الأخ جوزيف عبدوفي مشهد هو الأكثر "درامية" في حياة رجل الله العظيم "إيليا" في العهد القديم، نراه يقف وحيدًا بين جموع غفيرة، بمواجهة أربعمئة وخمسين من "أنبياء البعل" وأربعمئة من "أنبياء السواري" وجميعهم من عبدة الأصنام. وكان هؤلاء مدعومين بسلطة ملك كان من أشرّ ملوك بني إسرائيل يُدعى "أخآب" وزوجته الوثنية المغرقة في الإثم ومعاداة الله وتدعى "إيزابل".

ذلك الموقف الذي لا يشك عاقل بأن حدوثه لم يتم بمحض الصدفة، ولكن بقوة الله الحي، الذي يستخدم الضعفاء لهزيمة الأقوياء والبسطاء لإحراج الحكماء، والذين لا قوة لهم للصمود في وجه العواصف الهائجة والقوى الشريرة، فصار فيه عامل تشجيع رائع لأولئك الذين وضعوا في قلوبهم تصميمًا لخدمة الله الحي.
كان مسرح تلك الدراما الرهيبة جبل الكرمل الواقع قرب حيفا، والذي يشكّل الحافة الجنوبية لخليج عكّا، ويطلّ بجرف منحدر على البحر الأبيض المتوسّط، بينما يشرف على السهول الواقعة في شماله وجنوبه وشرقه. وكانت قمّته في تلك الأيام مكسوّة بالأشجار المثمرة والبريّة أيضًا. هناك اجتمع الألوف من بني إسرائيل الذين ضلّوا عن الله، وكانوا مدفوعين إلى عبادة الأصنام بأوامر ملكية. لقد وقفوا يرقبون المباراة غير المتكافئة "نظريًا"، بين رجل الله الوحيد ضدّ ثمانمائة وخمسين من دعاة الوثنية، بكل ما يتمتّعون به من دعم وتأييد سلطوي. وكانت غاية التحدّي بين الفريقين: أن الإله الذي يجيب بنار من السماء هو الإله الحقيقي. وهذا التحدّي أطلقه إيليّا بمواجهة أعدائه هؤلاء الكثر... ولكن بعد جولة أو جولتين فشلت دعوات عابدي الأصنام وظهر زيف ادّعاءاتهم، وسقطت نار الرب على ذبيحة إيليا، فخرّ جميع الشعب سجودًا لله وهم يقولون: "الرب هو الله، الرب هو الله." حينئذ تم لإيليا القضاء على أنبياء البعل! فكيف كان ذلك وما هي حيثيّات سقوط نار الرب؟
لقد كان إيليا نبيًا للرب ملهمًا بالروح، فعقد الرهان بشروطه هو المرتكزة على إيمانه بإلهه العظيم القادر على كل شيء. إذ عرض عليهم أن يقدّموا ثورًا على مذبح البعل ويدعوا باسمه كي يُنزل نارًا تأكل المحرقة، عالمًا أن الصنم سوف يخذلهم. وهو بدوره سيقدم ثورًا على مذبح الرب ويدعو باسمه كي ينزل ناره فتأكل المحرقة التي أعدّها.
وبما أن أتباع الديانات الباطلة يتوهّمون بأن لها قوة خفيّة، فقد قبل هؤلاء التحدّي. "فأخذوا الثّوْر الّذي أعْطي لهمْ وقرّبوه، ودعوْا باسْم الْبعْل من الصّباح إلى الظّهْر قائلين: يا بعْل أجبْنا. فلمْ يكنْ صوْتٌ ولا مجيبٌ. وكانوا يرْقصون حوْل الْمذْبح الّذي عمل. وعنْد الظّهْر سخر بهمْ إيليّا وقال: ادْعوا بصوْتٍ عال لأنّه إلهٌ! لعلّه مسْتغْرقٌ أوْ في خلْوةٍ أوْ في سفرٍ! أوْ لعلّه نائمٌ فيتنبّه! فصرخوا بصوْتٍ عال، وتقطّعوا حسب عادتهمْ بالسّيوف والرّماح حتّى سال منْهم الدّم." (1ملوك 26:18-28)
وبعد أن أثبت إيليا للشعب بطلان وكذب عبادة البعل، كان لا بدّ له من أن يعيدهم إلى أساسيات وترتيبات العبادة لله الحي الحقيقي. ونرى كيف أدار هذا الأمر في سباعية تم على أثرها سقوط نار الرب.
1- دعا جميع الشعب ليتقدّموا إليه: كثيرون من الخدام اليوم في مكان أو آخر يدعون الشعب لكي يتقدّم إليهم، وذلك لكي يرى ترتيبهم وقدرتهم وسلطانهم الديني. أما إيليا فقد دعا الشعب كي يتقدّم إليه لكي يريه الترتيب السماوي والقدرة العُلويّة والسلطان الإلهي، ويا له من فرق كبير بين الفريقين!
2- رمّم مذبح الرب المنهدم: كم توجد مذابح منهدمة في كنائسنا في هذه الأيام، فرغم الترتيبات الزمنية، والخطب الرنانة، وما فيها من النوادر المضحكة، والأفكار البارزة التي تصفق لها الجماهير، لكن لا مذبح هناك ولا اجتماع صلاة أسبوعي ولا حتى شهري. وذلك ينسحب أيضًا على البيوت. كم أذكر بحرقة زوال تلك الأوقات حيث كان الإخوة في الكنيسة إضافة إلى اجتماع الصلاة الأسبوعي، يجتمعون في البيوت ويظلون راكعين متضرعين حتى ساعات متأخرة من الليل، وكم أنقذنا الرب حينها من تجارب واضطهادات، وأعطانا انتصارات كثيرة.
3- أخذ اثني عشر حجرًا بعدد أسباط بني يعقوب، وبنى الحجارة مذبحًا للرب، لقد حافظ على الرمز الروحي للمذبح، فبناه من حجارة غير منحوتة، أي خالية من التزويق، وتمثل كامل الشعب، بينما نرى اليوم كثيرًا من القادة يتجاوزون الرموز الروحية بحجة "التحرّر من الحرفية" ويعملون بين الشعب بمبدأ "فرّق تسد" فيحرمون أنفسهم ورعاياهم من البركة التي يتمتع بها المحافظون على قدسية الرمز الإلهي والمتمسكين بحرفية الكلمة إضافة إلى روحانيتها أيضًا.
4- رتّب الحطب: إن إلهنا إله ترتيب، ومتى كان القائد يعمل بترتيب حسب خطة الله في الأمور المهمة فإنه يعمل بترتيب أيضًا في الأمور الصغيرة. قد يقول قائل: "ما دامت النار ستأكله فما الفائدة إن كان الحطب مرتّبًا أم لا؟ وكثيرون من القادة يفكّرون هكذا."
5- قطّع الثور ووضعه على الحطب: وبالرغم من أن وضع إيليا لم يكن مريحًا تجاه أولئك المتربصين به، ولكنه عمل بهدوء وبحسب المثال: قطّع الثور إلى قِطَعه حسب المرسوم ووضعه بكل اهتمام على الحطب. فكل قطعة لها رمز.
6- قضى على الزيف والالتباس: فلكي لا يظنّنّ أحد أنه ربما يكون قد أخفى جذوةً من نار في مكان ما تحت الحطب، أمرهم أن يصبّوا أربع جرات ماء على المحرقة والحطب والمذبح، ثم قال ثنّوا فثنّوا، وثلّثوا فثلّثوا، حتى امتلأت القناة التي عملها حول المحرقة بالماء. فكان المجموع اثنتي عشرة جرة ماء! ويا ليت الذين يخدمون الرب في كل مكان أن يجعلوا أمورهم ظاهرة ومكشوفة ونقيّة أمام الله والناس.
7- صلّى إلى الله بكل ثقة وإيمان: وكان من عناصر صلاته:

1- تذكير الله بتعامله مع الآباء إبراهيم وإسحاق وإسرائيل.
2- الطلب من الله أن يعلن ذاته للشعب كالإله القادر على كل شيء.
3- أن يؤكد إرساليته لهؤلاء فيعلموا أنه مرسل من قبله لتنفيذ مشيئته.
4- لكي يدرك ذلك الشعب أنه الرب الوحيد الذي حوّل قلوبهم رجوعًا.
فهو لم يطلب شيئًا لذاته أو لإعلاء شأنه، ولكنه طلب مجد الله وإعلان سلطانه العظيم.
"فسقطتْ نار الرّبّ وأكلت الْمحْرقة والْحطب والْحجارة والتّراب، ولحست الْمياه الّتي في الْقناة." (1ملوك 38:18) إذًا، فقد أظهر الله بكل وضوح:
أ- رضاه على خدمة إيليّا والإجراءات النظامية التي قام بها.
ب- قدرته العظيمة وسلطانه الرهيب فوق جميع القوات الموجودة في العالم.
"فلمّا رأى جميع الشّعْب ذلك سقطوا على وجوههمْ وقالوا: الرّبّ هو الله! الرّبّ هو الله!" (عدد 39) فيا لها من نهضة نادرة! إن ما فعله إيليا النبي هو خارطة طريق لكل مؤمن حقيقي ولا سيما الذين يخدمون الكلمة اليوم، فقد يواجه أحدنا أكثر من "أخآب متسلط واحد"، وأكثر من "إيزابل شريرة واحدة"، وقد يقف أمام أعداد كبيرة من كهنة البعل، ودعاة الانحلال والإلحاد والشر، وبين جموع من الناس المنقادين خلف هؤلاء المتسلطين والمضلين.
أخي العزيز المبارك، لقد كسب إيليا الرهان لأنه راهن على قدرة الله العظيمة وسلطانه العجيب، لا على قدرته هو أو معرفته أو ذكائه أو تقواه، والذين يفشلون في هذا المسعى هم الذين يراهنون على مؤسساتهم الدينية وأنظمتها، أو شهاداتهم العلمية ورفعتها، أو أساليبهم الشخصية وحنكتها، أو علاقاتهم البشرية وقوتها، أو طرقهم الفلسفية وحيلتها، والله ينظر ويراقب أعمال الضمائر والقلوب وينجح طرق المتكلين عليه من كل القلب. ونحن جميعًا نقف أمام ذلك التحدي الخطير، وعيوننا مرفوعة إلى الله الحيّ القدير.

المجموعة: كانون الثاني (يناير) 2017