الدكتور القس لبيب ميخائيللم يكن المسيح مجرد إنسان، ولم يكن مجرد شخص عبقري، ولم يكن مجرد نبي
من الأنبياء، لقد علا عن هؤلاء جميعًا بمقدار ما يعلو الخالق من المخلوق.

من هو مولود بيت لحم؟

لم يعش على الأرض شخص استرعى انتباه البشرية وآثار تفكيرها في كل العصور كشخص المسيح الكريم.

فمنذ أن وُلد في بيت لحم إلى هذا اليوم وألوف من المفكرين والفلاسفة في كل العصور يتحدثون عنه، ويحللون شخصيته، ويحاولون أن يدركوا سر عظمة حياته الخالية من مسة الإثم.
وشخصية المسيح لا يمكن أن تُعرف عن طريق التفكير البشري، أو دراسة البيئة والظروف التي عاش فيها، ولكننا نراها ساطعة مثيرة على صفحات الكتاب المقدس، فهو وحده الذي يعلن لنا في وضوح من هو مولود بيت لحم.
يوم وُلد استقبلته الأرض في صمت ووجوم إذ كان الناس في شغل عنه بأعمالهم، فلم يجد عليه البشر بمضجع وجاد به عليه الحيوان.
لكن السماء كانت فيها حركة مباركة، فجاء منها ملاك وبشر جماعة من الرعاة قائلاً: "لا تخافوا! فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: أنه وُلد لكن اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب." (لوقا 10:2-11) "وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين: المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة." (لوقا 13:2-14)
وهذه الحركة السماوية الرائعة تؤكد أن هذا الوليد المجيد وليد سماوي وإلا فلماذا تهتم به السماء كل هذا الاهتمام بينما لم يتحرك إنسان في الأرض لهذا الوليد؟ يقينًا إنه "الوليد الإلهي" الذي قال عنه إشعياء في النبوة: "لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيبًا، مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام." ويلذّ لنا ونحن نعيّد عيد الميلاد المجيد أن نتتبّع إعلانات الكتاب المقدس التي ترينا في جلاء أن ذاك الوليد العجيب كان هو نفسه "الله ظهر في الجسد"، وأن المسيحيين حين يتعبدون للمسيح لا يسيرون في عبادتهم على غير أساس ولكنهم يتعبدون للذي خلق كل الأشياء بكلمة قدرته كما يعلن ذلك الكتاب المقدس الكريم. فاقرأ معي هذه الآيات:

1- قال ملاك الرب في حلم ليوسف خطيب العذراء القديسة: "فستلد ابنًا وتدعو اسمه يسوع. لأنه يخلص شعبه من خطاياهم." (متى 21:1) وقد علّق متى البشير بالروح القدس على هذه الكلمات بالقول: "وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا، ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا." (متى 22:1-23) فيسوع الذي قال عنه الملاك ليوسف هو "عمانوئيل" المذكور في نبوة إشعياء 14:7، الذي تفسيره "الله معنا"، لا يسع للمرء أمام هذا الإعلان السماوي إلا أن يقول مع الرسول: "عظيم هو سرّ التقوى، الله ظهر في الجسد."

2- في إنجيل لوقا الأصحاح الأول نقرأ عن يوحنا المعمدان هذه الكلمات:
"لأنه يكون عظيمًا أمام الرب، وخمرًا ومسكرًا لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس. ويردّ كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم. ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته." (لوقا 15:1-17) وتعلن هذه الكلمات أن يوحنا المعمدان يتقدم أمام الرب إله إسرائيل بروح إيليا وقوته لكي يهيّئ للرب شعبًا مستعدًا إتمامًا لنبوّة إشعياء القائلة: "صوت صارخ في البرية: أعدّوا طريق الرب، اصنعوا سبله مستقيمة." (لوقا 4:3) ويعرف كل دارس لكلمة الله أن يوحنا تقدم أمام المسيح ليعدّ له الطريق كما قال هو بنفسه: "أنا أعمّد بماء، ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه. هو الذي يأتي بعدي." (يوحنا 26:1-27) أي، هو الذي تقدَّمته أنا لأعدّ له الطريق. وبمقارنة بسيطة نجد أن يوحنا تقدم أمام الرب إلهه، وأن هذا الذي تقدم أمامه يوحنا كان هو "يسوع المسيح" وهذا يرينا أنه هو بذاته العَلِيَّة الله ظهر في الجسد.

3- في إنجيل لوقا الأصحاح الأول نقرأ أنه عندما ذهبت القديسة العذراء إلى أليصابات أم يوحنا المعمدان وسلّمت عليها "فلما سمعت أليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت أليصابات من الروح القدس، وصرخت بصوت عظيم وقالت: ‘مباركة أنتِ في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك! فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربّي إليّ؟’" (لوقا 41:1 و43) وإذا وضعنا في أذهاننا أن أليصابات كانت سيدة بارّة وتقيّة تعرف الرب وكلمته، وأنها كانت يهودية تعرف الوصايا العشر وتعرف الوصية "أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي." (خروج 2:20-3) ومع ذلك فهي تقول للقديسة العذراء: "فمن أين لي هذا أن تأتي أمّ ربي إليّ؟" لخرجنا بنتيجة منطقية هي: أن الوليد المجيد هو نفسه السيد الرب الإله الذي قال عنه الملائكة للرعاة: "وُلد لكم اليوم... مخلّص هو المسيح الرب." ولا شك أن كلمة الرب تعني "الله" كما هتف الشعب الإسرائيلي أمام إيليا على جبل الكرمل قائلين: "الرب هو الله! الرب هو الله!" (1ملوك 39:18)

4- في سفر أعمال الرسل يتقابل السيد الرب بعد موته على الصليب وصعوده إلى السماء مع شاول الطرسوسي اليهودي المتعصب المجدّف ويقول له: "شاول، شاول! لماذا تضطهدني؟" ويسأله شاول: "من أنت يا سيّد؟" وهنا نقرأ الكلمات: "فقال الرب: أنا يسوع الذي أنت تضطهده." فكاتب سفر الأعمال يؤكد لنا في لغة لا لبس فيها ولا إبهام أن يسوع هو نفسه "الرب"، ثم نرى عجبًا... نرى اليهودي المتعصّب الذي درس اللاهوت عند قدمَي غمالائيل يقول: "يا رب، ماذا تريد أن أفعل؟" (أعمال 4:9-6) وفي هذا اعتراف واضح بأن وليد بيت لحم، ورجل الجلجثة الذي مات على الصليب، هو نفسه الرب الذي أحبّ شعبه. "ليس لأحد حبّ أعظم من هذا: أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه."

5- في رسالة تيموثاوس الأولى نقرأ الآية العظمى:
"وبالإجماع عظيم هو سرّ التقوى: الله ظهر في الجسد، تبرّر في الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الأمم، أومن به في العالم، رُفع في المجد." (1تيموثاوس 16:3) والذي يدرس قرينة هذه الآية في عدد 15 يجد أن الرسول يتكلم عن كنيسة الله. وفي عدد 16 يتكلم عن الله المتجسّد، سرّ التقوى في حياة كل متجدّد في كنيسته.

6- ثم نقرأ كلمات الرسول بولس:
"ولكن الكل من الله، الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح، وأعطانا خدمة المصالحة، أي إن الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم، وواضعًا فينا كلمة المصالحة. إذًا نسعى كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله." (2كورنثوس 18:5-20) وفي هذه الآيات نرى أن الرسول يؤكد لنا: "أن الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه." وعندما يطالبنا بأن نسعى كسفراء عن المسيح يستخدم هنا لغة التشبيه لا لغة التأكيد فيقول: "كأن الله يعظ بنا." ففي المسيح كان الله نفسه مصالحًا للعالم، ولكن فينا، الله يستخدمنا كآلات ليعظ بنا. وما أكبر الفرق؟ بل ما أعظم الإعلان الذي نراه في هذه الآيات وهو يرينا أن المسيح هو نفسه "الله ظهر في الجسد" أو كما أوضح الرسول في سفر الأعمال قائلاً للأساقفة: "احترزوا... لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه." (أعمال 28:20) فما الذي يستطيع أن يقوله المكابر إزاء هذه الآية الصريحة؟

7- نقرأ في رسالة العبرانيين الأصحاح الأول:
"الله، بعد ما كلّم الآباء بالأنبياء قديمًا، بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه." ومعنى ذلك أن الله استخدم الأنبياء لتبليغ رسالته للآباء، أما في الأيام الأخيرة فجاء هو في ابنه ولم يقل الرسول "بابنه"، بل "في ابنه". وهذا توضّحه الآيات الواردة في رسالة كولوسي: "لأنه فيه سُرّ أن يحلّ كل الملء." (كولوسي 19:1) "فإنه فيه يحلّ كل ملء اللاهوت جسديًا." (كولوسي 9:2) حتى قال لنيقوديموس: "وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء." (يوحنا 13:3) وقال بذات السلطان للتلاميذ: "لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم."
فليتنا ونحن نعيّد عيد الميلاد نذكر أن الله في حبه للبشر "أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب،" ليعلن لنا عواطف قلبه ويُظهر لنا مكنونات حبه العظيم فنردّد صدى هذا الحب مرنمين:
يحبه قلبي، يحبه قلبي
يحبه قلبي، صدى لحبه

المجموعة: كانون الأول (ديسمبر) 2017