القس بسام بنورةيستطيع الإنسان أن يروض معظم الحيوانات البرية، كما يحدث مثلًا عند ترويض أسد أو نمر أو فيل لتقديم عروض في ألعاب السيرك، حيث نشاهد دببة تقود دراجات، وأسودًا ونمورًا تقفز في حلقات نارية، وفيلة تقف على رؤوسها، وكلابًا تلعب الكرة، ودلافين ترقص وتقفز في الماء. وبالرّغم من هذه القدرة، إلّا أنّ الإنسان حتّى الآن لم يستطع أن يروض شيئًا صغيرًا جدًا يمتلكه، وهذا الشيء الصغير هو اللِّسان.

إن أهم ما يميزنا كبشر عن بقية المخلوقات من نباتات وحيوانات هو قدرتنا على النطق. فالكلام والقدرة على الاتصال والحوار مع الآخرين هما نعمة رائعة لنا من الله. ويوجد في الكلام الذي ننطق به قوة جبارة غالبًا لا ندركها. فكلامنا قادر أن يغير ويشكل حياة النَّاس إمّا للأحسن أو للأسوأ. ما أكثر الرجال الذين طعنوا نساءهم بكلمات أمضى من السيف! وما أكثر النساء اللواتي أدمين ومزَّقن قلوب أزواجهنَّ بألسنتهن الحادة! ما أكثر الأهل الذين دمّروا مستقبل أولادهم بكلمات قاسية! وما أكثر الأبناء الذين ملأوا قلوب آبائهم وأمهاتهم بالحسرة واللّوعة! وللأسف أقول: ما أكثر الكنائس التي مُسحت عن وجه الأرض بسبب حروب كلامية بين أعضائها. وكذلك، ما أكثر ما انقسمت الكنائس على مدار التاريخ بسبب أقوال هدَّامة.
كلامنا هو فضلة ما في قلوبنا، [فإنّه منْ فضْلة الْقلْب يتكلّم الْفم.] (متى 34:12) ويوجد بين النّاس من ينطق بكلمات الإيمان، ولكنه في الواقع يمثّل ويدّعي الإيمان، وسريعًا ما ينكشف أمام النَّاس، مع أنه مكشوف أمام الله منذ البداية. ومن لا يضبط لسانه، فإنه بحاجة إلى مراجعة حياته الروحية وتصحيح علاقته مع الله.
كل واحد منّا يفرح ويتشجع وترتفع معنوياته عندما يسمع كلمات وعبارات إيجابيّة مثل: [أنا أحبك... أنت إنسان عزيز عليّ... أشكرك جزيل الشكر... أنا معجب بشخصيتك... شكرًا لاتصالك وسؤالك عنّي... شكرًا لزيارتك لنا... شكرًا للسؤال عن أخباري... أنت رائع... أحب تسريحة شعرك... ملابسك جميلة ورائعة وجميلة عليك... أنت قمت بعمل ممتاز... هذا المكان لا شيء بدونك... لا يمكن التعويض عنك... مبروك النجاح... أنا أفتخر بك.]
وفي نفس الوقت، كل واحد منا يتضايق ويغضب ويشمئز وقد يصاب بالاكتئاب عندما توجّه إليه عبارات سلبيّة مثل: [أنا أكرهك... أنت مثير للاشمئزاز... أنت ثقيل الدم... ليتني مت ولا عرفتك... ليتك تموت ونرتاح منك... أنت تثير أعصابي... أريد أن أهجرك... لا أحد يهتم بك... من أنت أصلًا حتى أكلمك... سكوتك أحسن لك... شكلك غير لائق... لن أتحدث معك مرة ثانية... أنت منحط... أنت فاشل... أنت أناني... أنت مقرف... وغيرها من العبارات السلبيّة والقاسية واللاذعة.]
هذا هو حال البشرية: ننطق بكلمات كثيرة ومتنوعة، ولكننا في أحيانٍ كثيرة لا نفكر بقوة وتأثير هذه الكلمات على حياتنا وحياة الآخرين.
نقرأ في رسالة يعقوب 1:3-12 [لا تكونوا معلّمين كثيرين يا إخْوتي، عالمين أنّنا نأْخذ ديْنونةً أعْظم! لأنّنا في أشْياء كثيرةٍ نعْثر جميعنا. إنْ كان أحدٌ لا يعْثر في الْكلام فذاك رجلٌ كاملٌ، قادرٌ أنْ يلْجم كلّ الْجسد أيْضًا. هوذا الْخيْل، نضع اللّجم في أفْواهها لكيْ تطاوعنا، فندير جسْمها كلّه. هوذا السّفن أيْضًا، وهي عظيمةٌ بهذا الْمقْدار، وتسوقها رياحٌ عاصفةٌ، تديرها دفّةٌ صغيرةٌ جدًّا إلى حيْثما شاء قصْد الْمدير. هكذا اللّسان أيْضًا... نار! عالم الإثم... شرٌّ لا يضْبط، ممْلوٌّ سمًّا مميتًا... ألعلّ ينْبوعًا ينْبع منْ نفْس عيْنٍ واحدةٍ الْعذْب والْمرّ؟ ...]
في الآية الأولى، يحذرنا الله بلسان الرسول يعقوب بأن نكون حذرين عندما نرغب بأن نكون معلمين للآخرين، لأن المعلم سيقع تحت دينونة أعظم من دينونة الآخرين. فكلامه وتعليمه سيؤثر بكل تأكيد على عقائد وأخلاق وسلوك الآخرين، وبالتالي فمسؤوليته أمام الله عظيمة جدًا.
ربما يظن المعلم أن رتبته ودوره هامّان في الحياة. فهو كمعلم له امتيازات وسلطة ومركز ومهابة. وهو بذلك ينسى أن هذا المركز القيادي يعني أن عليه مسؤولية عظيمة أمام الله، وبأنه بالتالي يجب أن يتواضع ويشكر الله على ما أعطاه، ويكون حريصًا في كلامه ويضبط لسانه ويفكر بكل كلمة ينطق بها.
نكتشف في الآية الثانية أنه ليس المعلم فقط من قد يقع في الخطيَّة، بل أنّ كل واحد منا عليه أن يعترف بأنه يعثر ويخطئ في أشياء كثيرة، وخصوصًا خطايا اللِّسان العديدة والمتنوعة.
بعد ذلك نقرأ عبارة رائعة: [إنْ كان أحدٌ لا يعْثر في الْكلام فذاك رجلٌ كاملٌ.] أجل: من لا يخطئ من الرجال والنساء في كلامهم، فهو إنسان مسيحي ناضج في إيمانه وعلاقته مع الله. نقرأ في سفر الأمثال 23:21 [مَنْ يَحْفَظُ فَمَهُ وَلِسَانَهُ، يَحْفَظُ مِنَ الضِّيقَاتِ نَفْسَهُ.]
في الآيات 3-12، يقدم لنا الرسول يعقوب ستة صور عن اللِّسان، وهذه الصور والتشابيه تبين لنا مقدار صغر اللِّسان حجمًا وقوة تأثيره فعلًا:

اللجام:
يضع مروِّضو الخيول قطعة معدنية في فم الحصان تسمّى اللجام، وهذه القطعة الصغيرة تتحكم بقوة الحصان العظيمة. فراكب الخيل يتحكم بحركة الخيل من حيث الركض أو السير أو التوقف أو الرجوع إلى خلف بواسطة اللجام.

الدّفة:
يشبِّه الرسول يعقوب اللِّسان أيضًا بدفة سفينة أو باخرة. والدفّة هي عبارة عن عجلة صغيرة أو قضيب معدني قادر أن يتحكم بحركة سفينة هائلة قد تحمل آلاف المسافرين، أو مئات الأطنان من البضائع.
كل من اللجام والدفة يجب أن يكونا تحت تحكم وسيطرة يد قوية. وبنفس الصورة، يحتاج لساننا أن يكون تحت سلطان الله القدوس، فمن ألسنتنا تخرج كلمات للحياة وكلمات للموت.

نار:
في الآيات 5 و6، يشبّه الرسول يعقوب اللِّسان بـ [نار! عالَم الإثم] بين أعضائنا الجسدية. تصوَّر أن اللِّسان عالَمٌ بذاته في الجسم البشري، ولكنه عالَم الإثم لأنه مصدر لسقوط الإنسان بأكمله. لسان الإنسان يحرق الإنسان ويحطمه، وللأسف الشديد، إن نار اللِّسان التي تحرق كل الإنسان تُضرم [من جهنم.] أي، إن الشيطان هو مصدر كل شر ينطق به لسان كل واحد منّا.
تصوروا معي غابة من آلاف الأشجار عمرها مئات السنين، ومع ذلك فعود واحد من الكبريت كفيل بحرقها وتحويلها إلى رماد. فالنار قوة مدمرة جبارة. كذلك لسان كل واحد منا له نفس هذه القوة الجبارة على حرق النَّاس وحرق الذات وخراب البيوت والأسر والمجتمعات والكنائس والمؤسسات، وحتى الحياة نفسها.
تستطيع الكلمات أن تنتشر كالنار في بيوتنا وكنائسنا ومؤسساتنا وتدمر الجميع. لذلك علينا أن نتذكر قول النّبي داود [صُنْ لِسَانَكَ عَنِ الشَّرِّ، وَشَفَتَيْكَ عَنِ التَّكَلُّمِ بِالْغِشِّ.] (مزمور 13:34)

شر لا يضبط:
في الآيات 7-8 يذكرنا الرسول يعقوب بقدرة الإنسان على ترويض وضبط الكائنات الحية. فالإنسان دجَّن الحصان والحيوان والطّير والمخلوقات البحرية. واستطاع استخدام حيوانات كثيرة لخدمته. حتى الأسود والنمور روّضها الإنسان، ومع ذلك لم يستطع الإنسان أن يروِّض اللسان، فهو [شَرٌّ لاَ يُضْبَطُ، مَمْلُوٌّ سُمًّا مُمِيتًا.] إن اللِّسان دائم الحركة، فهو لا يستريح، ودائمًا يبحث عن ضحية جديدة. هكذا الأفعى السّامة والقاتلة، فهي لا ترحم من يقع بين أنيابها.

ينبوع:
يقدم لنا الرسول يعقوب صورة خامسة للسان وهي صورة النبع، وهذه الصورة تساعدنا لنفهم أنّه يستحيل علينا أن نبارك ونلعن بنفس اللِّسان في نفس الوقت. فالذي يلعن النَّاس لا يمكن أن تكون صلاته مقبولة أو صادقة. ولتوضيح هذه الثنائية أو التناقض فيما يخرج من بركة ولعنة من اللِّسان، يسأل الرسول سؤالًا يدعو إلى التأمل [ألعلّ ينْبوعًا ينْبع منْ نفْس عيْنٍ واحدةٍ الْعذْب والْمرّ؟] والجواب على هذا السؤال هو بالنفي. فلا يمكن لنفس ينبوع الماء أن يعطينا، وفي نفس اللحظة، ماءً عذبًا صالحًا للشرب، وماءً مرًا أو ملوّثًا لا ينفع لشيء.
أي، إن الرسول يعقوب يعلمنا بأنه كما أن نبع الماء الواحد يعطي نوعًا واحدًا من الماء، هكذا الماء إما أن يكون عذبًا أو مالحًا. كذلك علينا كبشر أن ننتبه إلى ما يخرج من أفواهنا، فلا نمثل الورع والتقوى والإيمان، ونبارك الله في محضر الآخرين أو في الكنيسة، ولكننا في حياتنا الخاصة نجدف ونلعن النَّاس ونشوِّه سمعتهم.

شجر مثمر:
الصورة الأخيرة في الآية رقم 12 هي صورة ثمار الشجر. فكما أن كل شجرة تعطي ثمارها الخاصة بها، كذلك اللِّسان يعطي ثمارًا تجسِّد حقيقة صاحبه. من التين نأكل ثمر التين، ومن الكرمة نأكل عنبًا. ومن ثمر لساننا إما أن يثمر كلام حياة وبناء، أو كلام موت ودمار.
عندما خلقنا الله أعطانا أذنين للسمع، وعينين للنظر، وفتحتي أنف للتنفس والشمّ. فنحن بآذاننا وعيوننا وأنوفنا نستطيع أن ندرك ما يدور حولنا، وفي نفس الوقت أعطانا الله فمًا واحدًا للتعبير عن الأمور التي نسمعها ونراها ونتنفس. فهل هذا يعني أن الله يريد منا أن نلاحظ وندرك الأشياء أضعاف ما نتحدث عنها ونعلق عليها؟
البقية في العدد القادم

المجموعة: تشرين الأول (أكتوبر) 2017