الأخت أدما حبيبيالمرأة الفاضلة أو الأم المثالية، لهي نتاجٌ لأمٍّ مثاليةٍ سبقَتْها وأنجبتْها، تعبتْ وربَّتْها، وضحَّتْ فرَعتْها، وأحاطتْها في كنَفها، وظلَّلتْها بأجنحتها، حتى كَبُرتْ وترعرعتْ، وأنفقتْ لتعلّمَها وتلقّنَها الخلُقَ والأخلاق. نعم، هي التي أنشأتْها على خوفِ الله وحبِّه، لأنّ "مخافة الله هي رأس الحكمة" وقمتُّها. لذلك، حين نتكلم عن الأم المثالية لابدَّ لنا أن نذكر "الأصل" قبل الفَرْع، والجذرَ قبل الثمر، لأنَّ الأصلَ المتأصِّل فينا، هو الذي إيَّانا يحمِل.

أجل، إنها تمثّل نصفَ المجتمع وتربّيه. بل في لغة الله الخالق "النظيرة"، أي المثيلة والمساوية في القيمة والعقل والإبداع والخلْق والفكر، لأنَّها على صورة مبدعِها الأسمى، وصانعِها الأرقى الذي خلقَها على صورته هو ومثاله هو. نعم هي النظيرة المعينة التي يُعتمدُ عليها ويُركَنُ إليها، وهي السَّندُ والدفء والمودة كلّ المودة، هي الحب والعطاء الدائمان الَّلذان لا ينضبان.
قيل في الأم الكثير ووصفَها الشعراء فأبدعوا، وقال فيها الشاعر حافظ إبراهيم قصيدته المعروفة:
الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددْتَها
أعددتَ شعبًا طيب الأعراقِ
الأمُّ روضٌ إنْ تعـهدَه الحيا
بالــريِّ أورقَ أيـَّمـا إيـــــراقِ
الأمُّ أستاذُ الأساتذة الأُلى
شغلَتْ مآثرهم مدى الآفاقِ
أما القائدُ الفرنسي نابوليون بونابرت فقال عنها: إن المرأة التي تهزُّ السرير بيمينها تهزُّ العالم بيسارها.
والرئيس الأمريكي إبراهام لنكولن أرجع لأمه الفضل فقال: "إني مدينٌ بكل ما وصلتُ إليه، وما أرجو أن أصل إليه من الرفعة، إلى أمي الملاك."
ومهما كبُر الإنسان فإنَّه لا يزال يحِنُّ إلى أمِّه، ويفتقدها. وفي هذا قال الشاعر الفلسطيني المعروف محمود درويش: "أحنُّ إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي... وتكبر فيَّ الطفولة يومًا على صدر يوم أعشق عمري لأنِّي، إذا متُّ أخجلُ من دمع أمي."
وأنا اليوم، أحنُّ بالفعل إلى أمي التي هي أصلي وفصْلي وجذوري. وما أنا إلا نتاجٌ لأمٍّ مثالية سبقتْني أفخرُ بها أيَّما فخر، فهي الأصلُ الذي إيَّايَ يحملُ. لذا أشهدُ كابْنةٍ وزوجةٍ وخالةٍ وعمّةٍ، عن أمي الفاضلة والغالية (أغنيس أبو حطب) التي ذكراها تطيبُ لسمعي، لِما فيها من عطرٍ فوَّاح وعبِق. فقد وُلدَتْ أمي في (پاتِرسون، نيوجرسي)، هنا في أميركا، لوالديْن سوريَّين مغتربَيْن، رَحلا عن أرض الوطن سوريا في أوائل القرن العشرين وهما بعدُ في العَقْد الثاني من عمرَيْهما. وهنا عمِلا وكدَّا في معامل نسيج الحرير، في قلب پاتِرسون، وجمعا ثروةً صغيرة استطاعا من بعدها أن يبدآ عملَهما الخاص في حياكةِ الحرير. لكن، ما هي إلَّا سنوات قليلة، وبسبب الأوضاع الاقتصادية التي ألمَّت بالمجتمع كافة آنذاك، حتى خسرَ جَدّاي كلَّ ما عمِلا من أجله. وسرعان ما تدهور الاقتصاد مما أدَّى إلى الانهيار الاقتصادي الكبير في العام 1930. عندها، خسرتْ جدتي بالتالي صحَّتها حزنًا وقلَقًا، إلى جانب الخسارة المادية. وعليهِ رجعت العائلة مع أولادها الثلاثة إلى سوريا. وحين أصبحت أمّي، وهي الابنةُ الثانية في العائلة، أمًّا لعائلتنا المؤلفة من أولاد أربعة، وعندما وعيتُ أنا عليها، عرفتُ فيها البساطةَ والبداهةَ والتواضع، عرفتُ فيها النظامَ والترتيب، واللطفَ والإحسان. وعلى رأس كلِّ ذلك، عرفتُ فيها التضحية والمحبة اللتين لم يتوقَّفا يومًا قط. ولا زلتُ أذكر وأنا بعد في سنيَّ الأولى في المدرسة الإنجيلية في دمشق -التي نشأتُ على مقاعدها وتلقَّنتُ فيها العلم والمعرفة وعلى رأسها كلمة الله المقدسة- كيف أنَّ أمي أنفقتْ كلَّ ما ورثتْهُ من والديْها من إرثٍ نقدي، علينا، نحن الأربعة كأقساطٍ مدرسية، مقابلَ حصولِنا نحن على العلم في المدارس الخاصة.
وتكرّرتْ تضحياتُ أمي وقاستْ وعانتْ من أجلِنا الكثير. كانت أمي ذا خصالٍ حميدة ومميَّزة وخاصةً بصبرها وطول أناتها. قضت الليالي تخيطُ لنا الثياب، ليس لنا فحسب، بل للجيران والأقرباء والأصدقاء. وحين سمعتْ بشارة الخلاص بيسوع المسيح، الذي يخلِّص إلى التمام، كلَّ من يأتي إليه تائبًا عن خطاياه، فرحت جدًا، وفتحَ الله قلبها وآمنت واعتمدتْ وسائر العائلة أيضًا.
وبعد أنْ كبُرنا جميعًا وتزوَّجنا، عُدنا نحن الجيل الثاني مع عائلاتنا إلى أميركا، ورجعت هي أيضًا إلى منشئِها، وعاشت هنا معنا في كاليفورنيا مدةً فاقت الخمس عشرةَ سنة. كانت مُحبّة ومحبوبة من قِبَل الجميع خاصةً في عائلتها الكبيرة (الكنيسة). وحين ألمَّ بها المرضُ وفي سنواتها الأخيرة، لم تكن تتذمَّر قطّ، بل كانت البسمةُ تعلو وجهَها وتشكر كلَّ مَن قدَّم لها يدَ المساعدة. وأحيانًا كثيرة كانت تقول لي: اسمعي يا ابنتي، هناك ملائكة يُنشدون، ويرنِّمون ويقولون:
في الصليب في الصليبراحتــي بـــل فخـــــري
فـــي حيــــــاتــــــــي وكــــــذابعـــــــد دفـــــــن القبر
وحين فارقتْ أمي الحياة عن عمرٍ يناهز الرابعة والتسعين، منذُ أعوامٍ خمسة، كانت البسمةُ تعلو ثغرَها، ووجهُها ينِمُّ عن سلامٍ عجيب. نعم، أفتقدُكِ يا أمي وأحنُّ إليك وأقولُ لك في هذه المناسبة الجليلة:
"أماه يا غصنًا يانعًا أخضر، يتمايلُ بحُسنٍ وجمال أنضر، يستشفُّ عصارةَ الحياة من أمِّه الكرمة، فكَبُرَ وأزهرَ ثمارًا أوفرْ...
أماهُ أنتِ كرمةٌ أغصانُها اخضوضرت وأزهارُها أينعتْ، وعلى الكرمة الغصن ثبتْ، فأنبتَ وأثمرْ، والكرّام نقّاه فأثمر أكثر...
وكلُّ غصنٍ لا يثبتُ، لا يقدر أن يعطي من تلقائِه، ولا حتى شيئًا ضئيلا من ذاته،
فشكرًا للكرمة والكرّام، لأنهما أساسُ هذه الثمار، التي تتحلَّى بها أمي الغصنُ اليانعُ الأخضر!"
نعم، ليست "الأم" وحدها هي الأصل فقط، بل إنَّ كلَّ امرأة، أو فتاةٍ عزباء، أو معلمةٍ فاضلة، وكلِّ مربيةٍ للأجيال الصاعدة، وكلَّ مَن تزرع كلمة الله في القلوب الصغيرة، وكلَّ من تحتضنُ طفلًا وتواسي حزينًا، وتمدُّ يدَها للمحتاج، وتهتمُّ بمريضٍ كائنًا مَنْ كان، لهي أيضًا أمٌّ في القلبِ والوجدان.
لهذا نحيِّي السيدات جميعًا في عيدهن، وكذا مربيات الأجيال المؤمنات، لأنَّهنَّ معطاءات وودودات، والفضل وكلُّ المجد يعود لله الخالقِ الكريم الذي هو قمَّةُ البذل والعطاء، إذ أرسلَ يسوعَ المسيح، الابنَ الوحيد الذي كان في حضن الآب منذ الأزل، إلى عالم البشر وبذلَه من أجلنا أجمعين ليكونَ لنا معهُ شركة حيَّة من جديد. ولا تنسينَ أخواتي أنَّ "الأصل إيَّاكُنَّ يحمل"... وكل عام وأنتنّ جميعًا بألف خير.

المجموعة: حزيران (يونيو) 2017