الدكتور صموئيل عبدالشهيد"لِذلِكَ يَجِبُ أَنْ نَتَنَبَّهَ أَكْثَرَ إِلَى مَا سَمِعْنَا لِئَلاَّ نَفُوتَهُ، لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْكَلِمَةُ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا مَلاَئِكَةٌ قَدْ صَارَتْ ثَابِتَةً، وَكُلُّ تَعَدٍّ وَمَعْصِيَةٍ نَالَ مُجَازَاةً عَادِلَةً، فَكَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاَصًا هذَا مِقْدَارُهُ؟

قَدِ ابْتَدَأَ الرَّبُّ بِالتَّكَلُّمِ بِهِ، ثُمَّ تَثَبََّّتَ لَنَا مِنَ الَّذِينَ سَمِعُوا، شَاهِدًًا اللهُ مَعَهُمْ بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَمَوَاهِبِ الرُّوحِ الْقُدُسِ، حَسَبَ إِرَادَتِهِ." (عبرانيين 1:2-4)
في هذه الفقرة من الآيات المقدسة يعلن لنا الوحي الإلهي عن أهمية كلمة الله وارتباطها الوثيق بشخص المسيح من حيث هو الله المتجسد الذي أخضع نفسه للطبيعة البشرية لكي يكون مماثلاً لنا في كل شيء بلا خطية.
لقد كان هذا الإخضاع الذاتي يحمل في طياته عملية إنقاذ عالمية تمتدّ في أصولها من الأزل وإلى الأبد. فهي تتفوّق في تأثيرها وفعاليتها وقوتها وتضحيتها على كل خطة بشرية أخرى حاول الإنسان ابتداعها لضمان الحياة الأبدية.
ويؤكد كاتب هذه الرسالة، بإلهام إلهيّ، على أهمية التنبّه إلى ما أعلنه الوحي الحق للجنس البشري، ولا سيما للمؤمنين الذين لم يثبتوا بعد في الإيمان الناضج بعد أن بلغتهم بشارة الخلاص. بل إنه يقوم بمقارنة مُدهشة بين هذا الإعلان الجديد وبين ما أعلنته الملائكة قديمًا. فإن كان الإعلان الملائكي القديم قد تثبّت حقًا فكم بالأحرى أن تتثبّت صحة وصدق الإعلان الجديد المنبثق من بين شفتيّ الإله المتجسد! بل أكثر من ذلك، إن الكاتب يشدد على موقف الله في القديم من التعدّي وارتكاب المعصية ضدّ الإعلان القديم وما أسفر عنه من عواقب وخيمة. لهذا نراه في الآية الثالثة يعالج الكاتب، عن طريق المقارنة، موقف الله من الذين يهملون دعوة الخلاص فيقول: "فكيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصًا هذا مقداره؟"
وهنا لا بدّ لنا من وقفة متأملة في هذه الآية لما لها من علاقة بما سبقها وتلاها من آيات لارتباطها الوثيق بالخطة الإلهية التي تمّ تنفيذها على الصليب.

أولاً: ثبات كلمة الله
إن كلمة الله ثابتة ومتأصّلة في الأبد لأنها سرمدية الطبيعة، لا فرق في ذلك إن تمّ إعلانها في العهد القديم أو في العهد الجديد، أو كان إعلانها عن طريق الملائكة والأنبياء، أو من خلال الرموز في الكفارات والشعائر، أو في الذبيحة العظمى في المسيح. فالإعلان الإلهي لا بدّ أن يتحقّق في الزمان والمكان لأنه صادر عن الله الذي لا يخلف بوعدٍ أو ينقض عهدًا. لهذا، علينا أن ندرك أهمية هذا الموقف الإلهي من الإنسان. إن الله لا يتعامل مع الإنسان سعيًا وراء اللهو والتسلية لأن رؤياه لا تقتصر على الماضي أو الحاضر أو المستقبل. إن رؤياه شاملة سرمدية تحيط بالزمن، لذلك فإن إعلانه أيضًا هو رؤيا شاملة وسرمدية وموقفه من الإنسان لا يطرأ عليه أي تغيير أو تعديل.

ثانياً: ثبات عدل الله
كما أن كلمة الله هي ثابتة ووعوده محقّقة، فكذلك عدله ثابت لا يعتريه تبديل، ومواقفه من الخطيئة هي أبدية الجوهر لأن عدله لا يتجزّأ، ولا يتناقض مع ذاته وصفاته، بل ينسجم كليًا مع طبيعة قداسته التي تمقت الخطيئة والفجور، واقتراف الآثام التي تثير سخطه. فالله قد خلق الإنسان على صورته ومثاله ليكون شاهدًا على قداسته، بل ليكون الإنسان نفسه مقدّسًا، لا يتدنّس بأدران الخطيئة. ولكن هذا الإنسان عصى ربه وغوى، فاستوجب الدينونة الرهيبة. إن الله لم يُقدِم على إدانة الإنسان من غير سابق إنذار أو تحذير لأنه إله العدل، لهذا نراه يطلعه على نواهيه ويترك له الخيار في اتّخاذ القرار الذي يرتئيه. غير أن الكبرياء وشهوة السلطة تملّكتا قلب آدم فسقط في أشراك إبليس، وبذلك أعلن عن تمرّده على تلك النواهي، فكان لا بُدّ للعدالة الإلهية أن تأخذ مجراها. وهكذا تشوّهت في الإنسان الصورة الإلهية التي أرادها الخالق أن تكون إحدى هذه السمات في الإنسان، أي الصورة التي أكرم بها الله آدم عن سائر مخلوقاته وبذلك دخلت الخطيئة إلى الوجود الإنساني، ونفّذ الله عدالته الأزلية.

ثالثًا: ثبات محبة الله
لم تكن العدالة هي الصفة الوحيدة الغالبة على طبيعة الله وإن كان لها دورها الهام في معاقبة الخاطئ والإيفاء بحق الدينونة. وقد أدرك الإنسان آنئذ مدى غضب الله على ما ارتكبه من شرٍّ، وما اجترحه من استهانة بشريعة الله. ولم يكن لديه أي عذر يتذرّع به أو ما يبرّر موقفه من جريمة العصيان، فمثلَ أمام الله في عراء روحي وجسدي إذ اكتشف آنئذ حقيقة طبيعته الساقطة. لم يكن أمامه أي مهرب للنجاة من مصيره الرهيب. حاول في بادئ الأمر أن يلقي اللوم على حواء التي أغرته على انتهاك حرمة وصية الله، ولكنه أمام قداسة الله أدرك أن أعذاره أوهى من خيط العنكبوت. لقد حُمّ القضاء، وأصدر الله حكمه العادل. أظلمت الدنيا في أعينهما، ووقفا وجهًا لوجه أمام الموت الروحي والجسدي. وكانت الخطوة الأولى في أحكام شريعة الله أنهما طُردا من الجنّة. بيد أن المحبة الإلهية أهابت به أن يكشف عن بعض ملامح خطة الخلاص. لم يكن الله ناقمًا على الإنسان بل كان ناقمًا على الخطية، بل أكثر من ذلك، كان حزينًا على صورته التي تشوّهت في الإنسان، هذه الصورة التي هي ملكه وحده، فتألّقت ومضة من الرجاء في غياهب هذه الظلمات عندما صنع الله لآدم وحواء مئزرين من جلدٍ ليسترا عورتيهما بدلاً من أوراق التين السريعة الجفاف والذبول، وبمعنى آخر إن هذه المآزر الجلدية كانت رمزًا لذبيحة الكفارة عن الخطية التي أخذت شكلها الرمزي في شريعة موسى. ولكنها أيضًا كانت عربونًا أبديًّا للذبيحة الكبرى التي تمّ إعدادها من قبل تأسيس العالم وهي ذبيحة الفداء والخلاص. كانت هذه خطة محبة فائقة يتعذّر على العقل البشري أن يستوعبها. لم تكن من صنع الإنسان، ولا من ابتداعه لأنها كانت خطة تشمل البشرية جمعاء، وبدت بعد ذلك بعض رموزها المختلفة في العهد القديم وكلها كانت تشير إلى عظمة الخالق الذي لم يترك الإنسان غارقًا في مستنقعات الخطية بلا رجاء. صحيح أن صورة الفداء لم تكن كاملة الجلاء في العهد القديم، ولكنها كانت تزداد لمعانًا إلى أن تمّ تألّقها عند تجسّد المسيح ابن الله، آخذًا صورة عبد ليفتدي الإنسان من عبودية الخطيئة وربقتها. وكان هذا التجسّد أعظم دليل على محبّته للإنسان على الرغم من بؤس الإنسان وشقائه، وتمرّده. لقد ظنّ الإنسان أن الله قد تخلّى عنه، فابتدع لنفسه آلهة أخرى، أصنامًا من صنع يديه عبدها واستغاث بها على الرغم من أن الله كان يرسل للعالم في الحقب الخوالي أنبياءه محذّرين وناذرين، معربًا بذلك عن محبته لأنه لم يكن يشاء موت الخاطئ، بل أن يرجع عن شرّه فيحيا. لقد بيّن الله محبته لخليقته البشرية وهي ما برحت ترسف في أصفاد آثامها لأن محبته كانت تتوق لكي يسترد الخاطئ علاقته بالله. وكان لا بد أن تحلّ اللحظة المحتّمة التي ينفّذ فيها الله خطته الأزلية ويشرّع أبواب الفداء أمام كل من يسعى للتحرّر من قيود آثامه؛ لم يكن في وسع أي كائن من مخلوقات الله أن يحقّق مطاليب الله العادل ويدفع ثمن العقوبة الباهظة. ولكن المسيح، بإرادة حرّة، ومحبة فائقة تسمو عن المدارك البشرية تطوّع أن يضحّي بنفسه ليكون الكفارة الأبدية. وكما يقول الكتاب المقدس: "لأنه هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية." (يوحنا 16:3)
كان الخلاص باهظ الثمن ويتطلب كفارة لا مثيل لها في التاريخ الإنساني؛ إذ كانت على الكفارة أن تكون كاملة القداسة، بلا عيب، يرضى عنها الآب السماوي، ويرى فيها تحقيق الدينونة العادلة. كفارة انطوت على كل مطاليب الله، وشرّعت أبواب السماء من جديد لكل تائب خالص النية والقلب.
ولكن هذا الفداء "المجبول" بالمحبة الإلهية هو ليس من نصيب الذين ما زالوا متمرّدين على دعوة المسيح للخلاص، ولا من شأن العصاة الذين يرفضون محبة الله وخطة خلاصه. فالخطوة الأخيرة في درب الخلاص تتوقّف على الإنسان، وعلى قبوله لفداء المسيح إذ "كيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصًا هذا مقداره؟"
إن عبارة "هذا مقداره"، لأَكبر برهان على عجز اللغة أو الوصف عن التعبير عن جوهر هذا الخلاص وطبيعته واتّساعه لأنه فوق كل استيعاب وتصوّر. أنت وحدك يا قارئي من يستطيع أن يقرر لنفسه أيّ مصير ينتظره.

المجموعة: كانون الأول (ديسمبر) 2018