الأخت أدما حبيبيتنفَّستُ الصَّعداء، وقلتُ: إيه، أخيرًا، انقضى الشهرُ الحادي عشر من السنة الماضية، وانقضَتْ معه الضَّوضاء، وكذا كلُّ عجيجٍ وضجيج، ملأ آذانَنا بأصدائِه الرنَّانة! نعم، أخيرًا، وبعد أن سئِمنا من وعودِ هذا وذاك، ويئِسنا من اتِّهاماتِ واحدِهما للآخر، ابتغيتُ النأيَ بالنفس من جديد، والخلودَ إليها، علّني أتخلَّصُ من كلِّ ما سمعتُ ورأيتُ وشاهدتُ على مدار السنة المنصرمة كلّها من صورٍ ودعايات انتخابية، وتعليقاتٍ وتحليلاتٍ وآراء ومناظرات ومجادلات.

وهذا كلُّه حَدا بيَ الآن مع مطلعِ عامٍ جديد، إلى النَّأي فعلًا بعيدًا عن غوغائيةِ الإعلام، وعشوائيةِ الكلام، وفوضويةِ المَرام، وانتفاءِ الإلهام، وجموحِ الأحلام!
كتبتْ إحداهن في يوم الانتخابات الأمريكية على صفحة التواصل الاجتماعي هذا القول: "إلى كلّ الذين يظنُّون أن َّأميركا هي الآن قد دينَتْ وأصبحت مشؤومة، فإنَّ أملكَم أو رجاءكم هو في غير محلِّه. وكذلك إلى كلِّ الذين يظنُّون أنَّ أميركا هي الآن قد أُنقذَت وجاءَ الفرَج، فإنَّ أملَكم أو رجاءكم هو أيضًا في غير محلِّه."
نِعْمَ القولُ فعلًا. نعم أريدُ أنا التغيير، وأسعى للتغيير، وأحثُّ الآخرين على التغيير. لكن ممَّن وممَّا؟ التغيير من كلِّ برَّاق جُذبتُ إليه، ومن كلِّ لمَّاع أُخذتُ به، ومن كل معسولِ كلامٍ استحكَّت مسامعي له، ومن كل انجرارٍ لهذا أو ذاك من الأطراف ذوي الوعود الرنَّانة الجوفاء، التي ومهما علَتْ أو كبُرت ستبقى نُحاسًا يطنُّ أو صنجًا يرنُّ.
هذا من ناحيةِ الحدث الأهم والمميَّز في العام المنصرم هنا في أميركا. لكن حين أعودُ الآن بذاكرتي إلى الوراء ومن منظورٍ آخر هو المنظور الروحي وبعيدًا عن ضوضاء هذا العالم، لا يسعني إلا أن أدلَّ وأشيرَ بالبَنان على كلّ اختبارٍ أليم ألمَّ بي، وصلاةٍ حرّى فُهتُ بها، وطلبةِ شفاءٍ ذرفتُ الدموع من أجلِها، وصعوبةٍ كبيرة صرختُ فيها إلى إلهي الحي فوجدتُه إلى جانبي، يسمع لأنيني، ويهدِّئ من روعي، ويعزيني ويفرِّحني بكلمته الحية والمُحيِيَة. نعم، لا يسعني إلا أن أميلَ إليها كلِّها وأعرّجَ عليها ولو للمحةٍ وجيزة أو وقفةٍ سريعة، لكي أشكرَ فيها إلهي الذي لم يتركْني ولم يهملْني قطُّ، الإله الحي الذي لم ولن يتغيَّر. أشكره على أمانته معي، ومعاملاته العجيبة، ومحبته الفائقة، وطول أناته الدائمة، ورحمتِه الجديدة في كل يوم، وإحساناته المتعددة، وبركاته الجزيلة، وأخيرًا وليس آخرًا على معيَّتِه وحضوره في كل صغيرة وكبيرة في حياتي.
نعم هذه جرْدةٌ لا بد منها، لأنَّنا من خلالها نُحصي أيامنا فعلًا ، بمعنى أن نكون على صلةٍ دائمة وتواصلٍ مستمر مع الله أبينا من خلال شفيعنا الوحيد الرب يسوع المسيح وهكذا نؤتى قلبَ حكمة. تمامًا كما يقول صاحب المزمور التسعين النبي موسى: إحصاءَ أيامنا هكذا علّمنا فنؤتى قلب حكمة. فهل ترانا نوجِّه أنظارنا إلى الإله خالق السماء والأرض والمسيطر في مملكة الناس؟ وهل نعترف بعظمته وقوته وقدرته المتجدِّدة والعاملة في حياتنا؟
هل نتوجَّه إليه لكي نمنحَه شكرَ قلوبنا، ونعبِّر له عن ثنائنا الدائم، ونقدِّم له كل مجد وإكرام لأنَّ له وحده يليق كلُ حمد وشكر وتقدير؟ هل نقدِّر الفرصَ التي يمنحنا إياها في كل يوم جديد، وهل نستفيد منها؟ أم نضيِّعها هكذا سدى ًدون أن نستخدمها لمجده ولانتشار ملكوته؟ فهل تختار إذن أن تسبِّح معي يا قارئي، وتشكر إله الآلهة، الذي هو وحده مصدر كل رجاء وأمل في عالم البشر؟ يقول صاحب المزمور الثاني والتسعين: "حسن هو الحمد للرب والترنم لاسمك أيها العلي. أن يُخبر برحمتك في الغداة وأمانتك كل ليلة... لأنك فرّحتني يا رب بصنائعك، بأعمال يديك أبتهج. ما أعظم أعمالك يا رب! وأعمق جدا أفكارك."
إذن بعيدًا عن كل إزعاج أو ضوضاء أو أصوات يحمِلها هذا العالم إلينا في طياَّته، لنخترْ أن نجلس عند قدمي السيد لنمنحَه حياتنا، أيامنا، وأسابيعنا، وشهورنا، وسنتنا الجديدة هذه، لأنه وحده هو صخر الأزل وعليه وحده نلقي رجاءنا والأمل، ولا أحدَ غيره.

المجموعة: كانون الثاني (يناير) 2017