الأخت أدما حبيبيأعاد السؤال عليها من جديد مستفسرًا عن اسم عائلتها، فردّت عليه من خلال المحادثة على الهاتف لتقول:
"أنا السيدة بوكيه."
"عفوًا لم أفهم كيف تتهجّين اسم العائلة؟" قال الموظف بأدب. أجابت:
"B-O-U-Q-U-E-T هكذا هو اسمي". عندها قال:
"أهلا وسهلا أيتها السيدة باكيت Buquet." قالت بانفعال:

"لا، ليس باكيت، بل بوكيه، بوكيه، لماذا لا تعرف أن تلفظ اسمي المأخوذ عن الفرنسية وهو يعني باقة أي باقة من الزهور. أما "باكيت" فتعني سطلًا..." وأغلقت الخط في وجه الموظف غضبًا منه وتوجّهت بكلامها إلى زوجها السيد بوكيه، لتبثّه انزعاجها قائلة:
عجبًا، لا أحد يعرف أن يلفظ اسم عائلتنا العريقة بشكلٍ صحيح. ما أمر هؤلاء البشر!
أما السيد والسيدة بوكيه فهما صاحبا برنامج فكاهي بريطاني يحمل عنوانًا ملفتًا للانتباه جدًا هو: "مظاهر" أو بالإنكليزية Appearances. وكانت صورة مقدمة البرنامج الفكاهي كناية عن غرفة طعام مرتّبة، ومزينة طاولتها بباقةٍ من الورود الجذابة. كما كانت تتدلى من سقف الغرفة ثريا رائعة المنظر تشعّ منها أنوارٌ متلألئة لتضيء الغرفة بأكملها. نعم، مظهرٌ جميل وأخّاذ، لكن، ما كان يجري في البيت بين السيد والسيدة "بوكيه" لا نستطيع وصفه بالجمال الأخّاذ كما كانا يبدوان للناس! نعم، فلقد كان جلّ همّ السيدة بوكيه الأوحد هو ماذا يقول الناس عنها؟ كيف تستطيع أن تترك انطباعًا مبهرًا على كلٍ من الجيران والأقارب. فكانت تتظاهر بالثراء وهي متوسطة الحال، وتظهر أنها في قمة الأدب الرفيع في طريقة تعاملها مع الآخرين. ليس هذا فحسب، بل تظاهرت مرات عديدة بأنّها في عطلتها السنوية وهي تلعب الغولف كباقي الناس الأغنياء، مع أنها لم تكن تعرف كيف تحمل الأدوات بشكل صحيح. فأرغمت حينذاك زوجها على حملها ووضعها في السيارة لتبيّن للجيران بأنّها محترفةٌ فعلًا. كانت حياتها وزوجها مجبولةً بحبّ المظاهر وماذا يقول الناس عنهما. لذا أثّر ذلك على حياتهما وكل ما يدور فيها. كان ذاك البرنامج يعرض على التلفاز البريطاني من أجل السخرية والفكاهة، على الرّغم من أنّه يحمل بالحق رسالةً للمشاهدين.
بالحق، ما أكثر المظاهرَ المنتشرة في حياة الناس على أرض الواقع الذي نعيش فيه، إذ هناك مظاهرُ تخفي وراءها أسرارًا كثيرة في حياتهم. وحياتهم تكاد لا تختلف أحيانًا عن تلك الدعايات والإعلانات الموضوعة في الطرقات، أو أخرى المعلّقة على لافتاتٍ إذ رآها أحدهم وقرأ: "هنا أفضل محلّ لصيانة المزاريب والنوافذ في البيوت، والعمل مضمونٌ مئةً بالمئة." وحين اقترب من المكان لم يجد في المزرعة سوى بيتٍ قديم قديم، نوافذه مكسورة، وخلفه إصطبل للحيوانات مهجور، يكاد كلاهما يهويان على الأرض من كثرة الإهمال وعدم الصيانة. ليس هذا فحسب بل قال شاهد العيان: تستطيع أن ترى الطلاء وقد فسد وراح بفعل الشمس القوية يتقشّر ويسقط. فأيّ إعلانٍ هذا الذي سيجلب الزبائن ويشجعهم على استخدام ما يعرضونه من صيانةٍ ممتازة تدّعي الجودة العالية جدًا؟!
هذا قناعٌ آخر من نوع آخر، يتعمّده البعض علّهم يخدعون الناس السذّج أو البسطاء فيقعون في حبائلهم ودون أن يدروا. وتكثر الأقنعة التي يتخفى وراءها الكثير من الناس حتى ليصحّ فيهم القول: بأنّهم يؤدون أدوارًا على مسرح الحياة البعيدة كلّ البعد عن حقيقتهم. ترى ألم يتصرف رجال الدين اليهود في زمن المسيح على هذه الشاكلة أيضًا؟ نعم ومظاهرهم ضلّلت الكثيرين من الناس. لكن لا شيء مخفيٌ عنه هو الذي يعرف الخفايا والخبايا. ونسمع يسوع المسيح يوبّخهم على أقنعهتم تلك حين يوجّه كلامه إليهم وبكل سلطان، يفضح حقيقتهم أمام الشعب فيقول: [ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون! لأنكم تشبهون قبورًا مبيّضة تظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءةٌ عظام أموات وكلّ نجاسة. هكذا أنتم أيضًا: من خارج تظهرون للناس أبرارًا، ولكنّكم من داخل مشحونون رياءً وإثمًا.] (متى 23: 27-28)
يقال: تستطيع أن تخدع بعض الناس بعض الوقت لكنّك لا تستطيع أن تخدع كلّ الناس كلّ الوقت. إذا كانت هذه الأقنعة التي تكلّمنا عنها سابقًا سرعان ما تتساقط أمام عوادي الزمن ، فكم بالحري أقنعة الرياء التي يتخفّى وراءها البعض ظانين أنهم يستطيعون خداع الله نفسه! من تراه يقدر أن يخفي حقيقته عن فاحص القلوب ومختبر الكلى، والذي كل شيء عريان ومكشوف أمامه؟ نعم من؟!
بعد صراعٍ طويل مع المرض في الجسد الذي أقعدها وجعلها عاجزة وغير نافعة، وفي سن الخامسة والأربعين وفي العام 1834 أحسّت شارلوت إيليوت المرأة البريطانية من بريطون، بفقدان قيمتها لأنّها لم تستطع الانخراط في العمل كباقي الناس. وسيطرت عليها مشاعر الحزن والأسى، وتملّكتها أحاسيس اليأس في داخلها لم تستطع السيطرة عليها ولا حتى أن توقفها. عاشت من بعدها صراعًا في النفس والروح بالإضافة إلى آلام الجسد. لكن حين أدركت حقيقة هذه الصراعات في داخلها وأنّها ليست إلا مجموعةً من الأوهام، راحت على إثرها تقيّم حياتها الروحية. عندها استجمعت للحال قواها، وبدأت تكتب هذه الكلمات لكي تريح نفسها المتعبة والكئيبة ودوّنت ما يلي:
كما أنا آتي إلى،فادي الورى مستعجلا
إذ قلت: نحوي أقبلا،يا حمل الله الوديع
يا رب إني مجرم،فليغسلن قلبي الدم
إني إليك أقدَمُ،يا حمل الله الوديع
كما أنا لأنني،ذو فاقة لا تنسني
آتي إليك يا غني،يا حمل الله الوديع
أنت الذي تشفي العليل،أنت الذي تروي الغليل
عني أزل حملي الثقيل،يا حمل الله الوديع
كما أنا لا برّ لي،أدنو من الفادي العلي
عن طلبتي لا تغفل،يا حمل الله الوديع
[كما أنا]، هاتان هما الكلمتان المفتاح، اللتان تواصلت من خلالهما السيدة شارلوت إيليوت مع حمل الله الوديع. أدركت عجزها وفقرها الحقيقيين، فاستحقّت كلمة [الطوبى] من السيد له المجد، إذ صرّح في موعظته الشهيرة على الجبل: [طوبى للمساكين في الروح لأنّ لهم ملكوت السماوات... طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون.] (متى 5)
لم يكن المسيح يومًا يحبّ أقنعة البشر التي يتخفّون وراءها لأنها سرعان ما ستنكشف وسيظهرون عندها على حقيقتهم! فهو يريدهم أن يأتوا إليه كما هم تمامًا كما أتت إليه شارلوت بعجزها وضعفها وفشلها وخوفها واضطرابها. يريدهم أن يدركوا عجزهم وفشلهم الداخلي فيتخلّوا عن كبريائهم وافتخارهم. وحين فعل الكثيرون من الناس الذين سمعوا كلامه وآمنوا به، وأتوا يطلبونه، لم يردّ أحدًا منهم خائبًا. فنجده مثلًا يزور بيت زكا العشار الذي لم يكن محبوبًا من الشعب. إذ رآه متسلّقًا الجمّيزة، وهو القصير القامة، لأنه يريد أن يرى يسوع. وحين دخل إلى بيته صرّح زكا العشار أمام الحاضرين بأنه سيردّ أربعة أضعاف لكلّ من وشي به وسرق ماله. حينئذ قال له يسوع: [اليوم حصل خلاصٌ لهذا البيت.] بمعنى إنك اليوم أتيت إليّ كما أنت، متخليًّا فعلًا عن كل قناعٍ كنت تلبسه، من خلال تصريحك هذا. لهذا حصلت اليوم على الخلاص والبرّ والغفران عن كل خطاياك. (لوقا 19)
والسؤال الآن هو: هل ترانا نحن الذين اختبرنا غفران المسيح وآمنا به مخلّصًا شخصيًا لنا، هل ترانا نحذو حذو الناس من حولنا وننجرّ إلى لبس الأقنعة التي تخفي دوافعنا وميولنا ورغباتنا حتى ونحن في حقل الخدمة أحيانًا؟ فنتظاهر بمحبة الآخرين، وبمساعدتهم، ونقفز لتأدية أية خدمة كيما يرانا الناس! لنتذكر دائمًا، أن الناس ينظرون إلى الخارج، أم الله فينظر إلى القلب.
لنسأل أنفسنا: هل تأثرنا بعائلة "بوكيه"، أم بالإعلانات الجذابة؟! حين ينظر الناس إلينا هل يستطيعون أن يروا بأنّ خارجنا ينبئ حقًا عما في داخلنا! لا ننسى أصدقائي بأنّ هناك عاليًا فوق الجميع لا بل هو "الأعلى" الذي يراقب ويعرف كل شيء، عن كل البشر، وفي كل الوقت. ولا يمكن أن يخفى عنه أيّ أمر!

المجموعة: آب (أغسطس) 2017