الدكتور صموئيل عبد الشهيدورد في رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 15:7-20 ما يلي: [لأنّي لست أعرف ما أنا أفعله، إذ لست أفعل ما أريده، بل ما أبغضه فإيّاه أفعل. فإن كنت أفعل ما لست أريده، فإنّي أصادق النّاموس أنّه حسنٌ. فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا، بل الخطيّة السّاكنة فيّ. فإنّي أعلم أنّه ليس ساكنٌ فيّ، أي في جسدي، شيءٌ صالحٌ. لأنّ الإرادة حاضرةٌ عندي، وأمّا أن أفعل الحسنى فلست أجد. لأنّي لست أفعل الصّالح الّذي أريده، بل الشّرّ الّذي لست أريده فإيّاه أفعل. فإن كنت ما لست أريده إيّاه أفعل، فلست بعد أفعله أنا، بل الخطيّة السّاكنة فيّ.] (رومية 15:7-20)

لست أعتقد أن هناك من بين رسل تلاميذ المسيح من أدرك بعمق قصة الصراع ما بين نزعات الجسد المستعبدة للخطيئة، وحرية الروح المقدسة كما أدركها الرسول بولس. فقد خاض معركة رهيبة ما بين الخير والشر في إبان حياته في مرحلتين متعاقبتين كان فيها الوحش الضاري، أو الضحية المعذّبة في آن واحد.
لقد ظنّ في نفسه في المرحلة الأولى أنه كان يخدم الله في غيرته على الناموس، وأن هذه الغيرة قد وفّرت له الاستقلالية التي كان يسعى إليها. فعمد من ثمّ على تطبيق الشرائع اعتقادًا منه أنه بذلك يحقق الحرية، ولكنه وجد نفسه واقعًا في أشراك الناموس يتخبّط في حفرة لا قرار لها. وكلما حاول أن يفكّ عنه قيودها كان يزداد تورطًا ولا يجد لنفسه مخرجًا منها.
ونستطيع القول إن بولس ظلّ غارقًا في حالة الضياع والارتباك ردحًا من الزمن لأنه كان يعيش في ظلمة دامسة إلى أن وقف وجهًا لوجه أمام من قال عن نفسه: [أنا هو نور العالم.] ويبدو من هذه الآيات أعلاه أنه كان في قرارة نفسه يعلم أنه ينحدر في هوة سحيقة قد تفضي إلى هلاكه. فبولس:

أولاً، كان يدرك الفارق ما بين الخير والشر، لهذا قال: [لأنّي لست أعرف ما أنا أفعله، إذ لست أفعل ما أريده، بل ما أبغضه فإيّاه أفعل.]
وفي الواقع أن بولس استطاع أن يميّز ما بين الخير والشر - بل بين ما هو صالح وما هو طالح. ولكنه وجد نفسه - على الرغم من معرفته – عاجزًا عن اختيار ما هو خيّر وصالح. ولكن كانت هناك قوى هائلة في أعماقه تشده إلى تلك الهاوية الرهيبة التي لا يستطيع النجاة منها. إن إدراكه لما هو خير ولما هو شرّ لم يسعفه على إنقاذ نفسه من المصير المحتم لأنه:

ثانيًا، كان مصفّدًا بأغلال الخطيئة. فهو، كما نبّر بصراحة: [فإنّي أعلم أنّه ليس ساكنٌ فيّ، أي في جسدي، شيءٌ صالحٌ. لأنّ الإرادة حاضرةٌ عندي.ٍ] غير أن هذه الإرادة كانت وليدة الطبيعة الساقطة التي كانت كجبار عاتٍ لا يستطيع أن يتحرر منه: وهذه الطبيعة هي الخطيئة الساكنة فيه والتي استبدّت بكل مناحي حياته على الرغم من جميع محاولاته الفردية للخلاص منه، بل إنها أقنعته أن كل ما يفعله هو الشيء الصالح الذي يرضى عنه الله. بين أن صوت الضمير الخفي كان ينخزه ويقول له: أنت لا تفعل الصالح الذي تريده بل الشر الذي لا تريده فإياه تفعل. أنت مكبّل بقيود لا تستطيع أن تحطمها وتحيا باستقلالية وحرية. أنت في حاجة،

ثالثًا، إلى من يفك عنك هذه القيود لكي يطلق سراحك، أي من يفتديك من ربقة العبودية. فالحرية الحقيقية لها ثمنها الباهظ لأن الخطيئة هي عداوة لله، وليس في وسع أي كائن مهما بلغ من القدرة أن يسترد لك حريتك واستقلالك إلا من يقدر أن يرضي الله ويدفع ثمن فدائك وإلى الأبد.
إلا أن هذا الفادي يختلف بطبيعته ومواقفه ومقاصده عن ذلك الجبار العاتي، أي إله هذا الدهر، فهو لا يفتديك من عبودية ليزجّك في ظلمات عبودية أخرى، بل إنه ينقلك من حياة الذلّ والمهانة والخطيئة إلى مستوى البنوّة والوراثة.
يقول الوحي الإلهي: [فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا.]
وها هو بولس في رسالته إلى أهل غلاطية 6:4-7 يقول:
[ثمّ بما أنّكم أبناءٌ، أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا: "يا أبا الآب". إذًا لست بعد عبدًا بل ابنًا، وإن كنت ابنًا فوارثٌ لله بالمسيح.] (غلاطية 6:4-7)
فهذا الفادي المخلص، كما يقول الدكتور القس إبراهيم سعيد، إن [هذا الامتياز من حقيقة حقيقته هو سلطان البنوّة لله. إن المحرّرين أصبحوا بذلك أبناء الله بحق وسلطان وقد أعطوا هذا الحق والسلطان من الله مباشرة.] بل نحن نصبح مشاركين في جميع انتصارات هذا الفادي ونسير في موكب غلبته، ونحتفل معه. فهو هو المسيح نفسه يقول لتلاميذه: [أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به. لا أعود أسميكم عبيدًا، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي.]
فنحن المفديون، لسنا أسرى بل أسرى الحرية وباختيارنا لأننا أعلنّا ولاء المحبة والشكر لمن أنقذنا من عبودية الخطيئة، ونقلنا إلى حرية المسيح. وهي ليست حرية فوضويّة أو استقلالًا غوغائيًا بل حرية مسؤولية تنم عن شكرنا وخلاصنا ووفائنا لمن أحبنا حتى الموت وبذل نفسه من أجل خلاصنا.

المجموعة: آب (أغسطس) 2017