القس يعقوب عماريلا أعلم لماذا يُسمّي البعض الأحد الذي يلي أحد القيامة بـ "الأحد الجديد". لا اعتراض لديّ على هذه التسمية، إنما هو تساؤل يمر بالبال ويحتاج إلى توضيح... لكني أعلم علم اليقين، ويعلم غالبية القرّاء أن هذا الأحد يُدعى لدى جميع الطوائف بـ "أحَدِ توما".

فتوما بما جرى معه أصبغ على هذا اليوم صفةً تُذكِّرُ بزلّةٍ وقع بها واستمرّ لبضعة أيامٍ قبل أن يتولّى يسوع معالجة الأمر بأسلوبه اللطيف والصريح وينقذ توما من مخاطر كان يمكن أن تخرجه من دائرة الإيمان، لو استمر على حاله.
لا بد أن نُذكِّر هنا بأن زلّة توما تلك مع أنه قالها بانفعال، لم تكن وليدة لحظتها، بل سبقتها أحداث قبل حوالي عشرة أيام، شاهد سيّدَه يُقْبضُ عليه ويُسَلّم لمحاكمة مهينة، ويُحْكم عليه ويُساقُ للصلب، وتُدقُّ المسامير في يديه ورجليه أمام العامة، ويموت، وتُطوى صفحتُه بهذا الأسلوب الوحشي المريع!
كان توما وغيره من أتباع يسوع اليهود يأملون أن مسيحهم الذي قهر الموت في حياته حين أقام لعازر بعد أربعة أيام من موته، وأقام ابن أرملة نايين الوحيد لأمه إذ كان حاملو النعش في طريقهم لدفنه، وخلق البصر لمولود أعمى، وشفى المقعد المشلول عند بركة سلوام، وأعاد البصر لابن تيماوس في أريحا، وغيرها الكثير من معجزات أعربت عن قدرة لم يتمتّع بها غيره من أنبياء، فكيف يضعف هكذا أمام زمرة من الجند يساندهم ويقف وراءهم مجموعة من الكهنة الحاقدين!
من هنا كانت (في رأي الكاتب) مشكلة توما وغير توما من أتباع المسيح من اليهود الذين بقيت آمالهم تحوم حول المسيح الذي سيؤسس ملكوتًا أرضيًا كباقي الشعوب يكون هو على رأسه.
ويلاحظ معي قراء الإنجيل أنه حتى في الثواني الأخيرة لوجود المسيح مع تلاميذه قبل لحظة صعوده إلى السماء، وهو معهم على جبل الزيتون، حيث باركهم وأعطاهم آخر توصياته قبل أن ينطلق إذ هيّأهم لاستقبال الروح القدس، لكنهم قاطعوه بسؤال يؤكد انشغالهم بقضيةٍ لا صلة لها بحديثه لهم لكنها كانت تشغل بالهم أشار إليها الكتاب: "أما هم المجتمعون فسألوه قائلين: يا رب، هل في هذا الوقت تردّ الملك إلى إسرائيل؟" بمعنى يا رب، يبدو أنك ستغيب عنا، ونحن إلى متى سننتظر؟! نريد أن نعرف متى سترد الملك لإسرائيل. (راجع أعمال 10:1)
فتوما عندما تأكد أن المسيح الذي أحبه قد مات دون أن يتحقق الحلم بتأسيس ملكوته على الأرض، فشل وغاب عن مجتمع رفاقه ولم يعد لديه شهية للعشرة معهم، مع أنه واحد من الأحد عشر تلميذًا، وهم النخبة لنشر رسالة المسيح.
حصلت معجزة القيامة في غياب توما عن جماعة التلاميذ، إذ ظهر الرب أولًا لمريم المجدلية، وكان معها مريم أم يعقوب، فكانت المجدلية هي أول من حمل الخبر السار للتلاميذ المجتمعين فأدهشهم الخبر! وبعدها ظهر لهم الرب ودخل عليهم والأبواب مغلَّقة وكلّمهم وتيقّنوا من رؤيته! وتوما في غيابه عن الساحة خسر البركة! وعندما أخبروه بأن المسيح قام وغلب الموت، قال: "إن لم أبصر في يديه أثر المسامير، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ."
وبقي توما على هذه الحال ثمانية أيام في غياب مستمر عن معشر المؤمنين فخسر فرحة الخبر، وخسر معه أن يكون في طليعة من ينادي بأن المسيح قام، حقًا قام!
واضح أن بعض التلاميذ تواصلوا مع توما ولم يتركوه على حاله يصارع في جفاءٍ روحي، بل كانوا يدعونه للحضور: "تعال يا توما. لا تغيب عن معشر إخوتك. لا بد أن يظهر لنا الرب مرة ومرات فتعال." أقنعوه أن يحضر فحضر، وربما جاء متثاقلًا بسبب موقفه العنيد. وكان ذلك اليوم هو الأحد الثاني بعد القيامة، أي بعد ثمانية أيام من معاناة توما.
هنا يذكر إنجيل يوحنا 26:20 "وبعد ثمانية أيام كان تلاميذه أيضًا داخلًا وتوما معهم. فجاء يسوع والأبواب مغلّقة، ووقف في الوسط وقال: [سلام لكم!] ثم قال لتوما (وكأن هذا الظهور كان خصيصًا لأجل توما): هات إصبعك إلى هنا وأبصر يديَّ، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنًا." كان الموقف محرجًا لتوما دون شك، ولكن إحْراج توما كان أفضل من أن يُدان!
قام توما وحضر بين يدي سيده وسجد له وقال معبِّرًا عن ندامته وتوبته: "ربي وإلهي."
ثم واصل يسوع خطابه لتوما وقال: "لأنك رأيتني يا توما آمنت! طوبى للّذين آمنوا ولم يروا."
واضح هنا أن هذه الطوبى لم تشمل توما لكنها شملت كل الذين آمنوا بالمسيح وتبعوه بالإيمان عبر الأجيال من كل شعوب الأرض. فهم آمنوا بالمسيح ربًّا وتوّجوه على قلوبهم دون أن يروه بالعيان. هذه الطوبى هي تهنئة لك ولي يا أخي المؤمن ويا أختي المؤمنة، من أي خلفية كنت، لكنك فتحت قلبك للمسيح وتغيّرت إلى مسيحي حقيقي مرتبط بعلاقة شخصية برب المجد. فطوباك! هذه تهنئة لك من المسيح نفسه سواء كنت من خلفية مسيحية أو غيرها، وهؤلاء كثر في هذه الأيام، والشكر لله على استنارة القلوب!
هنا نلاحظ أن أسلوب تعامل المسيح مع توما كان صريحًا ولطيفًا أيضًا، إذ تخلو كلماته من التهديد بالعقاب أو الوعيد بالاقتصاص، علمًا أن توما أخطأ، وتعبيره المثير للجدل فيه ما يعطي - إن جاز التعبير - شبهة ارتداد. فخطأه قاتل لو استمرّ على حاله، لكن الإله الذي نعبده كمسيحيين هو إله محبٌّ متميزٌ عن آلهة الناس. فإن سقطنا في خطأ ما، يهدي خطواتنا ويبكتنا، يرشدنا ويهدينا ولا يتركنا. يعطينا فرصة للإصلاح. في مثَلِ الخروف الضال، يذهب الراعي ويبحث عليه في الأودية وبين شقوق الجبال حتى يجده. فكيف يكون هذا مع أبنائه الذين فداهم بدمه؟ فإن أخطأوا لا يتوعّدهم بالسوء ولا يهددهم أو يتركهم فريسة للعدو، بل يحاورهم ويهديهم ويعالج ضعفاتهم، بلا تهديدٍ أو وعيد. ألله في المسيحية أب حنان، يهتم بشعبه.
وهذا ما تعامل المسيح به مع تلميذَي عمواس أيضًا كما سنلاحظ في إنجيل لوقا 24. فلكونهما من خلفية يهودية وقد شاهدا المسيح يُصلب ويموت ويُدفن في القبر، هالهما ذلك! فالذي علّقا عليه الآمال ليؤسس ملكوتًا أرضيًا قد مات، وبموته ماتت أحلامهما! فقررا أن يهجرا أورشليم فشلًا وانتكاسًا، ليعودا إلى قريتهما ويطويا صفحة الماضي بإحساس من الأسى. يقول إنجيل لوقا: "وإذ اثنان منهم كانا منطلقَين في ذلك اليوم إلى قرية بعيدة عن أورشليم ستين غلوة، اسمها عمواس. (11 كم شمال غرب أورشليم) وكانا يتكلمان بعضهما مع بعض عن جميع هذه الحوادث (المتعلقة بأخبار القيامة). وفيما هما يتكلمان ويتحاوران، اقترب إليهما يسوع نفسه وكان يمشي معهما. ولكن أُمسكت أعينهما عن معرفته. فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسين؟ فأجاب أحدهما الذي اسمه كليوباس وقال له: هل أنت متغرّب وحدك في أورشليم (مقطوع عن الناس) ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها في هذه الأيام؟ فقال لهما: وما هي؟ فقالا: المختصة بيسوع الناصري، الذي كان إنسانًا نبيًا مقتدرًا في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب. كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه." ثم عبّرا عن ضياع أحلامهما بعد موته كيهوديَين ينتظران الملكوت، فقالا:
"نحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل (يؤسس ملكوتًا أرضيًا). "ولكن، مع هذا كله، اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك. بل بعض النساء منا حيّرننا إذ كنَّ باكرًا عند القبر، ولما لم يجدن جسده أتين قائلات: إنهن رأين منظر ملائكة قالوا إنه حيّ!"
إلى هنا نلاحظ كيف أن يسوع تركهما يُعبِّران عمّا كان يجول في قلبيهما من حيرة وأفكار متضاربة وما كان لديهما من توقعات وآمال!
ثم قاطعهما الرب وقال: "أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء! أما كان ينبغي أن المسيح يتألّم بهذا ويدخل إلى مجده؟ ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يُفسّر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب. ثم اقتربوا إلى القرية... وهو تظاهر كأنه منطلق إلى مكان أبعد." فألزماه أن يبقى معهما لأن قلبيهما تعلّقا به بقوة فقبل ودخل معهما البيت. ولما اتكأ معهما ليأكل، أخذ خبزًا وبارك وكسّر وناولهما، فانفتحت أعينهما وعرفاه من هو، ثم اختفى عنهما.
فقال بعضهما لبعض: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا حين كان يكلمنا في الطريق وهو يوضّح لنا الكتب؟ فقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم، ووجدا الأحد عشر مجتمعين (وكان بينهم توما بعد أن آمن به) وشهدا للإخوة بما جرى وكيف عرفاه عند كسر الخبز.
المسيح قام، بالحقيقة قام!

المجموعة: نيسان (إبريل) 2018