الدكتور ميلاد فيلبساجتاحت الباحات الدولية موجات متضاربة بين مؤيد ومعارض للقوانين الاستثنائية داخل الدولة أو ضمن العلاقات الدولية. ولسوء الحظ تضاربت الآراء بدون جدوى، فما زالت هناك ضروريات تحتم استنباط المزيد من أساليب الردع وتقييد الحريات.

إن لوائح القانون ليست مجرد إسداء نصائح أو استشارات آنية أو اقتراحات فنية في مسائل مستعصية فقط، لكنها أوامر ناهية أو ملزمة تستهدف الصالح العام أو الخاص. ولذلك فإن القانون بصفة عامة يحمل بين طياته عنصرًا أخلاقيًا إن أردنا أو لم نرد، مما يفترض حسن النية وتطبيق مبادئ الأخلاق والشرائع الدينية. وهذه الأخيرة قد لا تكون شرائع مكتوبة بل فطرية، وليس ما يمكن تعلمه بل نحمله بين طيات أنفاسنا.
إن قانون الطوارئ على سبيل المثال، أو قانون مكافحة الإرهاب، أو فرض حظر التجوّل، أو قانون الحريات وحقوق الإنسان، يتطلب أساسًا تطبيق نظرية السيادة، واحترام السلطة، وصيانة الوحدة الوطنية، والمصالح المشتركة. قد يثير هذا بعض الفئات التي تعتبر أن الحرب والعنف هو الحل. وتكثر الشعارات وترفع اللافتات وتنظم المسيرات والإضرابات التي قد تتطور إلى مواجهات مع السلطة أو المقومات الأساسية الضرورية لحماية مصالح الشعب وتقويض البنائية التحتية للمجتمع المتحضر.

أين المشكلة؟


أو من أين نبدأ التطبيق؟


إن دراسة التاريخ والماضي والأعراف هي خير معوان على تصحيح جوهر الطبع البشري لاكتشاف نموذج السلوك الإنساني والالتزام بالواجب الأسمى. إن السر يكمن بلا شك في أن وعي الشعوب لم يكتمل مما جعل البعض يخلطون ما بين الدين ومفاهيم العقيدة، أو بين الحاجات الضرورية وعجلة التطور، وبين استخدام الله لتنفيذ مآرب شخصية أو دينية.
إن القانون لا يفترض عدم أهلية الإنسان إلا في حالات استثنائية، كما أن مبدأ النظام العام وتكرار الأحداث لا يخدم فكرة استثناء أحد من القانون. والقانون يحمي الحريات، والممتلكات، والتعبير عن الرأي، مثلًا، لأنه يفرض على جميع الرعايا نفس النص والعقوبة مما يحقق العدالة للجميع. نتيجة لما سبق، فإن العقوبات المفروضة على إحدى الدول عالميًا تهدف إلى إيجاد سلام دولي وتعاون مشترك بين الدول، وليس إثارة الحروب وانتهاك الحريات. إن مسؤولية الدولة أولًا هو توفير المطالب اليومية داخل الدولة وكبح أصحاب المطامع والمغرضين. وهذا يعني أن القانون يُبنى على المبادئ الأخلاقية والأعراف وتحسب النتائج المتوقعة وحصيلة التطبيق العملي. ومن هنا جاء المبدأ العام: "حد عن الشر واصنع الخير. اطلبِ السلامة واسعَ وراءها" (مزمور 34:14). لذلك قبل أن تسقط في مغبة القانون عليك أن تسأل: هل ما أعرفه من حقائق قانونية كافيًا وصحيحًا؟ هل هذه المعلومات القانونية تؤدي إلى وقائع سليمة؟ هل هذا المنحى أخلاقي قابل للتطبيق؟ والقانون لا يحمي المغفلين!
أرسل أحدهم إليّ رسالة تتضمّن تهديدًا مباشرًا لفئة من فئات الشعب، وأدركت لأول وهلة أنها رسالة من إنسان يجهل دينه وربه ودوره في مجتمع الأصحاء. وتذكرت نصيحة أحدهم: "اعزلوا الخبيث من بينكم." فلا يوجد دين يحضّ على القتل وسفك الدماء، وإلا فأين سماحة الأديان، ورسالة الإخاء، والحب، والتعقل، والثقافة، والسياسة، والتعايش السلمي؟
إن معنى الحرية يتضمن انكماشًا أو قيدًا للقانون بصفة مؤقتة، ولكن ليست كل الحريات صالحة في مضمونها. الحرية غير المنضبطة قد تؤذي. والحرية لا تعني الاستقلال لأن الحرية تتطلب الاختيار الواعي لخدمة الآخرين وإنماء المصالح القومية. ينبغي أن تُبنى الحرية على أسس أخلاقية. فالمرء ليس جزءًا منفصلًا عن الآخرين، لكنه موجود ذو علاقات تحتمها قواعد حياتية ومصيرية. وبالاختصار فإن الحرية والمسؤولية توأمان لا يفترقان.
في منتصف شهر إبريل 2008 قدّمت محاضرة في مؤتمر رابطة اللاهوتيين بأمريكا تحت موضوع "الحرب والعنف." كان بحثي عن "الحقيقة المشتركة: نقطة تقاطع بين العلم والدين والفلسفة." تناولت قضية الحرب والعنف من خلال هذه المقولة. وكان لا بد أن أتطرّق إلى مواجهة الإرهاب بكل أنواعه: بالحكمة، والدبلوماسية والسياسة الدولية العاقلة، وردع العصابات المسلحة باسم الدين، أو العقيدة، أو مواجهة الاحتلال، أو تسوية الخلافات الاقليمية، أو استرجاع الحقوق المسلوبة. إننا في عصر نحتاج فيه للتعاون والتفاهم وترك الأحقاد جانبًا. إن القوانين الاستثنائية ضرورة لا بد منها، لكن الشعوب نفسها تدفع ثمنها على حساب شعبها ورعاياها وقد يشمل ذلك أرضها. إن التعايش السلمي لا يعنى مطلقًا ترك الحقوق الشرعية، بل السعي نحو تقريب وجهات النظر بين الهيئات الوطنية المعنية بالأمر والقنوات الدولية المتخصصة من خلال المؤتمرات، والتوعية، والندوات، واللقاءات، حتى ينتصر الحق ويعم السلام في عالم الدماء والتحدي السافر. قال المسيح له المجد:
"كونوا حكماء كالحيات بسطاء كالحمام."
إن الحكمة تحلّ المشاكل المستعصية، والبساطة تقدّم الأساليب والطرق. إنها الطريق الوحيد لإعطاء المجال للفكر أن يعمل، ويدبّر، ويشرّع، ويضمن سلامة الوطن والمواطنين بعيدًا عن الرعونة والتهوّر حقنًا للدماء والعزلة الدولية.
و"طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعَوْن."

المجموعة: نيسان (إبريل) 2018