجر في شرفه الرفيع، ويُقاد كالمذنبين إلى سجن مظلم من سجون مصر... وأنت تهمس قائلًا: "لكن، لماذا يسكت الله في آلامنا وتجاربنا؟" إن قيامة لعازر التي أعلنت لاهوت المسيح تعطيك الجواب الشافي. والعربة الملكية التي ركبها يوسف ونادوا أمامه "اركعوا"، تريح قلبك المتألم وفكرك الحائر. فلو أن المسيح جاء ولعازر مريض لما كانت هناك فرصة لإعلان قوته الفائقة على الموت، ولو أن الله أنقذ يوسف من أيدي إخوته، لخرج إلى الحياة شابًا ضعيفًا -كدت أقول مائعًا - من كثرة تدليل أبيه المحب له. لكن الله قصد أن يزيل الضعف والميوعة من حياة يوسف، وأن يذيقه ظلم الحياة، وأن يشعره بإحساس الجياع، حتى عندما يتولّى كرسيّ الوزارة يحكم بالعدل للمساكين ويشفق على بائسي الأرض.
فاسترح أيها المتألم المعذَّب من آلام الحياة وتجاربها، فربما يسكت الله عليك وأنت في بوتقة الألم ليعدّك لمركز رفيع في تدبيرات عنايته.
لكن سؤالًا هامًا يخطر ببالنا وهو، هل يسكت الله في سمائه كما يبدو لنا نحن أبناء الأرض؟
هل يسكت على ظلم الظالمين، وكبرياء الأشرار، ووقاحة المجدفين، ورياء المتظاهرين؟
يجيبنا آساف في المزمور الخمسين قائلًا: "وللشرير قال الله: ما لك تحدّث بفرائضي وتحمل عهدي على فمك؟ وأنت قد أبغضت التأديب وألقيت كلامي خلفك. إذا رأيت سارقًا وافقته، ومع الزناة نصيبك. أطلقت فمك بالشر، ولسانك يخترع غشًا. تجلس تتكلم على أخيك. لابن أمك تضع معثرة. هذه صنعت وسكتّ. ظننت أني مثلك." (مزمور 16:50-21) لكن الله يؤكد للشرير أنه لن يسكت على خطاياه وآثامه إلى الأبد، فيقول له: "أوبّخك، وأصفّ خطاياك أمام عينيك." (مزمور 21:50)
ويعطينا داود النبي صورة لله في موقفه تجاه شر الأشرار، ومؤامرات الملوك والرؤساء فيقول: "لماذا ارتجت الأمم، وتفَكَّر الشعوب في الباطل؟ قام ملوك الأرض، وتآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه، قائلين: لنقطع قيودهما، ولنطرح عنا ربطهما. الساكن في السماوات يضحك. الرب يستهزئ بهم. حينئذ يتكلم عليهم بغضبه، ويرجفهم بغيظه." فالساكن في السماوات يضحك على أشرار الأرض ومؤامراتهم. ولقد ضحك في القديم على تدبيرات هامان الذي أراد أن يبيد الشعب اليهودي، وهو يضحك اليوم على كل قائد أو زعيم تسول له نفسه أن يفكر في إبادة الأقليات في أي بلد من بلاد الأرض، وهو في ضحكه يستهزئ بمشروعات أولئك الملوك والقادة والزعماء ولا بد أن يأتي اليوم الذي فيه يتكلم كلمته فيرجفهم بغيظه ويثبت ملك مسيحه.
أما من جهة سكوت الله على آلام أولاده وتجاربهم، فإشعياء يعلن لنا مشاعر الله من نحو قديسيه فيقول: "في كل ضيقهم تضايق، وملاك حضرته خلصهم. بمحبته ورأفته هو فكهم ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة." (إشعياء 9:63) فهو إذًا يتألم لآلامنا، ويتضايق لضيقنا وفي الوقت المعين يسرع إلى فك قيودنا، وعلى ذراعيه يحملنا.
فيا نفسي، اهدئي في محضر الله، واستريحي على ذراعَي محبته، وإن بدا ساكتًا يا نفسي إزاء ضيقاتك، فتمسكي بإيمانك، لأنه سوف يسرع في وقته لنصرتك.

المجموعة: تشرين الأول (أكتوبر) 2016