الدكتور صموئيل عبد الشهيدألقى نبيل نظرة كئيبة على حجرة والدته التي قضت نحبها منذ أسبوعين، فأحسّ بوحشة رهيبة تخيّم عليه حتى بدت له أن دنياه التي كانت تمور بالبهجة ذات يوم قد أصبحت غارقة في ظلمة دامسة، فأغمض عينيه وكأنه يحاول أن يجتث ذكريات الماضي التي راحت تلحّ عليه بقوة وانفعال، وتراءى له أن هذا البيت الصامت الموحش قد تحوّل في لحظة إلى بيت يضجّ بالحركة والضحك.

وأحاديث الأصدقاء الذين توافدوا لقضاء ليلة الميلاد، أو سهرة عيد الفصح وغيرها من مناسبات الاحتفالات الأخرى، ومن ثم يتحلّقون حول مائدة مدّت عليها أطايب الطعام، والفواكه والمشروبات، وتعالت في قاعة الاستقبال أصوات الترانيم، وموسيقى البيانو الذي كانت والدته تعزف عليه.
ولكن، منذ نحو عشر سنوات انقلبت الأحوال فجأة، وتبدّلت أجواء هذا البيت إذ اكتنفته كآبة غامرة وتولّاه صمت يحطم الأعصاب. أحسّ آنئذ بأعصابه تنوء تحت ثقل الذكريات، وشرعت العبرات تنهمر من عينيه، ولكنه عندما فتح عينيه ببطء وأخذ يتطلّع حوله فشاهد صورة والده ببزته العسكرية المعلّقة على الجدار فوق سرير الغرفة، أجهش بالبكاء بصوت عالٍ، وهتف:

- يا إلهي! لماذا حرمتني من والديّ؟ لماذا؟ ولكن لتكن مشيئتك!

كان والده نقيبًا في الجيش، وحين شبّت الحرب في البلاد واشتدّت المعارك بين المعتدين وحماة الديار، صدرت الأوامر إلى والده أن يتقدّم مع الذين تحت إمرته إلى الحدود للدفاع عن ممرٍّ استراتيجيٍّ ليحول دون تسلل الأعداء إلى داخل البلاد. وما لبثت أن نشبت معركة عنيفة في تلك المنطقة راح فيها والده ضحيّة وأصبح في مصاف الشهداء.
كان نبيل في الثالثة عشرة من عمره عندما بلغه مصرع والده في ميدان القتال، وتماثل له حينذاك أنّ دنياه قد أضحت مقبرة صامتة، فامتلأ قلبه بفراغ رهيب على الرغم من محاولات أمه التي أرهقتها الفاجعة. ولكنها نفسها كانت تقاسي آلامًا براحًا من جراء هذه الكارثة، فأخذت تنطوي شيئًا فشيئًا هي الأخرى على نفسها، وما لبثت أن اختفت معالم البهجة والاحتفالات التي كانت تملأ أرجاء المنزل، واستبدّ به صمت ثقيل مرعب. وسرعان ما انتابها انقباض شديد استسلمت له، وأخذت تقضي معظم أوقاتها في مخدعها، فوجد نبيل نفسه شبه وحيد، يقضي معظم أوقاته في المطالعة، أو الدراسة، وقلّ أن يغادر منزله للقاء أصدقائه. لقد أصاب عالمه خلل مخيف كبّله بالشعور بالوحدة والفراغ والقنوط. ثم أخذ يرى مظاهر الضعف تسري في جسد والدته فاعتراه القلق عليها، واستطاع أن يقنعها منذ أسبوعين بعد جهد أن تذهب إلى عيادة طبيب العائلة. وعندما دخلت إلى حجرة المعاينة لم يصدق الطبيب أن هذه السيدة هي أم نبيل التي كانت تفيض صحة وعافية، فقد تماثلت له وكأنها زهرة ذابلة مشرفة على الموت. وبعد أن انتهى من معاينتها، استدعى نبيل إلى غرفته الخاصة وقال له:
إن والدتك معرضة لخطر شديد، وأخشى أن تكون أيام حياتها معدودة.
لم يصدق نبيل ما تردد في مسامعه من تشخيص الطبيب لحالة أمه المرضية، فتساءل بصوت تعروه رجفة خفيفة:

- هل أنت واثق من ذلك يا سيدي الطبيب؟

- نعم، إلا إذا حدثت معجزة إلهية.

- ألا يمكن معالجة حالتها هذه؟

- إن حالتها النفسية في الحضيض، كما أنها مريضة بداء السرطان.

- ألا من أمل؟

- أخشى ذلك، فقد يبدو أن استشهاد والدك كان الضربة القاضية التي لم تستطع أن تتحمّلها.

أطرق نبيل رأسه، واعتراهما صمت حزين، ثم تساءل بنبرة خافتة:

- ما العمل يا سيدي الطبيب؟

- الانتظار والصلاة.

حدّق نبيل بالطبيب بنظرة مبهمة، وقال:

- الصلاة. هل تؤمن بالصلاة؟

أجاب الطبيب:

- صحيح أنا طبيب، ولكن مهارتي لا تستطيع أن تتجاوز الحدود المعينة لمقدرة الإنسان. ولكنني أؤمن ليس بالصلاة وحدها، بل برب الصلاة الذي هو قادر أن يجري المعجزات.

زمّ نبيل شفتيه، وقطّب جبينه، ثم حيَّ الطبيب، وانصرف إلى غرفة الاستقبال حيث كانت والدته في انتظاره.
في تلك الليلة في نحو الساعة التاسعة مساء، سمع صوت أمه يستدعيه، فمضى إلى مخدعها ونظر إليها مستفهمًا، فقالت له:

- اجلس هنا إلى جواري يا بنيّ!

فتهالك على المقعد المجاور إلى فراشها، وسألها:

- ماذا تريدين مني يا ماما؟

- أرجو منكَ أن تصغي إليّ جيدًا يا بنيّ، وأطلب إليك أن لا تنسى ما أقوله لك.

نظر إليها نبيل بعينين تترقرقان بالعبرات وقال وفي حلقه غصّة:

- تكلّمي يا ماما، ها أنا سامع!

- إنني أدرك يا بنيَّ أنني أقف على شفير الموت، وأن أيام حياتي باتت ضئيلة، وقبل أن يفوت الوقت أريد أن أطلب الصفح من الله ومنك.

- منى أنا؟ إنكِ لم تسيئي إليّ يا أماه، أو إلى الله.

- لا بل قد أخطأت إلى كليكما؟ فاصغ إليّ. ألا تذكر كيف كنَّا قبل استشهاد والدك نذهب دائمًا إلى الكنيسة في كل أحد ونصلي؟ ألا تذكر كيف كنا نجتمع في كل مساء ونقرأ في الكتاب المقدس ونتداول في الآيات التي طالعناها. ولكم كنت أنا ووالدك نسرّ بأسئلتك البريئة التي كنت تطرحها. وكنت دائمًا أصلي إلى الرب أن يحفظك، ويجعلك ابنًا له. ولكنني منذ وفاة والدك، شعرت كأن إيماني انهار، وأنني أصبحت أعاني من اليأس والوحدة، بل رحت أعاتب الله، وأتّهمه بالظلم. منذ تلك اللحظة ابتدأت أنحدر في هاوية مظلمة لا قرار لها... لقد توقفت عن الصلاة وقراءة الكتاب المقدس، وأهملتهما إلى حدّ كبير، وانكفأت على نفسي، أندب شقائي وتعاستي حتى وصلت إلى ما أنا عليه الآن. ولكن ليلة الأمس حدث ما لم أكن أتوقّعه: لقد شاهدت حلمًا أو رؤيا، رأيت فيها والدك ينظر إليّ بعتاب وحبّ ويقول لي:
يا زوجتى الحبيبة، ماذا فعلت بنفسك؟ لقد أصبحتِ على شفير الهاوية. أنا أعلم عمق حبك لي. ولكن لست وحدي الذي استشهد في الدفاع عن بلاده وأحبائه. أنا واحد من هؤلاء فقط! آه، لو تعلمين المكان الذي أتمتّع بوجودي فيه. لو كنت أدرك روعة هذا المكان في حضور سيدي وفاديّ لطلبت الموت من جديد. أرجوكِ، استيقظي من هذه الغيبوبة الروحية المظلمة، إنني في انتظارك... أنا مشتاق إليك."

ثم مدَّت يدها تربِّت على كفه واستطردت هامسة:

- يا بنيّ، إنني أطلب منك الصفح لأنني أهملتك، وأتوسّل إليك أن تتذكر تلك الأوقات العزيزة التي كنت تشاركنا فيها بالصلاة. إنني أترك هذه الوديعة بين يديك. هل تصفح عني يا بنيّ؟

لم يدرِ نبيل ماذا يقول، فقد استطاعت كلمات أمه النابضة بمشاعر قلبها أن تقشع الغمامة الكثيفة التي كانت تكفِّن ذهنه، وأحسّ آنئذ كأن هناك صوتًا خفيًّا يحثُّه على الركوع إلى جوار سريرها ليصلي لا من أجلها فقط بل من أجل نفسه أيضًا طالبًا الصفح والغفران. وعندما رفع رأسه كانت أمه قد فارقت الحياة. وفي تلك الليلة حدثت المعجزة التي أصبحت شهادة متألِّقة ونبراسًا مضيئًا في قصة خلاص نبيل.

المجموعة: كانون الأول (ديسمبر) 2017